لقد كان عنوان «أزمة العقل العربي» هو عنوان القرن الماضي بحق بعد كل ما كتب تحته من كتب ومقالات وأبحاث تناولت أزمة الفكر العربي مع تراثه وتجاذبات دعاة «الأصالة والسلفية» و«المعاصرة والحداثة» أو «التجديد والتنوير» في مقابل «الإلغاء والتجاوز» كما يطيب للانتجسيا العربية تسميته، كان هذا عنوانا لكل جدل ومآلا لكل خلاف، وتم اختزال أزمة العقل العربي في هذه الثنائية دون سواها فإليها ومنها تكاد تنتهي وتبدأ سجالات الفكر العربي جميعها خلال القرن الماضي في ما أصبح معروفا بأزمة التراث.

ولكنني اليوم أرغب في استخدامه للإشارة إلى الأزمة بمستوى مختلف وبزاوية مقاربة مغايرة تحاول أن تسلط الضوء على الجانب المهمش في هذا السجال، جانب الجمهور المتلقي لا النخبة المنتجة، فمع كونهم في الواقع محور هذا الجدل وعنهم وباسمهم ومن أجلهم دارت رحى المعارك الفكرية التي سواء رضينا بنتائجها أم سخطنا فإنه لا بد من الاعتراف بأنها -هذه السجالات- لا تزال تدور بعيدا في أبراج فكرية عاجية خاصة عزلت الجماهير فأصبحوا مجرد متفرجين غاضبين تتم تعبئتهم وتجييشهم فيما يرشح من خلافات سياسية تحملها رياح شعارات مؤدلجة، ويدفعون الثمن الأكبر دون أن يتم إشراكهم في عبء عملية التفكير، ولا يكاد يحمل أحد عبء الوصول إليهم بوصفهم القطاعات الأساسية والبناء القاعدي للمجتمع، بل يتركون في ظلام يغذي التشنج والعصبية والفرقة.

المشهد الثقافي العربي لا يشكو الفراغ أو الإقلال لكنه يفتقد القدرة على بلوغ المتلقي، ولهذا أسباب لا نهائية لا يمكن تحميلها جميعا للمثقف العربي

إن قطاعات المشهد الفكري على اختلافها بدءا بمفكري الفلسفة والاجتماع والسياسية والدين والأدب والفن، مرورا بمجال الكتابة الصحفية الجادة، ثم انتقالا إلى الممارسة السياسية أو الاجتماعية أو الفنية والأدبية المباشرة، كل هذه القطاعات تُمارس إقصاء نخبويا متعمدا أو عفويا لهذه الجماهير وبوعي أو بدون وعي تسلم هذه القطاعات إلى الفئة الأقرب والأكثر قدرة على التأثير بها؛ أي الإعلام الموجه بتشديد الجيم فتحا وكسرا،ونشطاء وسائل الاتصال الاجتماعي بغثهم وسمينهم وشخصيات الفضاء الافتراضي التي يزداد تأثيرها طرديا مع ضحالة الأفكار المطروحة وحديتها.

طبعا لا نستطيع تبرئة نخب الفكر من محاولات يعتقدون أو يريدون بها الاقتراب من الساحة العمومية ومن مقاعد العموم، ولكن للأسف فإنهم غالبا ما ينجرون فيها للغة العوام وسجالاتهم بدلا من أن يحاولوا اجتذاب الجماهير لفضاءاتهم أو صناعة لغة ومقاربة تبسيطية دون تضحيل وإسفاف.

المشهد الثقافي العربي لا يشكو الفراغ أو الإقلال لكنه يفتقد القدرة على بلوغ المتلقي، ولهذا أسباب لا نهائية لا يمكن تحميلها جميعا للمثقف العربي، فالتعليم والإعلام الرسميان كأدوات صناعة الشخصية العامة يتكاتفان لخلق مواطن بثقافة متواضعة بقصد، ويتم تكريس العداوة مع دوائر الفكر تحت دعاوى مختلفة منها العمالة والاستغراب تارة والإسلاموية والتطرف تارة أخرى حسب المتلقي وزمان ومكان النقاش، فالدولة العربية تجيد تخويف الجميع من أفكار الجميع ببساطة لأن التفكير بحد ذاته هو ما يخيفها.

المعضلة تكمن في أن تمكن الخوف من الجماهير تحت وطأة الغليان الذي اتبع الربيع العربي ممزوجا مع عدم امتلاكها لأدوات التفكير والتحليل والذي جعلها فريسة سهلة للتطرف الفكري بكل أشكاله وتياراته، فهو ليس حصرا على التيار الإسلامي كما يصور إعلام الدولة، فلقد علمنا تاريخنا القريب والحاضر أن الكل قابل للتطرف في الوطن العربي حتى التيارات التحررية والديمقراطية!، ولكن هذا موضوع لنقاش آخر.

الجماهير الخائفة تصبح أكثر غضبا وتحفزا لكل ما يهدد وجودها المادي أو الفكري أو الحضاري، وتستسلم بسهولة أكبر لمن يستطيع أن يتواصل معها بلغة تفهمها

الجماهير الخائفة تصبح أكثر غضبا مع مرور الوقت وأكثر تحفزا لكل ما يهدد وجودها المادي أو الفكري أو الحضاري، وتستسلم بسهولة أكبر لمن يستطيع أن يتواصل معها بلغة تفهمها وهي كما نعلم لغة العواطف؛ الخوف والكراهية والغضب هي المشاعر الأقوى والأكثر جذبا، وهنا نعود إلى أزمة الصراع على التراث الذي يقدم وقود نيران غضب هذه الجماهير، هذا التراث الذي نظّر أصحابه ومجددوه أنه يجب أن يجب أن يوظف ليكون وقودا محفّزا ودافعا للأمة وقاعدة تشيد فوقها بناءها الحضاري، لكنه للأسف يتم إحراقه داخليا ليفجر صراعات داخلية ويحدث دمارا في تركيبة المجتمع لا يمكن تصور إصلاحه.

مع تنبه كل نقاد التراث من كل الاتجاهات لأهمية هذه الأزمة وانعكاساتها على واقع ومستقبل هذه الأمة، فإن الصراع النخبوي في قصور المفكرين العاجية لم يكن له الأثر الذي أرادته أي من الأطراف على وعي جماهير الأمة التي لا تزال تستغل من قبل من لم يحملوا عناء خوض هذا الجدل أصلا، بل فرغوا طاقاتهم لتجييش الجماهير بعباراتهم البسيطة وكليشيهاتهم الجاهزة المقولبة.

قد يقفز إلى أذهاننا مثال داعش أو قوى الشد العكسي الرسمية كتمثلات لهذا الخطاب، ولكن في الواقع فإنني أفكر في أمثلة مرشحة للصعود في خضم التحولات الثورية، فكلما فكرت في هذا الصراع الدائر في دوائر الفكر العربي على هامش الربيع العربي تقفز إلى مخيلتي التجربة الثورية الإيرانية الحديثة. فبعد كل النضال النخبوي الفكري من اليساريين الإيرانيين ومفكرين تجديدين إسلاميين كعلي شريعتي ضد استبداد الشاه والتخلف الذي تسبب به، ظهر الخميني وأبواقه كطرف جديد ليحصدوا نتيجة الصراع السياسي النخبوي، فوجدوا جماهير مرعوبة متحفزة جاهزة لترتمي في حضن الخطاب الخميني الدافئ، فذهبت مجهودات التنوير المضنية أدراج الرياح حتى يومنا هذا.

هل يمكن للوعي الفكري العربي أن يدرك خطورة هذا المأزق؟، هل يمكن أن يتنبه إلى أنه بحاجة لخلق أدوات وآليات أخرى مختلفة يخاطب بها الجماهير؟، إلى أنه بحاجة لخطة خطاب جديدة تقترب من المخاطب وأماكن تلاق وعمل جديدة؟.

هل يمكن أن نتخلص من آفة النخبوية الثقافية العربية ونحاول أن نكسر الهوة بين المثقف العربي وجمهوره المفترض؟، إن لم نجد حلا لهذه المعضلة فإننا سنجد جيوش الخميني العربي اكتسحت الساحة السياسية والاجتماعية العربية ومفكرونا غارقون في جدالاتهم في قمة برجهم العاجي.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.