رأس الرجاء الصالح؛ طريق بحري اكتشفه الأوروبيون في القرن الخامس عشر الميلادي فتبدل العالم ولم يعد كما كان، انهارت دول وضعفت أخرى وانفتح الباب على مصراعيه لحقبة الاستعمار الأوروبي. طموح ورغبة في التفرد والتميز هما ما دفع الأوروبيين إلى إلقاء أنفسهم في بحر متلاطم الأمواج مظلم سعيا وراء الثروة والقوة، غير عابئين بالمخاطر التي قد تهلكهم. تحدي ضاغط على الأمة الأوروبية منذ قرون دفعهم إلى البحث جنوبا حيث الثروات، وتنافس محموم مع الحضارة الإسلامية جعلهم يبذلون الجهد والمال ليصلوا إلى هذا التفرد الذي تكلل باكتشاف رأس الرجاء الصالح، وبعدها جاء اكتشاف الأمريكتين ممكنا لتنحل عقدة ندرة الموارد وضيق المساحة مع ازدياد عدد السكان فانطلقت أوروبا لتؤسس حضارتها الجديدة التي نعيش في ركابها الآن.

ولكل قصة بداية. وهذه المقالة تفسر كثيرا من بدايات التحول من العصور الوسطى المظلمة إلى عصور التنوير والحضارة الغربية.


تاريخ اكتشاف رأس الرجاء الصالح

في النصف الثاني من القرن الخامس عشر الميلادي، بدأ عصر استكشاف الساحل الغربي لإفريقيا واستكشاف الطريق إلى آسيا مدعومة في البداية بطموح وأموال أمير برتغالي سُمِّي في التاريخ بـ هنري الملاح 1394-1460م، وهو أحد أشقاء ملك البرتغال وقتها، والذي بدأ في تشجيع البحارة على استكشاف سواحل إفريقية، كما شجع والده قبل ذلك، الملك جواو الثالث، ملك البرتغال، على احتلال «سِبْتة» (مدينة مغربية، تحتلها أسبانيا، تقع على الجانب الإفريقي من مضيق جبل طارق)، لتأمين طريق التجارة مع البرتغال.

لم تكن حملة دي جاما مسالمة كما نتوقع، بل كانت دموية، حيث هاجم في طريقه الموانئ المسلمة على طول السواحل وضربها بمدفعيته ولجأ في بعض الأحيان لقرصنة السفن.

وعلى خُطى هنري الملاح أو البحار، بدأت ملوك البرتغال في تمويل رحلات استكشاف الساحل الغربي والوصول إلى آسيا من طريق البحر لاعتقادهم بوجود طريق آخر للوصول إلى سواحل الهند وجزر التوابل غير طريق الحرير الذي يسيطر عليه الأعداء التقليديون لأوروبا -العرب والمسلمين. وفي عام 1488م، وصل البحار بارثولوميو دياز إلى رأس الرجاء الصالح واستطاع الدوران حوله ليتأكد من أن الساحل يدور حول إفريقيا؛ ولكن واجهته عواصف شديدة أجبرته على الرجوع، وسمى الرأس «رأس العواصف»، إلا أن ملك البرتغال خوان الثاني سماه «رأس الرجاء الصالح» تفاؤلا.

بعد ذلك بتسعة أعوام كلف ملك البرتغال، القبطان فاسكو دي جاما باستكشاف الطريق البحري إلى الهند والوصول للأراضي «المسيحية» في آسيا. وفي يوليو/تموز من عام 1497م، تحركت حملة مكونة من أربع سفن من ميناء لشبونة قاصدة الهند. مع نهاية العام، كانت السفن قد درات حول رأس الرجاء الصالح وبدأت رحلتها بمحاذاة الساحل الشرقي لقارة إفريقيا، ولم تكن حملة دي جاما مسالمة كما نتوقع، بل كانت دموية، حيث هاجم في طريقه الموانئ المسلمة على طول السواحل وضربها بمدفعيته ولجأ في بعض الأحيان لقرصنة السفن أمام سواحل مومباسا – كينيا.

بعدها، التقى بالبحار المسلم أحمد بن ماجد الذي ساعده في الوصول إلى كليكوت بالهند ومنها إلى «جوا» على الساحل الغربي للهند حيث وصلت الحملة في مايو/آيار 1498م. وهناك وقّع اتفاقات تجارية بالقوة مع سلطنة كوجارات الهندية، ثم ترك ممثلين للبرتغال، وعاد مرة أخرى إلى البرتغال حيث حصل على الجوائز والإقطاعيات تقديرا لجهده في استكشاف طريق الهند.

في 1502م، تحركت الرحلة الثانية لـ دي جاما إلى الهند، ولكن هذه المرة بـ 20 سفينة حربية أثارت الرعب على طول الساحل الشرقي لإفريقيا، وقتلت ونهبت سفن الحجاج، ودمرت العديد من المرافئ، ووصل إلى كاليكوت، فدمر أسطولًا تجاريًا قوامه 29 سفينة مما اضطر المدينة إلى عرض تنازلات تجارية ضخمة مقابل الصلح والسلام.

في عام 1524م عاد مرة ثالثة للهند، ليتولى إدارة املاك البرتغال هناك، لكنه مات بعد فترة قصيرة ودفن في الهند.


الاقتصاد الإسلامي من التفوق إلى التردي

في اليوم الذي وصل فيه إلى موزمبيق، قال دي جاما: «الآن طوقنا المسلمين ولم يبق إلا أن نشد الخيط».

جاءت الكشوف البحرية الأوربية جميعا مع انتهاء الحملات الصليبية الكبرى التي استهدفت وسط العالم الإسلامي (الشام ومصر وفلسطين)، فلا شك أن السيطرة الصليبية على منطقة وسط الكثافات السكانية المعادية هو أمل سيفشل في مستقبل الأيام. وأظن أن هذا الفشل كان دافعا للبحث عن حل آخر لأزمة قلة الموارد وزيادة أعداد السكان التي تعانيها القارة الأوروبية دائما؛ الأمر الذي يدفعها إلى البحث الدائم عن الموارد واستغلالها سواء بالقوة أو بالسياسة.

والعالم في القرن الرابع عشر الميلادي قبل بدء الكشوف البحرية، كانت موازين القوة، تحديدا الاقتصادية، في صالح الدول العربية والإسلامية؛ فهم يسيطرون على طرق التجارة التي تربط طرفي العالم القديم ببعضه، فكانوا وسطا بين سواحل وبلاد لديها وفرة في الموارد الطبيعية وغنى في المعادن والتوابل، وبين بلاد تفتقر إلى الموارد والتوابل والسلع. كانت البضائع تُنقل إما برا عبر طريق الحرير (قبل أن يخربه المغول) من الصين والهند عبر الأراضي الإسلامية إلى موانئ الشام لتُنقل إلى موانئ البندقية وجنوا ومرسيليا، أو من خلال المحيط الهندي الذي كان بكامله تحت سيطرة المسلمين، حيث كانت السفن تتحرك بين ميناء ملقا على ساحل شبة جزيرة الملايو، أو من «جوا» في الهند، إلى ميناء هرمز، أو عبر خليج عدن والبحر الأحمر إلى ميناء السويس، ومنه إلى الإسكندرية أو اللاذقية إلى موانئ شمال المتوسط الأوروبية لتُباع البضائع بالسعر الذي يحدده التجار البنادقة، الذين وقعوا اتفاقيات تجارية مع العثمانيين والمماليك والهنود.

اعتمدت سلطنة المماليك في مصر، على سبيل المثال، في اقتصادها على عملية نقل التجارة من الهند والملايو إلى أوروبا؛ حيث بنى السلاطين المماليك الأساطيل التجارية والمخازن السلطانية، وفرضوا الرسوم على عملية نقل البضائع، وجنوا أرباحا طائلة من وراء العملية التجارية، وأصحبت تجارة الهند وجنوب آسيا هي المصدر الأساسي للاقتصاد المملوكي.

في ظل هذه التحديات التي عانت منها القارة الأوربية والتي دفعتها إلى استخدام القوة لنقل موارد الجنوب الغنية إلى الشمال عبر الحملات الصليبية من القرن العاشر وحتى القرن الثالث عشر الميلادي. ومع ميل الكفة في الأندلس للقشتاليين وسيطرتهم على غالب الأراضي في شبه جزيرة أيبريا -استسلمت غرناطة آخر ممالك المسلمين في الأندلس في عام 1492م- بدأت الكشوف البرتغالية للساحل الغربي لإفريقيا بهدف الكشف عن طريق إلى آسيا والهند، مع وصول البرتغاليين وسيطرتهم على الساحل الشرقي لشبه الجزيرة الهندية. بعد انتصارهم في موقعة ديو البحرية عام 1509م، تحركوا سريعا لاحتلال ميناء ملقا عام 1511م، ومن وقتها قاموا باحتكار التجارة ونقلها لصالح مملكة البرتغال، وبذلك انفردت أوروبا من وقتها بنقل التجارة وانهار المورد الاقتصادي الأثمن للمسلمين والعرب وانهارت معه قوة دولة المماليك في مصر، مما جرأ البرتغاليين على مهاجمة الموانئ المصرية على سواحل اليمن والبحر الأحمر. هذا الضعف الذي أدى في النهاية إلى انهيار دولة المماليك ودخول العثمانيين إلى مصر بعد هزيمة المماليك في موقعة مرج دابق عام 1516م.


العالم الصغير والتحولات الكبرى

في القرن الرابع عشر الميلادي قبل بدء الكشوف البحرية، كانت موازين القوة، تحديدا الاقتصادية، في صالح الدول العربية والإسلامية.

تغيرت خريطة القوى في العالم القديم بعد هذا الاكتشاف، ونتيجته أصبحت البرتغال، وفي فترة قصيرة، من القوى الكبرى في العالم مما شجعها بعد ذلك على استعمار البرازيل، وتنافست بعدها الدول الغربية على السيطرة على طرق التجارة، في حين دخل العالم الإسلامي في دوامة السقوط.

العالم لم يصبح قارة صغيرة بعد ثورة الاتصالات، بل دائما ما كان كذلك صغيرا يتغير بأبسط الأمور كما يتغير بأعظمها.

العالم لم يصبح قارة صغيرة بعد ثورة الاتصالات، بل دائما ما كان كذلك صغيرا يتغير بأبسط الأمور كما يتغير بأعظمها. ما الذي يجعل دولة كمصر المماليك وتركيا العثمانية ترسل أسطولها الحربي لمواجهة البرتغاليين لو لم يكن العالم صغيرا ووعيهم بالأمن القومي وامتداده كبيرا؟

أيضا من اللافت للنظر هو أن اعتماد الدول على مصدر وحيد للاقتصاد والقوة المالية هو أمر فاشل على المستوى الاستراتيجي؛ فما بالك بالاعتماد على مصدر متعلق بما ليس في يد الدولة كنقل التجارة وفرض الرسوم عليها، وبيعها هنا أو هناك؟! فلا بد للدول أن تسعى لامتلاك مصادر للاقتصاد والقوة المادية متنوعة داخلية وخارجية هذا التنوع الذي يضمن لها الاستقرار والقوة والنفوذ.

تتغير الجغرافيا، ويتغير التاريخ، وتنقلب موازين السياسة والاقتصاد باكتشاف طريق بحري، فتزول دول وتوجد أخرى، تصعد قوى جديدة وتصبح قوى كبرى، وتنهار دول أخرى وتنتهي. فإذا تأملنا في التاريخ سنجد أن دولة كمصر تحولت إلى دولة تابعة، لذلك نحن كشباب لابد أن نعي جيدا وندرس أثر التغييرات في موازين القوى؛ أثر الاكتشافات العلمية، نتائج انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، حتى التغييرات البسيطة تُرتِّب بعدها تحولا في الجغرافيا والسياسة. إذا جردنا الأمر، فإن رأس الرجاء الصالح طريق تجاري بعيد آلاف الكيلومترات عن مصر وعن الشام وعن قلب العالم الإسلامي؛ لكن تأثيراته تعتبر الأضخم على التاريخ الإنساني.

فلم يكن الرجاء الصالح طريقا للهند فقط، بل كان طريق الغرب إلى الحضارة.