وُلدا من رحم ثقافة واحدة

من أقصى الصعيد إلى أقصى الشمال، من الضيق والاحتكاك البشري في أوسع طرقات البيت للنظام التركي والثقافة والفن، الطفل الذي تربي مُهمَلًا ومتروكًا لأشباحه وخيالاته للطفل الذي وُلد في أحضان الأم المثقفة التي تقص عليه من الحكايات ما يسعده أيما سعادة.

في العام 1889 يتنفس الطفل طه حسين -في بيت ريفي- أنفاسه الأولى، يقع السابع بين إخوته الـ 13، لأسرة تعاني الفقر والإهمال والضيق. يكافح الأب ليُلحِق أولاده بالأزهر لضمان مستقبل أفضل لهم يفخر بهم في القرية. يمرض طه ويشكو ألماً في عينه فيُرسَل إلى حلاق القرية ليضع له شيئًا ما في عينه يُفقِده بصره. وعلى الجانب الآخر كان الطفل توفيق -الذي ولد في 1898- يشكو من الرمد الصديدي في عينه اليمني ليذهب للطبيب الذي يئس من علاجه فيقترح عليهم الاعتماد على الحلاق، ولكن على عكس صديقه يُشفى.

يسافر طه من محافظة المنيا للقاهرة ليدرس في الأزهر، ويسافر توفيق من الإسكندرية إلى القاهرة ليدرس في المدرسة العليا ويلتحق بكلية الحقوق. كان طه أشد التزاماً وأكثر حرصاً على التعلم، أما توفيق فكان أكثر بوهيمية وتسكعاً بين المسارح والسينمات حتى انضم لفرقة جورج أبيض كممثل.

التحق طه بالأزهر وأتم الدراسة، ثم فتحت الجامعة المصرية أبوابها فكان من أول المتقدمين حتى سافر إلى باريس للحصول على شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون، أما توفيق فأكمل دراسته للحقوق وأرسله أبوه للحصول على الدكتوراه من باريس في الحقوق. [1]

فأما عن طه فكان كعادته مجد شغوف بالتحصيل ومثال للانضباط والالتزام، وأما عن توفيق فكان مثالاً لبوهيمية الفنان وتمرده، فترك دراسة الحقوق ودرس الآداب والفن وعاث بين مسارح باريس من شرقها لغربها وحجز مقعده في دور عرض السينما، فما كان أن عاد إلى مصر دون الحصول على شهادة الدكتوراه ليعمل وكيل نيابة في دمنهور، ويصبح طه حسين أول من يحصل على الدكتوراه في الجامعة المصرية.

تأثرا بالثقافة الفرنسية والفنون والآداب، فطه حسين اختار المنهج الفرنسي في الوضوح -أي التحليل والنقد- أما الحكيم فاختاره في العبارة البديعة واتجه للمسرح الفرنسي والموسيقى والفن. فكان الاثنان من الرواد في مصر؛ طه حسين من رواد النقد والأدب والحكيم من رواد فن المسرح التمثيلي.

ظهرت لدى الاثنين روح تمرد الفنان وثورته، بسبب الاحتكاك الأول لهم بمجتمع ما بعد المدرسة، فثار طه حسين على الأزهر ومناهجه، والحكيم ثار على دراسة القانون والتعمق فيه. [2]

فكيف تجمع الرجلان على مائدة واحدة وغداء واحد فوق جبال الألب؟

بين الاحتضان والاحتقان

في ثلاثينيات القرن الماضي كان العميد طه حسين رجلاً ذا كلمة وشأن، يرفع من قدر كاتب بكلمة ويُنهي مسيرة آخر بكلمة، فعندما أتى له الدكتور محمد حسين كامل والأستاذ حسين محمد بمسرحية لكاتب شاب يُدعى توفيق الحكيم لقراءتها ونقدها وهي مسرحية «أهل الكهف»، أعجب الدكتور بالمسرحية وكتب عنها مقالاً نُشر في مجلة الرسالة في العدد التاسع الصادر في 15 مايو 1933، أي بعد أسابيع من نشر المسرحية، ونُشر المقال مرة أخرى في كتابه «فصول في النقد والأدب»، ويقول توفيق الحكيم في كتابه «وثائق من كواليس الأدباء» عن ذلك -أي انتظار رأي طه حسين حيث كانت المسرحية حديث الوسط الأدبي آنذاك- يقول:

كل ذلك وكان طه حسين ساكتاً متربصاً، وفي ذات يوم بادرني الصديق الدكتور حلمي بهجت بدوي -وكان يومئذ من هيئة أعضاء التدريس بكلية الحقوق- بقوله: إن الدكتور طه حسين الذي كان يزامله في مجلس إدارة الكلية (كانت الآداب والحقوق آنذاك يجمعهما مجلس إدارة واحد) قال له: «سأكتب عن صديقك وسيكون لي معه حساب عسير». فقلت لحلمي: أرجوك أبعد عني هذا الرجل … الكتاب الآن قد كتب عنه بما فيه الكفاية، والمطبوع من الكتاب قد نفد.

وكتب طه حسين عن المسرحية بالفعل في مجلة الرسالة وأعاد نشر المقال في كتابه «فصول في النقد والأدب» حيث استهل المقال بقوله:

أما قصة «أهل الكهف» فحادث ذو خطر، لا أقول في الأدب العربي العصري وحده، بل أقول في الأدب العربي كله، وأقول هذا في غير تحفُّظ ولا احتياط، وأقول هذا مغتبطاً به مبتهجاً له، وأي مُحِب للأدب العربي لا يغتبط ولا يبتهج حين يستطيع أن يقول وهو واثق بما يقول إن فناً جديداً قد نشأ فيه وأُضِيف إليه، وإن باباً جديداً قد فُتِح للكتَّاب، وأصبحوا قادرين على أن يلجوه، وينتهوا منه إلى آماد بعيدة رفيعة ما كنَّا نقدر أنهم يستطيعون أن يفكروا فيها الآن!

وأشاد العميد بدور توفيق الحكيم الريادي والمسبق في فن المسرح، ما أسماه «القصة التمثيلية»، وأشار إلى أنها أول قصة تمثيلية مكتملة الأركان وُضعت في الأدب العربي. وعن الحساب العسير الذي هدَّد به العميد فكان عبارة عن خطأ لغوي لم ينتبه له الحكيم، وعقَّب عليه قائلاً: «إنه خطأ مطبعي وصحَّحه في الطبعة الثانية للمسرحية»، والعيب الثاني كان في أن قصصه للقراءة أكثر منها للتمثيل في المسرح المصري أو حسب وصفه «الملعب المصري». [3]

وما أن أشاد العميد بتوفيق حتى فُتحت له أبواب ما كان يحلم بها، حيث قال بأن طه حسين اختصر له الطريق عشرات السنوات بكلمته وإشادته به، فتحمَّس ونشر في نفس العام روايته «عودة الروح».

حيث يقول الناقد «رجاء النقاش» في مقاله «بين طه حسين وتوفيق الحكيم وجبران»: إن توفيق الحكيم من عاداته أنه يكتب لنفسه ويحتفظ بمؤلفاته وينشرها في الوقت المناسب لها، فنشر في العام 1933 مسرحية «أهل الكهف» وبعدها روايته «عودة الروح»، ثم في العام التالي 1934 نشر مسرحية «شهرزاد». فيكتب العميد ويشيد بالحكيم في بداية مقاله عن مسرحية «شهرزاد» قائلاً:

ليَقُلْ خصوم الأستاذ توفيق الحكيم ما يريدون، وما يستطيعون أن يقولوا، فلن يبلغوا في يوم من الأيام أن يُثبتوا أن هذا الكاتب لم يُحْدِث في الأدب العربي العصري حدثاً جديداً.

ولكن يختتم المقال بما يعكر صفو الحكيم ويجعله يرسل رسالة غاضبة للعميد، حيث قال:

وأنا أرجو ألَّا يَغترَّ توفيق بهذا الثناء الذي أهديه إليه صادقاً مخلصاً، وأود لو دفعه هذا الثناء إلى العناية بفنه، والتكميل لما ينقصه من الأدوات؛ فهو في حاجة إلى كثير من الجد والعناء، ومن الدرس والتحصيل؛ ليبلغ أشده في فنه هذا الجديد. هو في حاجة إلى أن يُكثِر من قراءة الفلسفة؛ ليقول عن علم ويفكِّر على هدى، وهو في حاجةٍ إلى أن يعنى باللغة ويتقنها؛ ليستقيم له التعبير عمَّا يعرض له من الخواطر والآراء.

فأرسل الحكيم رسالة غاضبة ساخطة على أسلوب العميد، يقول في نصها الذي نشره طه حسين في كتابه «فصول في النقد والأدب» قائلاً:

لستُ أسمح لأحد أن يخاطبني بلسان التشجيع، فما أنا في حاجة إلى ذلك، فإني منذ أمد بعيد أعرف ما أصنع، ولقد أنفقتُ الأعوامَ أراجِع ما أكتب قبل أن أنشر وأذيع. كما أني لستُ في حاجة إلى أن يُملي عليَّ ناقد قراءةً بعينها، فإني منذ زمن طويل أعرف ماذا أقرأ، وما إخالك تجهل أني قرأت في الفلسفة القديمة والحديثة وحدها ما لا يقل عما قرأتَ أنت، وما أحسبك كذلك تجهل أني أعرف الناس بما عندي من نقص، وأعلم الناس بما أحتاج إليه من أدوات، فأرجو منك أن تصحِّح موقفي أمام الناس، وألَّا تضطرني إلى أن أتولَّى ذلك بنفسي.

رد بعدها الدكتور طه عليه في مقال في كتابه «فصول في النقد والأدب» موضحاً أنه ينتقد الفن الباقي لا الشخص الفاني، وأخذ عليه لغته في رفضه التشجيع منه ويحذره من الغرور مهلك النفوس، واختتم مقالته بقوله:

أحب أن يعلم توفيق أني لن أردَّ عليه بعد الآن، ولن أحفل به إلا يوم يُخرِج لنا كتابًا نقرؤه، ويومئذٍ سأعلن رأيي في هذا الكتاب سواء رضي توفيق أم سخط، وأنا أرجو أن يكون رأيي في كُتُبه المقبلة حسناً كرأيي في أهل الكهف وشهرزاد. وأرجو بعد هذا كله أن يتدبَّرَ الكتَّاب والشعراء هذه القصة التمثيلية، فإن فيها عِبَراً وعظات، وإن أمثالها مع الأسف في مصر ليس بالقليل.

وما عَمَقَ الخلاف بينهما عندما أبدى توفيق الحكيم عزمه على إصدار طبعة ثانية من مسرحية «أهل الكهف»، أبدى طه حسين رغبته في كتابة مقدمة لها قبل خلافهما على مسرحية «شهرزاد». حيث يرى طه حسين أن المقدمات هكذا تساعد الكُتَّاب وتعطي الثقة للقارئ في الكاتب الجديد، فكتب مقدمة لديوان «الخليل» للشاعر مطران خليل مطران، ولكتاب «المرآة» لعبد العزيز البشري، وكتاب «فجر الإسلام» لأحمد أمين.

أما عن الحكيم فلم يتحمس لتلك المقدمات، وكان يكرر رفضه للمقدمات في قوله لصديقه «طاهر راشد» الذي نشره في كتابه «وثائق من كواليس الأدباء»:

أما المقدمة فليس عندي ما أقوله سوى ما قلته في القصة نفسها، وأما أن يقدم القصة أحد كبار الأدباء المشهورين في مصر كما هو المُتبع فهذا أمقته، لأنك تعلم أنني رجل مخلص صريح، وأن أولئك الكُتَّاب المشهورين قلما يقرؤون ما يُقدمون له من كتب، وإن عملي إن هو إلا عمل يمثل شبية اليوم الصريحة المخلصة التي تسعى إلى العمل المجدي لا إلى الشهرة الفارغة، لذلك لا تجدني مُصراً على عدم التمحك في الكُتَّاب المشاهير لأحظى بمقدمة لا تُظهِر إلا نفاق كاتبها وجهله بالقصة التي يكتب عنها.

وما رواه العميد عن هذه الواقعة في كتابه «فصول في النقد والأدب» تدل على دماثة خلقة وسماحته المتناهية حيث قال:

ونتحدث عن أهل الكهف وعن طبعة ثانية تُذاع بين الناس، فأقترح أنا أن أقدِّمها إلى الجمهور، ويُظهِر الأستاذ وأصدقاؤنا الرضا بذلك والابتهاج له. ثم يلقى الستار ويُرفَع وقد تمت الطبعة الثانية من أهل الكهف، وأبطأت أنا بالمقدمة أسبوعين أو نحو أسبوعين، فيُنشَر الكتاب بغير مقدمة، وبغير أن يتحدَّث إليَّ أحدٌ في ذلك؛ فيسوؤني ذلك بعض الشيء، فيسعى إليَّ الأستاذ في منظر جديد، ويعتذر إليَّ بمحضر من بعض الأصدقاء، فأسمع منه، وأبسم له، وأتجاوز عن استعجاله.

وكعادة توفيق الحكيم في الاندفاع، فعندما راجع نفسه ووجد أنه أخطأ في حق الرجل أرسل له رسالة نشر نصها الكاتب «إبراهيم عبد العزيز» في كتابه «أيام العمر… رسائل خاصة بين طه حسين وتوفيق الحكيم»، يقول فيها الحكيم: [4]

إني أتألم بحق، بعد التفكير… اتضح لي أني مخطئ، كان عليَّ، على الأقل أن أستشيرك قبل أن أنشر كتبي… ما رأيك في تصرفي؟ الذي يؤنبني أكثر هو ما أبديت من لطف في العفو عني بكل هذا الكرم. إنك في الحقيقة فنان عظيم في أعماقك، هذا مؤكد وأنا أعترف أني لا أتمتع بمثل هذه الروح، أنا لست جديراً بالفن ولا بك.
والآن ها هو قراري… إذا ظللت غاضباً مني فسأتخلى عن الفن وعن كل سيرتي الأدبية.
المخلص: توفيق الحكيم.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. طه حسين، “الأيام”، مؤسسة هنداوي، 2013. (ص 14، 21، 91).
  2. إبراهيم عبد العزيز، “أيام العمر… رسائل خاصة بين طه حسين وتوفيق الحكيم”، مكتبة الأسرة، 2003. (ص 18، 19، 20، 21).
  3. طه حسين. “فصول في النقد والأدب”، مؤسسة هنداوي، 2013. (ص 85، 101، 104، 114، 115، 111، 112).
  4. إبراهيم عبد العزيز. “أيام العمر… رسائل خاصة بين طه حسين وتوفيق الحكيم”، مرجع سبق ذكره. (ص 26).