في صباح يوم السادس والعشرين من يوليو الماضي وسط الرمال الذهبية بمنطقة سوسة السياحية بتونس، رمى مظلّته وأخرج منها بندقيته من طراز كلاشينكوف وعمل على إطلاق النار الذي أودى بحياة عديدين صارخا: “فليبتعد جميع التونسيين والمسلمين من أمامي”!

لم ينتبه كثيرون لتلك الكلمات التي تفوّه بها “سيف الدين الرزقي” في يوليو الماضي أثناء تمكنه في خمس دقائق فقط لا غير من إيقاع 37 قتيلًا وإصابة 36 آخرين في فندق إمبريال مرحبا بمدينة حمام سوسة بتونس.

بعد ذلك بشهور وتحديدًا في نوفمبر 2015 في هجوم على فندق راديسون بلو بـ باماكو بمالي راح ضحيته 27 قتيلًا، قام المهاجمون بـتحرير عددٍ من الرهائن لنطقهم الشهادة.

يبدو من العمليّتيْن أنّ الإسلامَ مثلُ طوق نجاة، حيث رفض الأول قتلَ المسلمين وكذلك الثاني، ولكن هل كل من تفوّه بقول “الإرهاب لا دين له” كان مخطئًا؟ وإن كان غيرَ ذلك لمَ يفعل هؤلاء الإرهابيون ذلك؟ لمَ يحاولون عدم إصابة مسلم؟

الإجابة على هذا السؤال سهلة المنال شيئًا ما وتتلخص في مفهومٍ واحدٍ ليس إلا وهو التترس؛ ولكنه مفهومٌ على قدرٍ كبيرٍ من التعقيد والصعوبة، كما أنه ما زال في عرف الجماعات الجهادية هناك اختلافٌ حوله وحول استخدامه، إلى جانب أنه يُستخدم في بعض الأحيان كغطاءٍ للعمليات.

بصورةٍ أساسية، يُعتبر مفهوم التترّس من المفاهيم الحاكمة لدى التنظيمات الإسلامية المسلّحة؛ تبريرًا لقتل المسلمين أثناء قيامهم بالعمليات وذلك حالما يكون المستهدَفون من الكفار- في عرف تلك التنظيمات- متترسين بالمسلمين.

ويُقصدُ بالتترّس التستر بالترس أي تستر الكفار بهؤلاء المحرّم قتلهم في الإسلام، ويُستدلّ في ذلك بحديثٍ عن نبي الله محمد -صلى الله عليه وسلم- إذ سُئل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن الذراري من المشركين يبيتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم فقال: “هم منهم “.

تنص القاعدة الأساسية على أن “الأصل في دماء المسلمين الحرمة” ولكن عقيدة التترس أجازت ذلك في حالات وشروط وضعها أهل العلم، ولعل أكثر المشتهرين بالفتاوى في عقيدة التترس كان الحنبلي ابن تيمية حيث قال نصًّا في ذلك:

اتفق العلماء على أن جيش الكفار إذا تترس بمن عنده من أسرى المسلمين وخيف على المسلمين الضرر إذا لم يقاتلوا فإنهم يقاتلون وإن أفضى ذلك إلى قتل المسلمين الذين تترسوا بهم

أظن الآن أن هناك سؤالًا يطرح نفسه في مخيّلتك عزيزي القارئ مفاده: هل تجيز عملية التترس ما يحدث الآن من قبَل بعض التنظيمات الجهادية بقتل المسلمين؟

الإجابة على هذا السؤال تجعلنا نتجه للحديث عن التترس لدى التنظيمات الإرهابية الكبرى ومدى استخدام كلٍّ منهم لذلك ولعل أكبر مثاليْن يمكن لنا الحديث عنهما الآن هما تنظيم القاعدة بفروعه، وتنظيم داعش بأتباعه.

من ناحية تنظيم القاعدة، نهى زعيم القاعدة الراحل أسامة بن لادن في كثيرٍ من الأحيان عن قتل المسلمين وتنفيذ عملياتٍ في المناطق التي يتواجد بها مسلمون، ففي إحدى الرسائل التي وُجدت بالمنزل الذي قتل فيه بن لادن بأبوت أباد والتي نُشرت بعنوان Letters from Abbottabad: Bin Ladin Sidelinedكتب بن لادن إلى الشيخ محمود -عطية عبد الرحمن- الملقب بالرجل الثاني بتنظيم القاعدة حول مسألة التترس والتوسع بها مشيرًا إلى أن التوسع بمسألة التترس أدى إلى قتل العديد من المسلمين؛ ولذا أكد على ضرورة وضع حدودٍ لها يدركها عامة المجاهدين حتى لا يقع قتلىً من المسلمين إلا للضرورة القصوى، كما أنه تحدث عن قتل بعضٍ مما يخفى على العامة إباحة قتلهم، ناصحا المجاهدين بضرورة دراسة تداعيات العلميات من ناحية الخطوات العملية لنجاح العمليات وتأثيرها على كسب تعاطف المسلمين، كما نهى عن تنفيذ العمليات بمناطق تجمع المسلمين خاصة المساجد مستدلًّا بمحاولة اغتيال عبد الرشيد دستم، زعيم أحد الفصائل المقاتلة بأفغانستان، وكذلك محمد بن يوسف، رئيس الأركان الباكستاني السابق، كما تطرق بن لادن لتنفيذ العمليات في الدول الإسلامية الواقعة تحت الاحتلال ناهيا عن ذلك بدافع أن تنفيذ العمليات بتلك المناطق يزيد من احتمالية سقوط ضحايا من المسلمين، وقس على ذلك ما تقوم به التنظيمات التابعة للقاعدة من عمليات وتجنبهم قتل المسلمين وهذا ما حدث قريبا في تفجير مالي والذي قام به تابعو تنظيم القاعدة المرابطون بزعامة مختار بلمختار.

من ناحية تنظيم داعش، فالأمر لديهم مختلف تمامًا عن تنظيم القاعدة فتواجد التنظيم بالأساس في دول إسلامية يجعله يتخذ من عقيدة التترس غطاءً يبرر به قتل المسلمين في العمليات التي يقوم بها، وهذا ما يظهر في عمليات عدة من قتل داعش لمسلمين سواءٌ بالخطأ أو عن عمد، ولعلّ أبرز ما دار في ذلك الجدال بدايات نشأة داعش، بين أبي محمد المقدسي وأبي مصعب الزرقاوي أثناء العمليات الاستشهادية بالعراق بعد 2003 رسالةٍ موجهة من قبل المقدسي إلى الزرقاوي بعنوان الزرقاوي؛ مناصرة ومناصحة حيث نصح فيها الأول الثاني قائلًا:

وحذار من التساهل فيما اعتدنا على التشديد فيه من عصمة دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم ولو كانوا عصاةً أو فجارا فإن دماء المعصومين ورطة من الورطات يوم القيامة، وقد درسنا ودرّسنا في أبواب الاعتقاد أن استباحة دماء المسلمين خطرٌ عظيم والخطأ في ترك ألف كافر، أهون من الخطأ في سفك قطرات من دم مسلمٍ واحد

بين هذا وذاك يظلم الإسلام والشرع، فالأول لا يحرم قتل المسلمين من ناحية دينية بحتة ولكن الأساسَ فيها أنه يريد كسب تعاطف المسلمين للحفاظ على قوته، والثاني يستغل التخبط في أحد المفاهيم والعقائد من أجل إضفاء شرعيةٍ على أعماله، ولعل تفسير ذلك يتلخص فيما وضعه العلماء من شروطٍ لجواز قتل المتترّس بهم نتناولها الآن بالتفصيل.

المسألة الأولى: دفع الضرر العام بارتكاب ضررٍ خاص؛ وهذا ما أشار إليه القرطبي في كتاب الجامع لأحكام القرآن حيث قال:

قد يجوز قتل الترس وذلك إذا كانت المصلحة ضروريَّة كلية، ولا يتأتى لعاقلٍ أن يقول لا يقتل الترس في هذه الصورة بوجه، لأنه يلزم منه ذهاب الترس والإسلام والمسلمين

وهنا شرط أساسي يتمثل في جواز قتل المسلمين المتترَّس بهم حال ما يكون ترك القتال مع الكفار أكثر ضررًا عليهم من قتالهم.

المسألة الثانية: حالة الحرب ويُقصد بذلك أن يكون المسلمون في حالة حرب مع الكفار.

المسألة الثالثة: إمكانية قتل الكفار بمفردهم؛ نهى العلماء في تلك الحالة عن قتل المسلمين المتترس بهم حال ما يكون هناك إمكانية لقتل الكفار بمفردهم دون اللجوء لأماكن يتواجد بها مسلمون.

المسألة الرابعة: التفرقة بين المسلمين المتترس بهم والمسلمين العاديين؛ فالمتترس في تعريفه البسيط هو شخصٌ ينتظر الموت على يد الكفار أما في حالة ما يكون غير ذلك فلا يجوز قتله.

تلك أبرز الأوجه التي تناول فيها العلماء مسألة التترس، والأهم من ذلك هو مدى شرعية وصف أعداء التنظيمات الجهادية بالكفار وهذا أمر يطول شرحه؛ ربما نتحدث عنه في وقت لاحق.

السؤال الأخير والواجب طرحه أيضا: لماذا يتجه هؤلاء لعقيدة التترس؟

نجاح أي تنظيم إرهابي يعتمد بصورة أساسية على العنصر البشري وعدد المجندين به؛ وهذا ما يجعل الشغل الشاغل دائما لتلك التنظيمات هو تجنيد أفراد سواء مقاتلين أو مدافعين إعلاميا وعلى مواقع التواصل أو متبرعين. ولعل كثرة قتل تلك التنظيمات للعوام من المسلمين حتى ولو عن طريق الخطأ يقلل من التعاطف معهم؛ هذا الأمر الذي يعيق بصورة أساسية أعمالهم ويهدد استمرارهم وعليه كان لابد وأن يتبنّوا خطابََا يفيد ابتعادهم عن قتل المسلمين، ولو حدث فلابد وأن يكون له غطاءٌ شرعي.

تلك كانت السمة الأبرز للمجاهدين –مؤقتا لحين تناولنا في موضع آخر شرحًا تفصيليًّا للفرق بين الجهاد والإرهاب- في تلك الأوقات. في الجزء الثاني من هذه السلسلة سنتعرّض لأبرز التغيرات في إستراتيجيات التنظيمات الجهادية تفصيلًا.