‏يقول أبو البروباجندا ومُخترعها «إدوارد بيرنيز»:

لو فهمنا آليات العقل الجمعي ودوافعه، أليس من الممكن السيطرة على الجماهير وإخضاعهم لنسق مُوحَّد حسب رغبتنا دون حتى أن يُدركوا ذلك؟

إن ‏ البروباجندا هي آلية خادعة تقوم على الكذب، يكون هدفها الأساسي هو توجيه الرأي العام صوب سياسة أو فكر معين، بحملة تضليل متقنة، يتخللها بعض الحقائق التي تؤثر في العامة وتجعلهم يصدقونها. وقد اختلفت تلك الآلية على مر التاريخ، فكل حقبة لها أدواتها، أوقات الحرب تختلف عن أوقات السلام، البروباجندا السياسية تختلف عن الاقتصادية، لكن مهما اختلفت الأهداف والمصالح يظل الغرض واحدًا، وهو استمالة العقل الجمعي وتحفيزه عاطفيًّا بوسائل عدة، ويا حبذا لو كانت بطابع ديني، الشيء الوحيد الذي ينفذ مباشرةً لعقول غالبية البشر وقلوبهم.

‏وكان من الطبيعي أن تتطور تلك الآلية مع مرور الزمن، فما كان يصدقه الناس في حقبة الحرب العالمية الثانية على سبيل المثال، لن يصدقه من يعيشون في هذه الحقبة الغارقة في التكنولوجيا وسهولة الوصول للمعلومات. ومن سخرية القدر أننا نتعجب ونسخر من سذاجة أجدادنا الذين انساقوا خلف أجندات بيعت لهم بطريقة رخيصة من منظورنا في الوقت الحالي، ونغفل أننا ننساق الآن دون أن نشعر خلف أجندات ندافع عنها باستماتة على مواقع التواصل الاجتماعي، سيأتي جيل قادم يسخر منها ومن سذاجتنا أيضًا.

‏ضعف بعض الخطابات التي مارست تأثيرًا ضخمًا على السامعين تُدهشنا أحيانًا عندما نقرؤها لكثرة سذاجتها، ولكننا ننسى أنها قد كُتبت من أجل تعبئة الجماهير وليس أن تُقرأ من قِبل الفلاسفة.
من كتاب «سيكولوجية الجماهير».

‏وكانت هوليوود منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية هي منصة البروباجندا الأكبر والأكثر تأثيرًا للولايات المتحدة الأمريكية، سواء تجاه شعبها أو تجاه شعوب العالم أجمع. معظم السياسات والأفكار مُررِّت من خلالها، ليس بشكل مباشر بالتأكيد، ولا جرعة واحدة، بل أخذت بتمريرها على جرعات بسيطة لسنوات طويلة، وبشكل غير إرادي ستجد نفسك مؤمن ومصدق ببعض هذه الأجندات وأنت لا تشعر، أشياء محفورة عميقًا داخل «لا وعيك» تعتقد أنها أفكارك الخاصة التي كوَّنتها بإرادتك الحرة، ولكنها ليست كذلك.

‏حقبة السوبر هيروز

‏تعيش أفلام ومسلسلات الأبطال الخارقين أزهى عصورها مؤخرًا، ففي آخر عشر سنوات لا يوجد منافس لها في الصناعة على مستوى العائدات المالية. فئة أفلام يستطيع الجميع مشاهدتها والاستمتاع بها، مليئة بالأكشن والدراما والكوميديا، تركيبة جاذبة لأي أحد في أي مرحلة عمرية، حتى ولو لم يكن من هواة السينما.

‏ومع اختلاف أشكال وألوان الشركات المُنتِجة لتلك الأفلام، فإننا نستطيع القول إنها كلها تقريبًا تستند إلى نموذج واحد لا يمكنها الخروج عنه، شخص يكتسب قوة خارقة يبدأ في المعاناة ليُكيِّف حياته بها. يواجه عدوًّا لدودًا يعكس أسوأ ما في بطلنا ويُجبِره على خسارة شخص عزيز عليه، لكنها تكون نقطة تحوله من شخص عادي لنموذج يُحتذى به وينتصر في النهاية، عقب معركة ملحمية، وسط تصفيقات المشاهدين الحارة.

‏تركيبة مُوحَّدة ومُكررة لكنها ناجحة. ناجحة لأن الناس تحب هذا النوع من القصص. تحب أن ترى أنفسها وجوانب ضعفها في شخص آخر يستطيع أن يتغلب عليها ويُخرِج أفضل ما في داخله ليخدم به الصالح العام، جرعة دوبامين لا بأس بها يتلقاها المشاهد وتُعطيه إحساسًا بالرضا عن النفس لفترة من الزمن.

‏كسر التابوهات

‏ومن هنا تحديدًا كان اختلاف مسلسل The Boys الذي لم يكسر هذا النموذج المعتاد وحسب، بل هشَّمه تمامًا، وأخذنا للعالم الواقعي وسأل السؤال الأهم: ماذا لو؟

‏ماذا لو أن عالمنا هذا الذي نعيش فيه يوجد به أبطال خارقون، كيف سيتعامل الناس معهم، كيف سيتعاملون هم مع كل هذه المغريات؟ هل سيتركون كل هذه المتع التي يستطيعون الحصول عليها بكل بساطة بقواهم فقط للحفاظ على النزاهة والشرف؟ كيف سيتعامل الخارقون بعضهم مع بعض بالنظر لتفاوت قدراتهم وإمكانياتهم؟

هذه هي الفكرة المثيرة التي يطرحها العمل؛ كيف سيجمعون بين حب وتقدير العامة، وبين الاستحواذ على كل شيء وعيش حياتهم في رفه ورغد؟

‏سوبر مان الذي تتكوَّن ملابسه من ألون العلم الأمريكي، هو البطل الخارق الأقوى على الإطلاق، لا يوجد مخلوق على الكرة الأرضية يستطيع أن يُجابهه أو يُجاريه حتى، ولكن بالرغم من كل تلك القوة الهائلة فإنه أكثر من يتمتع بالإنسانية والحب والعطف على الجميع. رغم كل تلك القوة، فإنه لا يقتل أبدًا ويلتزم بالقانون ويُطبَّق عليه مثله مثل أي شخص عادي في ضاحية من ضواحي نيويورك.

ليست الوقائع بحد ذاتها هي التي تؤثر على المخيلة الشعبية، وإنما الطريقة التي تُعرَض بها هذه الوقائع، وإن معرفة فن التأثير على مخيلة الجماهير تعني معرفة فن حكمها.
من كتاب سيكولوجية الجماهير.

‏إن الشخصية المناظرة لـ «سوبر مان» في مسلسل The Boys هي شخصية «هوملاندر»، الذي يتمتع بكل شيء يتمتع به الأول تقريبًا، مع إضافة أن عباءته عبارة عن العلم الأمريكي نفسه، شخصية وطنية مخلصة ومحبة لأمريكا قبل كونه البطل الخارق الأقوى في العالم، يحرص دائمًا على التقرب من البسطاء والحديث مع الناس العادية في الشوارع، يبذل قُصارى جهده للحفاظ على أمن وسلام المواطن الأمريكي.

ولكن هذا الشخص المثالي يظهر فقط أمام الكاميرات، وخلف الأبواب المغلقة يكون على النقيض تمامًا، شخص أناني لا يأبه بأحد أو بشيء سوى نفسه، مغرور يرى نفسه فوق الجميع، يشمئز من كونه مضطرًّا للتعامل مع كائنات يراها أقل منه بكثير، يستغل قوته وسلطته للحصول على كل شيء يريده، يبتز ويقتل لمتعته الشخصية فقط، لا مجال لأن يُعارِضه أحد أو يقف في طريقه، حتى ولو كان بطلًا خارقًا مثله.

‏الرأسمالية تتحكم في كل شيء

‏هنا يأتي دور الرأسمالية والشركات لتفرض سيطرتها على هذه القوة الهائلة، كما تفرض سيطرتها على كل شيء، وتحاول الانتفاع منها بأكبر قدر ممكن، فالمسلسل يعرض أن هؤلاء الأبطال الخارقين في الأساس هم نتيجة اختبارات معامل أحد الشركات الكبرى، والتي استمرت لسنوات في سرية تامة، حتى استطاعوا أخيرًا أن يخرجوا للعالم بأعداد كبيرة وبقدرات مختلفة، وتعاقبت الأجيال حتى تكيَّف العالم مع فكرة وجودهم، بل لا يستطيعون تخيل حياتهم دون وجود أبطال خارقين حولهم في كل مكان.

‏لكن لم يتم تسويق هؤلاء الأبطال على أنهم نتاج معامل اختبار، بل تم تسويقهم للعامة على أنهم صفوة من البشر تم اختيارهم من الرب لحماية العالم من الشرور، فيُصبح التعلق بهم روحاني قبل كل شيء، وهكذا هي الطبيعة البشرية، سيشتري الناس أي شيء تبيعه لهم إذا طعَّمته بطابع ديني مناسب ينفذ للعقل والقلب.

‏وفي عالم تحكمه الرأسمالية أصبح الأبطال الخارقون مجرد دمى يلعب بها رجال الأعمال. كل بطل خارق مثل التطبيق الإلكتروني، له تقييم يرتفع وينخفض بمجمل أعماله، ومعه ترتفع وتنخفض نسبة شعبيته بين الناس. هؤلاء الأبطال الذين يمارسون المثالية أمام الكاميرات هم مجرد شباب طائش خلفها، يمارسون كل أنواع الرذيلة من قتل واغتصاب واستغلال سلطة، دون أن يكترثوا تمامًا للعواقب.

هنا تأتي قوة الشركة التي تسيطر عليهم وتلعب بهم، حيث تغطي كل تلك المصائب التي يرتكبونها طوال الوقت وتحافظ على صورتهم المثالية، أي بطل يُفكِّر حتى في التمرد، يستطيعون القضاء عليه تمامًا بتسريب فضيحة واحدة، فضلًا عن أن كلًّا منهم لديه نقطة ضعف سيتم قتله بها إن لم يرضخ بالابتزاز.

‏مع القوة الكبيرة تأتي مسئولية أكبر

‏تُعد هذه الجملة من أشهر جمل أفلام الأبطال الخارقين: «كلما زادت قوتك زادت مسئوليتك تجاه الآخرين». لكن في مسلسل The Boys كلما زادت قوتك سيخرج أسوأ ما فيك.

‏بطل أسود البشرة لا يكترث بحقوق السود التي تُنتهَك وتُمارَس عليهم العنصرية ولا يُعطيها اهتمامًا. وبطلة تملك أفكارًا نازية تمارسها على الجميع طوال الوقت، تتحول لرمز الإنسانية على الشاشات ومواقع التواصل الاجتماعي. كذلك «هوملاندر» الذي يُعاني من جنون العظمة لدرجة أنه يرى نفسه إلهًا، يُصبح أكثر البشر تواضعًا وسط الحشود.

‏سيظل البشر للأبد ينساقون خلف تلك الشكليات المثالية، باستثناء قلة تستطيع أن تُميز، ليس بالضرورة لأنها تمتلك ذكاءً خارقًا، ولكن لأنها تعرَّضت للظلم والترويع على يد هؤلاء الأبطال المزعومين، لتُصبح تلك القلة هي The Boys، الأولاد الذين يواجهون قوة هائلة يدعمها أهلهم وأصدقاؤهم، ليصبحوا العدو الأول للعالم أجمع، فقط لرغبتهم في الانتقام.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.