لا يزال الناجون من القصف الإسرائيلي على قطاع غزة يتحسسون طريقهم إلى الحياة؛ لكن  لسان حال القطاع، الذي لم يكد يتعافى من قصفه عام 2014 يؤكد أن «لا نجاة هُنا»؛ مَن نجا من القصف لَمْ يَنْجُ من الفقد، ومن نجا من وحشة الفقد لَمْ يَنْجُ من هلع التفكير في غده المظلم، عشرات الاحتمالات السوداء تَعيَّن على الناجين بحياتهم من هول الدمار التفكير فيها.

ومنذ فجر اليوم الجمعة دخل إلى حيِّز التنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار، الذي نجحت مصر في التوصل إليه بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية، بعد 11 يومًا من أعمال العنف، هي الأعنف منذ عام 2014م.

وفقًا لوزارة الصحة الفلسطينية، خلَّف العدوان الإسرائيلي على غزة 248 شهيدًا و1910 مصابين. وطبقًا لبعض الأرقام الحكومية، تضررت 16800 وحدة سكنية بسبب أعمال القصف، 1800 منها أصبح غير صالح للعيش، وألف وحدة دُمِّرت بالكامل. أعلنت محطة توزيع الكهرباء أن طاقة التوزيع على السكان لن تزيد على 4 ساعات في اليوم، فيما كشفت الأمم المتحدة أن قدرة آلاف العائلات الفلسطينية على الحصول على الماء باتت معدومة.

 وعلى الرغم من ذلك اجتاحت الفرحة شوارع غزة فور التوصل إلى قرار إطلاق النار، فكل يوم في غزة هو فرصة للنجاة من الموت المحقق، لكن هذه النجاة لا تعني أن الفارين سلموا من ويلات الحرب التي ألقت بظلالها القاتمة على ماضي القطاع المعزول منذ ما يزيد على 16 عامًا، والتي لا تزال تكبل حاضره ومستقبله.

لا أمان في غزة

بينما كان الإعلامي الفلسطيني علاء الشمالي يُلبي نداء الواجب تاركًا زوجته وأبناءه الخمسة في منزلهم الواقع في حي الرمال بوسط قطاع غزة، تلقى مكالمة هاتفية، تفيد بضرورة إخلاء منزله.

في حديثه إلى «إضاءات»، أكد الشمالي أن مهلة الـ20 دقيقة التي تلقاها لإخلاء منزله لم تكفِ إلا ليهاتف زوجته، ويطلب منها أن تلوذ بالفرار برفقة أبنائهما.

صبيحة يوم القصف اتجه الشمالي إلى ركام منزله، ليس لالتقاط صورة أخيرة مع منزله المحطم، وإنما لنقل آثار القصف إعلاميًّا وتوثيق تجربته التي باتت حالة عامة مرَّ بها معظم أهالي القطاع، الذي اضطر معظم قاطنيه إلى النزوح القسري.

يقول الشمالي لـ«إضاءات» إنه في فترة وجيزة اضطر للنزوح القسري مرتين؛ إذ عاش وزوجته وبعض من أبنائه التجربة نفسها؛ قبل 7 أعوام حين  قُصف منزلهم القديم الواقع في حي الشجاعية في الحرب على غزة عام 2014، ليضطروا إلى الاتجاه إلى وسط المدينة في حي الرمال ظنًّا منهم أن هذا الحي الحيوي الراقي ذي المباني الشاهقة  سيصبح أكثر أمنًا واستقرارًا، نظرًا لاحتوائه على منشآت مدنية ومؤسسات إعلامية، لكن الحي الذي يُعرف بأنه شريان أساسي للحياة التجارية في قطاع غزة، لم ينجُ من الدمار.

ويضيف: «للمرة الثانية منزلي دُمِّر كليًّا، لا أعرف أين أذهب للبحث عن الأمان؟ فقط في غزة يستحيل البحث عن مكان آمن».

«الأونروا»:  ماذا عن المستقبل؟

في ظل غياب البدائل الآمنة لجأ حوالي 50 ألف فلسطيني، مِمَّن لا يمتلكون القدرة على امتلاك مسكن بديل إلى مدارس الإيواء التابعة لإدارة غوث وتشغيل اللاجئين «الأونروا» بحسب التقديرات الأولية، ولدى ساحاتها  يجتمع «الناجون» أو بالأحرى «الفارون»، ليتبادلوا حكايات تقشعر لها الأبدان، هُنا من سمع أنفاس نجله الأخيرة تحت الركام والأنقاض دون أن يتمكن من انتشاله، وهنا من فقد كل أفراد عائلته حين باغتهم القصف ليلًا، وهُنالك طفل ملتزم الصمت على إثر إصابته بالصدمة، لتُخلف حكايات الناجين تلك ذكريات لن تُنسى عن أيام الحرب والدمار.

واحدة من هؤلاء كانت الحاجة أم محمد البطنيجي، التي لم يتبقَّ أمامها بعدما قصف منزلها، الواقع بحي الشجاعية شرقي غزة، سوى الاتجاه إلى أحد مدارس الإيواء التابعة لإدارة غوث اللاجئين «أونوروا» بشارع النصر في منطقة جباليا (شمال غزة).

روت البطنيجي لـ«إضاءات» أنها تعيش داخل مدرسة الإيواء برفقة حوالي 350 أسرة أخرى؛ يُقدَّر مجموع أفرادهم 1400 شخص.

تحكي: «في منتصف ليل الأربعاء، فزعتُ على صوت قصف أطاح بمنزل جيراننا الواقع في حي الشجاعية،  تساوَى المنزل بالأرض في دقائق معدودة، تناثر زجاج شرفتنا متأثرًا بصوت القصف ليتناثر معه أملنا في العيش آمنين. اصطحبتُ زوجي المُسن لننتقل معًا إلى بيت ابنتنا وزوجها الواقع على بُعد عشرات الأمتار في الحي نفسه، إلا أن القصف لم يمهلنا هُناك؛ فلم نكد نتلقف أنفاسنا حتى تعقبنا القصف بعد 24 ساعة من فرارنا إلى منزل ابنتنا.

لم تهنأ كثيرًا في مأواها الجديد، تحكي: «وصلت إلى زوج ابنتي مكالمة هاتفية، علمنا على إثرها أن علينا جميعًا إخلاء المنزل خلال دقائق، هرعت مجددًا  إلى زوجي  المُسن، في حين اتجهت ابنتي لجلب أحفادي الذين تركوا ملابس العيد على منضدة بفناء المنزل العائلي الذي أطاح به القصف، واضطررنا جميعًا للفرار خاوي الوفاض».

فور دمار بيتها الثاني والأخير لم تعرف إلى أين تذهب، فلم يعد لها مكان آمن تأوي إليه، حينها اقترح زوج ابنتها الذهاب إلى إحدى مدارس الإيواء، في شارع النصر، بمنطقة جباليا الواقعة إلى الشمال الشرقي من مدينة غزة. لم تكن هذه المدارس قد فتحت أبوابها لاستقبال اللاجئين بعد، لكن الخائفين على أرواحهم لم ينتظروا إذنًا من أحد واقتحموها.

 تتساءل البطنيجي عن مستقبل أحفادها، الذين ظلوا لنحو ثلاثة أيام في العراء لولا مساعدات الأهالي الذين أمدوهم بالأغطية والمفروشات قبل أن تصلهم مساعدات الأونروا لاحقًا، فهي لا تعرف إلى متى ستظل برفقة أحفادها داخل مدرسة الإيواء التي يعاني قاطنوها من شح  المياه، وغياب الخدمات الأولية.

هذه الأسئلة المشروعة التي تدور في ذهن السيدة الفلسطينية لا يُمكن الإجابة عليها في منطقة منكوبة مثل غزة، فلا أحد يعلم متى ستنتهي هذه الضائقة ولا كيف ستتم إعادة إعمار المنازل المنكوبة، بل إن بعض الغزاويين لا يزالون يسكنون أماكن الإيواء تلك، منذ عام 2014م، بعد أن دُمِّرت بيوتهم في الحرب الإسرائيلية على القطاع.

هُنا تستحيل النجاة

من داخل مجمع الشفاء الطبي، الذي يسهم في تقديم خدماته لحوالي 652 ألف فلسطيني، والمُهدَّد بوقف خدماته الطبية على إثر الانقطاع الطويل والمتكرر للكهرباء، تحدث «إضاءات» مع  الحاج أبو أحمد المصري، الذي فرَّ مع مَن تبقوا من أفراد عائلته إثر قصف طال منزلهم الواقع في منطقة بيت لاهيا الواقعة شمالي القطاع صباح الخميس.

تحوَّلت منطقة بيت لاهيا إلى ركام بعدما استهدف القصف الإسرائيلي عددًا كبيرًا من منازلها. فقد  المصري أحد أبنائه فيما جُرح آخر بعدما أطاح القصف بجزء من  منزلهم المجاور لعدد من المؤسسات المدنية، بينها الهلال الأحمر القطري، وفق تصريحاته لـ«إضاءات».

وعندما سألته عن حال الناجين من القصف ردَّ قائلًا: «يا ابنتي ما من ناجين هُنا، لم ينجُ أحدٌ في القطاع.. من نجا من القصف لم ينجُ من ألم الفقد، ومن نجا من الفقد لن ينجو من التفكير في غده المظلم».

وعندما سألته حول الآلية التي يتَّبعها جيش الاحتلال في قصف منازل المواطنين، أجاب: بنك أهداف الاحتلال هو ترويع الآمنين. بنك أهدافه هو أطفالنا. بنك أهدافه هو بنيتنا التحتية. ما من بنوك أهداف هُنا سوى دمائنا.

وعندما فقدت عائلة المصري أحد أبنائها أُجبروا جميعًا على اتِّخاذ قرارٍ بالفرار بعيدًا عن منزلهم، برفقة مَن بقوا على قيد الحياة. لا يعتبر المصري أحفاده نجوا من الحرب، على الرغم من أنهم لم يُصابوا. يوضح: «ما من ناجين في القطاع، النازح ليس ناجيًا، يا ابنتي في الحرب تستحيل النجاة».