منذ اندلعت الحرب الروسية ضد أوكرانيا قبل نحو أربعة أشهر، توجهت أنظار العالم -وفي القلب منه القوى الغربية– نحو منطقة أخرى قد تندلع فيها حرب لا تقل ضراوة عن نظيرتها الروسية، بل وربما تكون بداية حرب عالمية ثالثة، ولسوء حظ الغرب تقع في شرق المعمورة وطرفها الأول -كما روسيا- دولة عظمى، ألا وهي الصين، وضد منطقة متمردة على سلطتها، ألا وهي تايوان، الجزيرة الصغيرة الواقعة قبالة سواحل الصين، غير أنها تختلف عن أوكرانيا في أنها جزء من بلاد التنين وليست جزءًا سابقًا من البلاد، كما كانت أوكرانيا بالنسبة للاتحاد السوفييتي المنهار.

وخلال الأيام الأولى من الحرب الروسية–الأوكرانية، نفذ الجيش الصيني مناورات ضخمة في بحر الصين الجنوبي، اعتبرها قادة الدول العظمى موجّهة ضد تايوان، فيما رفعت الولايات المتحدة من استعداد قواتها في آسيا، خاصةً بوارجها الحربية الموجودة، وصرّح مستشار الأمن القومي الأمريكي جاك سوليفان منتصف إبريل/نيسان الماضي (2022)، أن أمريكا ستبذل كل ما في وسعها لمنع ضم الصين لتايوان، فيما أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال جولته الآسيوية في اليابان وكوريا الجنوبية، أن أمريكا ستتدخل عسكريًا حال شنّت الصين عدوانًا على تايوان، مُعتبرًا أن هذا الأمر «لعبٌ بالنار».

جاء الرد الصيني على كلام سيد البيت الأبيض حادًا ومتحديًا في آن واحد، فأصدرت الخارجية الصينية بيانًا رفضت فيه تصريحات بايدن، مُعللة ذلك بأن ما بين الصين والشطر المتمرد ضدها أمر داخلي، لا يحق لأمريكا أو غيرها من دول العالم الخوض فيه، وجدّد وزير الدفاع الصيني خلال القمة التي جمعته بنظيره الأمريكي في سنغافورة في العاشر من يونيو/حزيران 2022، رفض بكين للتدخل الأمريكي الصارخ في شئون الصين الداخلية، مُطالبًا الأمريكيين -في الوقت عينه- بوقف تصدير السلاح لتايوان، ومُهددًا بأن الصين ستشن حربًا لبسط سيطرتها على تايوان إذا لزم الأمر.

العلاقة بين الصين والجزيرة المتمردة على سلطتها تعود لعام 239 قبل الميلاد، وخلال تلك الفترة أرسل إمبراطور الصين قوافل استكشافية للاطلاع على هذه المنطقة، وبعد هذه الرحلة بدأت هجرة الصينيين إلى تايوان، بعدها ضمّت الصين الجزيرة لتصبح جزءًا من أراضيها.

تعرضت تايوان في القرن السابع عشر للاحتلال الهولندي، نظرًا لأهمية موقعها في تثبيت أقدام شركة الهند الشرقية الهولندية في آسيا، في محاولة من هولندا للقضاء على منافسيها الإسبان والبرتغاليين في القارة الصفراء.

وبالرغم من الإغراءات التي قدّمها الهولنديون للصين المرتبطة باتفاقات تجارية مع البرتغال، إلا أن الإمبراطور رفض العرض الهولندي وتمسك باتفاقياته السابقة. وبعد فشل الجزرة لجأ الهولنديون للعصا ونجح قائد القوات الهولندية في آسيا «فان فارفايك» في احتلال الجزيرة عام 1624، واستمر الاحتلال حتى 1661. قمعت خلاله القوات الهولندية الكثير من الانتقاضات التايوانية، لكن الصين قلبت الطاولة على الهولنديين وحاصرت قواتهم قبل انسحابهم صاغرين.

استمرت السيطرة الصينية على تايوان ما يربو على قرنين وربع القرن، زادت خلالها هجرات قبائل هوكلو المنحدرة من منطقة فوجيان الصينية، لكن دوام الحال من المحال، إذ اندلعت حرب طاحنة بين الصين واليابان في الخامس والعشرين من يوليو/تموز 1894، على خلفية نزاع العملاقين الآسيويين على السيطرة على مملكة جيرسون الكورية، غير أن كفة بلاد الشمس المشرقة رجحت في نهاية الأمر على كفة التنين الصيني، الذي اضطر بعد هزيمته للتنازل عن تايوان في إبريل/نيسان 1895.

بعد تغير النظام في اليابان من استبدادي لديمقراطي، سلّم اليابانيون تايوان مرة أخرى إلى الصين في أكتوبر/تشرين الأول 1919، وكنوع من استمالة التايوانيين للحفاظ على سيطرة الصين على الجزيرة الإستراتيجية، منحت الحكومة المركزية في بكين سكان الجزيرة تمثيلًا في مجلس النواب وكذلك في الهيئة التشريعية، ووافقت الحكومة الصينية على مطلب سكان تايوان الأهم في ذلك الوقت، وسمحت بانتخابات محلية لتشكيل المجالس البلدية عام 1935.

في السابع من يوليو/تموز 1937 غزت اليابان الصين مجددًا، ولكنها لم تكتفِ هذه المرة بالسيطرة على تايوان، بل ابتلعت الصين بأكملها، وأجبرت التايوانيين على الالتحاق بالجيش الياباني في مناطق أخرى من آسيا.

وبعد هزيمة دول المحور في الحرب العالمية الثانية، والتي شكلت اليابان إحداها، أقر مؤتمر الحلفاء في يوليو/تموز 1945 تجريد اليابان من مستعمراتها، عقابًا لها على جرائمها خلال الحرب العالمية الثانية، ومنح الحلفاء التنين الصيني الضوء الأخضر لحكم تايوان، واعتقد التايوانيون أن عهد المتاعب قد ولّى، غير أنهم كانوا على موعد مع متاعب مزمنة ستستمر إلى يومنا هذا.

اندلع قتال حامي الوطيس بين قوات الشيوعيين بقيادة «ماو تسي تونج» ضد حكومة «تشين كاي شيك» قائد قوات الكومينتانج (القوميين)، بعدما أجّل الاحتلال الياباني للصين حسم المعركة، وانتهى المطاف بتشيك وقواته البالغة مليونين ونصف المليون مقاتل هاربين إلى تايوان، ولم يأبه ماو المنتصر لمصير المهزومين أو قائدهم، وأعلن في الأول من أكتوبر/تشرين الأول 1949 قيام جمهورية الصين الشعبية، لكن متاعب الحكم بدأت مبكرًا.

بعد فرار تشيك، أعلن قيام جمهورية الصين في تايوان، وأعلن تايبيه عاصمة مؤقتة للصين، وأكد أنه رئيس الحكومة الشرعية لـ «جمهورية الصين الوطنية» كما أطلق عليها. استفز تصرف تشيك ماو، فجهّز حملة عسكرية عام 1950 لإخضاع تايوان والقضاء نهائيًا على تشيك وزمرته، لكن عاد جيشه بخفي حنين.

انتبه الغرب بزعامة الولايات المتحدة للخلاف الصيني-الصيني، ووجدها فرصة ليضرب عصفورين بحجر واحد: محاربة الشيوعية كون نظام بكين مواليًا للسوفييت، وإيجاد موطئ قدم في جنوب شرق آسيا، تلك المنطقة الحيوية الغنية بالموارد ذات الأهمية الإستراتيجية.

منحت أمريكا نظام تشيك المناوئ للحكم الشيوعي مقعد الصين في الأمم المتحدة ومقعدها الدائم في مجلس الأمن، كما أسبغت حمايتها العسكرية بموجب قرار «هاري ترومان» الرئيس الأمريكي حينئذ، مُستغلًا تواجد القوات الأمريكية في آسيا خلال الحرب الكورية في يونيو/حزيران 1950، ووقف الأسطول السابع للبحرية الأمريكية في مضيق تايوان حجر عثرة أمام أي تحرك صيني.

طمأن الأمريكيون نظام تشيك أنهم سيتمتعون بحكم ذاتي، ووقفت واشنطن موقف المتفرج، بينما دعّم التايوانيون العديد من حركات التمرد ضد النظام الشيوعي الحاكم داخل الصين، لكن نظام ماو تسي تونج لم ييأس من إخضاع الجزيرة المارقة، وكشّر عن أنيابه عام 1954.

شنّ الجيش الصيني التابع للشيوعيين هجمات مكثفة على عدد من الجزر التابعة لتايوان في يناير/كانون الثاني 1954، ثم كانت الضربة الموجعة بمهاجمة جزيرة كينمان، وهنا فرضت البحرية الأمريكية حصارًا بحريًا على الصين الشعبية لحرمان الشيوعيين من مصادر التمويل التي تمكنهم من الاعتداء على تايوان.

نفّذت بكين عمليات عسكرية أكثر شراسة ضد تايوان عام 1958، باءت كسابقاتها بالفشل، وامتنع الأمريكيون عن التدخل خشية اندلاع حرب مع الصين، وهم الخارجون لتوهم من حرب أنهكتهم، وعوضًا عن ذلك سن الكونجرس في ذلك العام قانون العلاقات مع تايوان، ليُمكِّن إدارة «دوايت أيزنهاور» من مساعدة تايوان للدفاع عن نفسها ضد الصين.

مع تيقن الأمريكيين من عدم قدرة القوميين القابعين في تايوان من العودة للحكم، منحت مقعدي تايوان في الأمم المتحدة ومجلس الأمن للصين الشعبية عام 1971، وفي الرابع عشر من فبراير/شباط 1972 زار الرئيس الأمريكي نيكسون الصين، ودشّن العلاقات الدبلوماسية معها، والتي انتهت بتبادل السفراء بين البلدين عام 1979 خلال حكم «جيمي كارتر»، الذي غيّر الكونجرس خلال عهده قانون العلاقات مع تايوان، ليصبح قانون الدفاع المشترك، لكن لم تُغيِّر واشنطن سياستها تجاه تايوان، واستمر دعمها للتمرد على الصين وتسليح تايبيه للتصدي لضمها قسرًا لبكين.

بدأ ضباب العداء بين تايبيه وبكين ينقشع في أعقاب نهاية الحرب الباردة، فقد اتفق الجانبان عام 1992 على وجود صين واحدة وإن اختلف التفسير، فقد اعتبر الصينيون أن ذلك يعني وجود حكم ذاتي لتايوان تحت سيادة بكين، في حين اعتبره التايوانيون إقرارًا باستقلالهم.

توتر الوضع مجددًا عام 1996، عندما حاول الصينيون السيطرة على تايوان بالقوة، لكن فشلت المحاولة مجددًا وكاد الصينيون يتصادمون مع الأمريكيين، واستغل التايوانيون موافقة بكين على حكم ذاتي وانتخبوا رئيسًا لهم عام 2000، هو «تشن شوي بيان»، وخلال فترة حكمه، تمتعت تايوان بالصين بعلاقات طيبة فيما بينهما، حتى وصلت الاستثمارات التايوانية في الصين إلى ستين مليار دولار سنويًا، لكن سرعان ما توترت الأجواء بقدوم رئيسة ترفع راية الاستقلال عن بكين، هي «تساي إنج ون»، وهنا بدأت الصين تستعد للحظة فرض الأمر الواقع.

إذا نجحت الصين في مبتغاها فستحقق العديد من المكاسب؛ أولها إبعاد الولايات المتحدة عن محيطها الجغرافي بزعم الدفاع عن تايوان بما يمثله من تهديد للأمن القومي الصيني، وثانيها زيادة الدخل القومي الصيني ما سيزيد من الثقل الاقتصادي لبكين حول العالم ومن ثَمَّ الثقل السياسي، وأخيرًا منع تكرار نموذج تايوان في بقية مقاطعات الصين الراغبة في الانفصال كالتبت وشينجيانج ما سيؤدي مستقبلًا لانفراط عقد البلاد.

أمّا الولايات المتحدة فستحاول بكل ما أوتيت من قوة منع الصين من تحقيق مبتغاها، حفاظًا على مصالحها في تلك المنطقة الحيوية، ورغبةً منها في البقاء على عرش العالم أطول فترة ممكنة. وحتى يتضح الخيط الأبيض من الخيط الأسود، سيظل الترقب سيد الموقف حتى إشعار آخر.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.