في 30 يناير 2022 رفضت محكمة أمريكية استراتيجية الإفلاس التي حاولت بها شركة جونسون التهرب من عشرات آلاف القضايا وتعويضات بمليارات الدولارات على خلفية اتهامات بتسبب بودرة التلك التي تنتجها الشركة بالتسبب في إصابة مستخدميها بالسرطان. وهي القضية التي أثارها على نطاق واسع تحقيق أجرته رويترز ونشرته في 2018، ما أثار ردود أفعال واسعة. وبالرغم من إصرار جونسون على أن منتجاتها آمنة، وأنها تنوي الاستئناف على رفض المحكمة طلب الإفلاس، فإنها أعلنت إيقاف إنتاج بودرة التلك.

وتعد بودرة التلْك واحدة من أشهر مستحضرات العناية بالبشرة، والتي لا يخلو منها بيت، سواء أنواعها الرخيصة المحلية الصنع أو تلك التي تحمل العلامة التجارية لأحد عمالقة الدواء العابرين للحدود. التلْك الذي هو مركب يتكون من تبلور معدني الماغنيسيوم والسيليكا مع الهيدروجين والأكسجين في جزيء بلوري، يستخرج من باطن الأرض مثله مثل بقية المعادن، النفيس منها والرخيص، يدخل البيوت في هيئة بودرة للأطفال تستخدم لتقليل التهابات الجلد عبر قدرتها على امتصاص الرطوبة، كما تدخل في مستحضرات التجميل النسائية لأغراض عديدة.

على جانب آخر، يتكون الأسبيستوس من السيليكا بشكل رئيسي، ويتواجد في شكل بلوري قريب الشبه من التلْك، وفي أحيان كثيرة، يتواجد التلْك والأسبيستوس بالقرب من بعضهما في مناطق الاستخراج، ما يجعل احتمالية اختلاطهما واردة الحدوث بشكل كبير، وعلى العكس من التلك، فإن الأسبيستوس مرتبط مباشرة وبشكل رئيسي بإمكانية تسببه في أنواع عديدة من السرطان وعلى رأسها سرطان الغشاء البلوري المحيط بالرئة الذي ينتج عن استنشاق غبار الأسبيستوس.

طبقًا لـ FDA يعود أول ربط بين استخدام بودرة التلْك حول المناطق التناسلية والإصابة بسرطان المبيض إلى مطلع الستينيات، كما تربط دراسة حديثة بين ارتفاع احتمالية الإصابة بسرطان المبيض واستخدام بودرة التلك بنسبة 33 %. وبحلول السبعينيات, بدأت الخيوط تتجمع عند احتمالية تلوث منتجات التلْك بالأسبيستوس نظرًا لما ذكرنا بالأعلى حول تقارب مصادر استخراجهما من الأرض والشبه في الشكل البلوري الذي يجعل فصلهما مكلفًا لما يتطلبه من تقنيات دقيقة. إلى هنا تنتهي المقدمة، التمهيد التعريفي بعناصر المشهد.

في 14 ديسمبر 2018 نشرت رويترز تحقيقًا صادمًا عن ارتباط منتجات التلك – وبالأخص بودرة الأطفال – التي ينتجها عملاق الصناعة الدوائية وصناعة المستحضرات جونسون آند جونسون (J&J) بالإصابة بالسرطان نتيجة تلوثها بالأسبيستوس. يحكي التقرير قصة دارلين كوكر التي اكتشفت إصابتها بسرطان الغشاء البلوري الناتج عن التعرض للأسبيستوس بكثافة ولمدة طويلة نتيجة استخدامها بودرة جونسون لأطفالها ولها شخصيًّا، ومع تدهور حالتها قررت تعيين محامٍ لمقاضاة الشركة وإثبات علاقة منتجها بإصابتها بالسرطان، كان ذلك في 1997.

في 1999، فشل محامي دارلين كوكر في إيجاد الوثائق التي تؤكد علاقة التلك بإصابة موكلته بالسرطان رغم أن الفحوصات أكدت تلوث رئتيها بألياف الأسبيستوس الطويلة. لقد استطاعت جونسون دومًا إخفاء أو تدمير الوثائق الدالة على تلوث منتجها بالأسبيستوس، لكن تحت ضغوط واسعة بعد عقدين من الزمن، اضطرت للإفراج عن تلك الوثائق (هنا، وهنا)، لتواجه الدعاوى القضائية لعشرات الآلاف الذين يتهمون الشركة بالتسبب في إصابتهم بأنواع مختلفة من السرطان.

لكن التقرير يؤكد أن الشركة قد اكتشفت تلوث منتجات التلك الخاصة بها بالتريموليت، أحد الأشكال البلورية للأسبيستوس، حيث وصفها تقرير صادر عن معمل إيطالي في 1958 بألياف ذات شكل إبري، وأنه على امتداد هذه الفترة كانت نتائج فحص عينات التلك التي تنتجها جونسون تشير إلى تلوثها بالأسبيستوس.

الأخطر هو ما يشير إليه التقرير، أنه على خلفية الجدل الذي أثير حول احتمالية تلوث التلك بالأسبيستوس منذ السبعينيات، فإن الـ FDA أجرت اختبارًا على عينات من منتجات التلك التي تنتجها جونسون وتؤكد الوثائق التي كشفت عنها رويترز، أن النتائج أثبتت احتواء العينات على نسب من الأسبيستوس، هذا في 1973، لكن إجراءً لم يتخذ، بل إن الوثائق الخاصة باختبارات أجرتها الشركة على منتجاتها بين 1972 و1975 والتي أثبتت احتواءها على الأسبيستوس قد تم إخفاؤها، وهو ما يثير تساؤلات عن علاقة هذه الـ FDA بعمالقة الدواء الذين يدفعون جزءًا رئيسيًّا من أجورها ونفقاتها، يشير «جول ليكسشين – Joel Lexchin» إلى أن:

في الولايات المتحدة، يعد الزمن القياسي لمراجعة طلب تسجيل دواء جديد ثلاثمائة يوم، لكن بموجب الـ PDUFA، يجب على الـ FDA الانتهاء من 90% من الطلبات الجديدة خلال هذا الإطار الزمني. إذا لم يتم تحقيق هذا الهدف فإن تجديد رسوم المستخدِم قد يكون مهددًا، ما يعني حرمان الوكالة من نسبة أساسية من عوائدها. عمليًّا، يبدو أنه كلما اقتربت الـ FDA من الموعد الأخير لاتخاذ القرار، فإنها تتساهل حيال معايير تقييم الأمان. وبالمقارنة بالأدوية التي تمت الموافقة عليها في أوقات أخرى، فإن احتمال سحب الأدوية التي أجيزت خلال شهرين قبل انتهاء المهلة لأسباب تتعلق بأمانها كان أكبر بخمس مرات، كما أن احتمال تمييزها بتحذير الصندوق الأسود، الذي يعد تحذير الأمان الأكثر خطورة الذي يمكن أن تطلبه الـ FDA، كان أكبر بـ 4.5 مرة تقريبًا.

إضافة إلى ذلك، يؤكد الكاتب أنه وبموجب قوانين حماية حقوق الملكية الفكرية، لم تحتكر شركات الدواء براءات الاختراع فقط، بل إنها احتكرت كل الأبحاث والتجارب السريرية حول منتجاتها، وبالأخص تلك التي جاءت نتائجها سلبية:

لتجنب هذه السيناريوهات وضمان الزيادة المستمرة للعائدات، انتقلت الشركات من التحكم في تطوير أدوية جديدة إلى التحكم في المعلومات حول هذه الأدوية، بما يضمن لها أن رسالتها هي تحديدًا التي تصل للأطباء والمرضى. تمول شركات الدواء كل التجارب السريرية ما قبل التسويق تقريبًا، سواء تلك التي تتم على أساسها الموافقة على دواء جديد أو استخدام جديد لدواء موجود بالفعل. تلك التجارب هي أساس المعلومات عن الدواء، وبالتالي فإن نتائجها شديدة الأهمية. كممولين، تسيطر الشركات على كل الجوانب المتعلقة بتلك التجارب، بدءًا من تصميمها الأولي مرورًا بطريقة إجرائها وتحليل نتائجها، وكيف سيتم إبلاغ وكالات التنظيم الدوائي – FDA مثلًا – بها، هل سيتم نشرها أم لا، وكيف، انتهاءً بكيفية تقديمها للأطباء.

في هذا الإطار يمكننا فهم الآلية التي استطاعت بها جونسون الاحتفاظ بالوثائق التي تؤكد علمها القديم بتلوث منتجها بالأسبيستوس المسرطن، وكيف ساعدتها الـ FDA مبكرًا جدًّا.

في 1977، وفي ورقة بحثية أعدها اثنان من العاملين السابقين في جونسون آند جونسون، أكدا أن طريقة إجراء الفحوصات تم تصميمها كي تتجنب تمييز الأسبيستوس بين غيره من الشوائب الموجودة في التلك.

على نفس الخط، وفي 1983، بينما كان فيليب دوليت يتصفح الدوريات الجيولوجية على خلفية اهتمامه بعلم السموم، عثر على معلومات مزعجة فيما يتعلق بالاحتماليات المسرطنة للتلك، على إثرها أطلق حملة تطالب باستقصاء الأمر، وحين استجابت الـ FDA لحملته، طلبت المعلومات من الشركة موضع المساءلة: J&J. وقد ردت الشركة – بحسب رويترز – بخطاب يعود إلى العام 1974 يشير إلى أنه حتى لو احتوت بودرة التلك التي تنتجها على ما نسبته 1% من الأسبيستوس، فإنها تبقى نسبة منخفضة تمامًا مقارنة بما يتعرض له العمال في المناجم.

في نفس الوقت لم تكن جونسون على استعداد لوضع أي تحذير على منتجات التلك خاصتها يشير إلى احتمالية حدوث أضرار من استخدامها، وهو ما يحيلنا لاقتباس آخر من Joel Lexchin:

يمكن للتجارب السريرية التي تفشل في البرهنة على الفاعلية أو تثير مخاوف خطيرة بخصوص الأمان أن تؤثر بشكل درامي في مبيعات المنتجات. في يوليو 2002، توصلت التجارب السريرية التي أجرتها مبادرة صحة المرأة إلى أن مركب الإستروجين/البروجستين المستخدم في العلاج الهرموني البديل (HRT) (علاج لتخفيف أعراض ما بعد انقطاع الطمث لدى النساء – المترجم) يؤدي لزيادة احتمال الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية وسرطان الثدي لدى النساء بعد انقطاع الطمث. بحلول يونيو 2003، تراجعت الروشتات التي تحتوي عقار Prempro، مركب الإستروجين/البروجستين الأكثر مبيعًا، بنسبة 66% في الولايات المتحدة.

إن الإشارة إلى احتمالية أن يكون المنتج مسرطنًا في ذاته – كما أشار صامويل إيبشتين عام 1994 – أو بسبب تلوثه بالأسبيستوس كفيلة بنسف أرباح الشركة، وهذا آخر ما تطمح له جونسون وغيرها من شركات الدواء.

من الملاحظ أيضًا أن موقف جونسون قد انتقل تدريجيًّا منذ مطلع السبعينيات – عبر سلسلة الأحداث التي أشارت بأصابع الاتهام لمنتجها – من الإنكار الكامل – رغم علمها – لاحتواء منتجاتها على الأسبيستوس المسرطن إلى موقف لا ينكر احتواء منتجاتها عليه لكن بنسبة ضئيلة، ثم التأكيد على أن منتجاتها لا تسبب سرطان المبيض.

في 2016 صدر حكم يجبر جونسون على نشر نتائج الدراسات التي أجريت حول بودرة التلك التي تنتجها والتعاون مع الـ FDA فيما يخص تقييم خطورة المنتج. وفي 2018 وبسبب إعادة فتح ملف تلوث التلك بالأسبيستوس، دعت الـ FDA إلى مؤتمر يتناول الموضوع، دُعي إليه خبراء على تعاون مع جونسون بينما تم تجاهل دعوة أي من هؤلاء الذين دافعوا عن فرضية تلوث منتجات جونسون وعلاقتها بالسرطان، وليعذرني القارئ إذ أحيله مرة أخرى إلى Joel Lexchin، ففي ورقته التي لم تتناول قضية التلك والأسبيستوس، يبدو وكأنه قد استخلص قوانين عامة تحكم عالم صناعة الدواء، فهو يشير أيضًا إلى أنه:

أخيرًا، تدرك الشركات أنها تواجه نقصًا في المصداقية حين تقدم أدلة علمية على أفضلية منتجاتها للأطباء مباشرة. ولتجنب هذه المشكلة، توظف الشركات أطباء وباحثين مشهورين باعتبارهم «قادة رأي رئيسيين». من المهم أن تحافظ الشركات على وهم أن «قادة الرأي الرئيسيين» مصادر مستقلة للمعلومات للحفاظ على ثقة الأطباء الذين يستمعون إلى عروضهم التقديمية. ومع ذلك، فإن قيمة هؤلاء القادة العلميين بالنسبة للشركات تصبح محل شك تحديدًا حينما يبدءون بالتصرف بشكل مستقل ويحيدون عن الرسائل التي تروجها الشركات. وقد كتب أحد هؤلاء سلسلة من التقارير العلمية حول دواء معين تصنعه شركة لطالما تحدث باسمها، وقد وضع المنتج في موضع أقل أفضلية من دواء يصنعه المنافس. وبمجرد أن أصبحت تلك التقارير متاحة للجمهور، انخفضت الدعوات التي تلقاها للتحدث من أربع لست مرات شهريًّا إلى صفر.

وبالفعل تشير رويترز إلى أن 17 من المدعوين كانوا يعملون بمجال استخراج أو اختبار التلك أو لدى الشركات المنتجة لبودرة التلك مثل جونسون.

كان نشر تقرير رويترز في ديسمبر 2018 بمثابة صدمة أثارت جدلًا ضخمًا، ووضعت جونسون والـ FDA تحت ضغوط شديدة، ما أدى بالشركة لسحب 33000 عبوة بودرة أطفال من السوق في 2019 «كإجراء احترازي». ثم توقفت عن بيع بودرة التلك في الولايات المتحدة وكندا في عام 2020، قبل أن تعلن عن توقف إنتاجها نهائيًّا واعتماد بديل يتكون من نشا الذرة بدءًا من 2023.

في مواجهة نحو 38000 قضية، وأحكام تعويض وصلت إلى نحو 3.5 مليار دولار أمريكي، أنشأت جونسون في أكتوبر 2021 مؤسسة فرعية (LTL) تقدمت لمحكمة شمال كارولينا بطلب لإعلان إفلاسها بموجب آلية (Texas Two-Step Bankruptcy) التي هي:

مناورة قانونية مثار جدل تلجأ إليها الشركات لمواجهة احتمال تعرضها لملاحقة قانونية. ولتنفيذ المناورة، يجب على الشركة أولًا إنشاء كيان قانوني جديد تنقل له المخالفات موضع المساءلة، كما تنقل له جزء بسيط من أصول الشركة الأم، ثم تتقدم الشركة الجديدة بطلب إعلان الإفلاس، ما يشكل حماية للكيان الأم من تحمل التكاليف المترتبة على المخالفات.

كما حاولت جونسون استصدار قرار من المحكمة يُلزم رويترز بعدم تعميم ما لديها من وثائق، لكن الدائرة الثالثة لمحكمة الاستئناف بفيلاديلفيا رفضت دعوى الإفلاس التي قدمتها جونسون في 30 يناير الماضي باعتبار أن جونسون قد أنشأت تلك الوحدة الفرعية فقط لغرض استغلال آلية الإفلاس في الوقت الذي تعتبر فيه المحكمة أن الشركة لا تتعرض لضغوطات مالية تستوجب إشهار إفلاسها.

عبر هذه السنوات منذ أثيرت قضية الأسبيستوس، التزمت جونسون خطًّا لا يحيد يعبر عن مصالح حمَلَة الأسهم، في البداية بعدم تحري مصادر حصولها على التلك، واللامبالاة تجاه خطر تلوث منتجاتها بالأسبيستوس، ثم تجاهل كل المعلومات التي توافرت لديها عن تلوث التلك بالفعل، وإخفاء نتائج الاختبارات والتلاعب بها، من أجل الحفاظ على الأرباح الناتجة من المبيعات، وحين خرج تقرير رويترز وصار من غير الممكن إخفاء القضية، سعت الشركة للنفاذ عبر ثغرة الـ «Texas Two-Step Bankruptcy» من أجل تفادي دفع الجزء الأكبر من التعويضات وتفادي الضرر الذي تُلحقه الأحكام القضائية بالعلامة التجارية، فبمجرد رفض المحكمة لآلية الإفلاس، انخفض سعر سهم جونسون في سوق التداول بـ 3.6%، وهو ما يؤشر إلى ما قد يحدث بصدور الأحكام في آلاف القضايا المُقامة ضد الشركة، والتي تنظرها المحاكم الأمريكية.

كما تطرح القضية مراجعة آليات الرقابة على شركات الدواء، حيث كانت الهيئات المنوط بها شريكًا في تمرير مستحضر مسرطن، عبر منح الشركة استقلالية في الرقابة على ذاتها، وعبر تجاهل نتائج الفحوصات التي أثبتت مبكرًا جدًّا أن المستحضر يحتوي على مركب خطير على الصحة العامة.


*تمت ترجمة الاقتباسات بمعرفة الكاتب.