تكلّمنا في الجزء الأول عن معضلة الشر، وانتهينا إلى أن الشر نسبي وضروري، فلنتابع.


الحرية المؤلمة أو العبودية السعيدة

وماذا عن ما يحدث في العالم من غش وخداع وحروب ومظالم وفوضى وقتل وجرائم؟ لماذا يحدث كل هذا؟! ما هو مبرر الشر الأخلاقي في العالم؟!

سأقول، هذا هو ثمن الحرية، ثمن الاختيار، فقد تركنا الله لنفعل ما نريد أن نفعله بغض النظر عما إذا كان هذا الشيء خيرًا أو شرًا بمطلق الحرية والإرادة، الله أعطانا الحرية، والحرية اقتضت الصواب والخطأ، ولا معنى للحرية دون أن يكون لنا حق التجربة والخطأ والصواب، وكان في قدرة الله أن يجعلنا أخيارًا، وذلك بأن يجبرنا جميعًا على الطاعة ويسلبنا حرية الاختيار، لكني باعتباري إنسانًا، فأنا أنبذ العبودية مع السعادة وأفضل الحرية مع الألم – خصوصًا إذا كان الألم محدودًا لا يلبث أن ينقضي وتعود السعادة -، لكن ربما يحبّذ البعض السعادة مع العبودية.

ولهذا تركنا نخطئ ونتألم ونتعلم، وهذه هي حكمة وجود الشر الأخلاقي.

في رواية عالَم صوفي – التي أنصح بقراءتها – عندما كان «ألبرتو» يتكلم مع «صوفي» عن كارل ماركس والماركسية قال:

نلاحظ أن كل شيء يتحول، عندما يصل إلى يد الإنسان، إلى مزيج من الخير والشر، بمعنى أننا لا يمكن أن نُحمِّل ماركس مسئولية الأخطاء التي ارتُكبت باسمه بعد خمسين أو مئة سنة من وفاته في هذه الدول التي تُدعى الشيوعية أو الاشتراكية. ربما أنه لم يفكر بأن الذين سيُديرون الشيوعية هم أيضًا بشر، وأن لكل البشر مساوئ، وبأن الجنة لن تتحقق على الأرض، غدًا. فالبشر يعرفون دائمًا كيف يخلقون مشاكل جديدة.

الملايين من البشر يموتون سنويًا بسبب مرض أو وباء علاجه دولارات يسيرة، ولا يساهم فيها أكثر الأغنياء، فنحن أمام تقصير بشري وليس إلهيًّا، فالله أعطانا الحرية – نحن الأغنياء – لكي نساعد هؤلاء المساكين بما نستطيع من مال، لكن بما أن الحرية تقتضي فعل الخطأ كما الصواب، فهناك من لا يفعل ذلك.

وهنا تتضح لنا نقطة هامة، وهي أن الله لم يخلق الشر حقيقةً وإنما سمح به فقط.

إن الفوضى هي فعلنا نحن، وهي النتيجة المترتبة على حريتنا، فَعَل الله ذلك لكي يحاسبنا على ما فعلناه بمطلق إرادتنا وبما اقترفته أيدينا ولكي لا يكون لنا حجة. فلا معنى لحياة نحن مسيّرون فيها تسييرًا كلّيًّا، ولا معنى لحياة أيضًا نحن متصرّفون فيها مطلق التصرف. فلا إفراط ولا تفريط.

هذا الفيديو يلخص فكرة الحرية وعلاقتها بالشر الأخلاقي بطريقة جميلة ومبسّطة:

وهذا ينقلنا إلى السؤال الثالث الموجه للسيد س:

لو كان الإله شريرًا، فلماذا خلق لنا عقلًا نميّز به بين الخير والشر؟

وكذلك السؤال الرابع:

إذا كان الإله قد أعطانا الحرية في صنع الخير والشر، هل يعقل أن ينتج عن ذلك أن يكون العالم خيرًا محضًا كما تتمنى أنت؟

لماذا لم يجعلها جنة؟

هنا يقف السيد س ليتساءل؛ لماذا سمح الله بالشر في هذه الدنيا أساسًا؟ لماذا لم يجعلنا نمكث بجواره في الجنة لنرتاح من كل هذا العناء؟

والجواب – كما أسلفت – أنه أعطانا الحرية، والحرية تقتضي الصواب والخطأ، لذا لو جعلنا الله بجواره في الجنة لحوّلناها لدنيا، فهذا يسرق وهذا يزني وهذا يقتل بناءً على الحرية التي أنعم الله بها عليه، فتتحول من جنة إلى دنيا لذا فمن العبث أن يخلقنا الله في الجنة وأن يعطينا الحرية في الوقت نفسه.

لمزيد من التوضيح شاهد هذا الفيديو للدكتور عدنان إبراهيم (ملحوظة: دعك من المؤثرات الموسيقية وركّز فقط على الكلام، فربما يكون خطأ!):

أما لماذا لم يكتفِ الله بخلق الملائكة، وخلقَ البشر؟ فهذا موضوعٌ آخر يحتاج إلى نقاش مطوّل وهو «لماذا خلقنا الله؟» أساساً، لكن هذه قضية أخرى لسنا بصددها.


الشر والخير وجهان لعملة واحدة

الشر والخير وجهان لعملة واحدة، فأنت حينما تمرض تشعر بأهمية الصحة وتستشعر حلاوتها خصوصًا عندما تبرأ من هذا المرض، فالصحة تاج على رؤوسنا لا نراه ولا نعرفه إلا حينما نمرض.

وعندما تصيبك الخسائر المادية وتحيط بك الديون من كل حدب تشعر بأهمية الغنى وتستشعر حلاوته خصوصًا عندما ترجع حالتك المادية إلى الاستقرار.

وعندما نرى الناس يموتون والأصدقاء يرحلون نشعر بأهمية الحياة ونستشعر حلاوتها فننطلق سعداء كي لا نضيع لحظةً من حياتنا القصيرة.

وهكذا الحرب والسلام، العدل والظلم، الشر والخير، الحزن والسعادة، الجمال والقبح، النجاح والفشل.

تمامًا مثل مقولة: «لولا وجود عكس المعنى، لما كان للمعنى معنى».

الآلام تعد نعمة في العموم وتعتبر عاملًا مساعدًا ودافعًا قويًا فقط لمن يريد ذلك، أما أولئك الذين يستسلمون لها فستكون نقمة لهم لا ينالون إلا من شَرِّها.

المرض يخلف الوقاية ويقوّي المناعة، والألم يمدنا بالصلابة والجلد، والموت يحفّزنا لنستمتع بالحياة قبل انقضائها، والحروب تدمج الأمم وتجمعها في كتل وأحلاف وتقلل من الزيادة السكانية وتزيد من التنافس على التقدم العلمي.

والحروب عندما تدمر البلاد وتهدم البيوت وتقتل الأطفال فتطلق على هذا الفعل شرًا، ولكن إذا نظرنا إلى الأمر من ناحية أخرى فسنجد أن للحروب نتائج إيجابية، فهي تدمج الأمم وتنشئ التحالفات، ويوجد اختراعات عظيمة خرجت أثناء الحروب.

تم إطلاق أول مركبة من صنع الإنسان إلى الفضاء «سبوتنيك 1» إبان الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي، ويرجع شرف صنع المركبة إلى الاتحاد السوفيتي، وأول مركبة هبطت على سطح القمر «أبولو 11» كانت من قبل أمريكا.

كذلك تم اكتشاف الذرة أثناء الحرب، الطائرات النفاثة، الكمبيوتر، الرادار، وتم تطوير الطاقة النووية واستخداماتها أثناء الحرب، فالحروب أفادت كما أضرت ووصلت كما قطعت.

ولعل أكبر الأضرار الناتجة عن الحروب هي كثرة الموت فيها، لكن هذا الضرر مفروغ منه، فإذا كانت حياة الكائن الناقص تنتهي بالموت لا محالة، فلا فرق بين موت الألوف معًا وموت الآحاد متفرّقين – بعيدًا عن طريقة الموت -، فهو ضرر واقع على كل حال – يمكن أن أظهر بشكل قاسٍ بعض الشيء بهذا الدليل، لكن يمكنك المضي قدمًا كأنني لم أذكره، فأنا حتي لست مقتنعاً به بشكل كامل.

والآن حان موعد السؤال الخامس للسيد س:

ما تفسيرك لحقيقة أن الشر نعمة وليس نقمة – ولو في جزء منه؟

لماذا لم نُخلق كاملين؟

يرى البعض – مثل السيد س – أن النقص البشري يعتبر شرًا، وذهبوا إلى أن الخلق الناقص يدل على نقص الإله وعدم قدرته على إيجاد مخلوقات كاملة، هذا هو ما يطلق عليه «الشر الميتافيزيقي»، وتتعدد عوامل النقص كأن للمخلوق بداية في الزمن، أو أن له نهاية حتمية، أو أنه ليس مستغنيًا ودائمًا محتاج، أو أنه دائم الحركة والتغير، أو أنه ليس مطلق الحرية.

وهذا المفهوم يتناقض مع نفسه، فكل ما عدا الله موجودات مخلوقة، كل ما أوجده الإله هو حادث بقدرته – بقدرة الله -، هذا المخلوق بطبيعته لابد أن يكون ناقصًا ومحدودًا لأنه ليس خالِقًا وطالما أن المخلوق ناقص فلابد أن ينبثق عن هذا النقص «ما نسميه» بالشر.

فالموت مثلًا نوعٌ من النقص وهو ينهي حياة الإنسان لذا فهو يعتبره نوعًا من الشر، والمرض أيضًا نوع من النقص وهو يُضعِف الإنسان ويمكن أن يقتله لذا يعتبره الإنسان نوعًا من الشر.

وفي الوقت الذي يبقى فيه الإنسان صحيحًا لا يمرض وخالدًا لا يموت عندها ستتلاشى فكرة الشر المتعلّقة بالمرض والموت، عندها ستكون الجنة! أما نحن الآن في الدنيا «الناقصة» – يمكن ألا يُعدّ هذا دليلًا كونه يستلزم إثبات الحياة الآخرة وهذا موضوع آخر، ولكن سبق أن تكلمنا عن ذلك في «لماذا لم يجعلها جنة؟».

الأمر أشبه بعلاقات الحب والصداقة بين البشر، فما الممتع في علاقة سويّة أطرافها في سعادة دائمة، لا يتشاجرون، لا يشعرون بألم الفراق والشوق، لا يسهرون ولا يكدّون لإسعاد الطرف الآخر. فنحن هنا أمام علاقة جدّ مملة.

الخالق وحده هو الكامل، هذه الحالة (أن يخلق الله موجودات ناقصة) لا يمكن أن تتلافى إلا بعدم الخلق أصلا لأن مجرد الخلق يجلعها ناقصة، أن يكف الله عن الخلق، أما إذ خلق ويخلق فكل ما يقع تحت الخلق لابد أن يكون ناقصًا، أو يمكن أن تتلافى بأن يخلق الله آلهة كاملة مثله وهذا يكون عبثًا مطلقًا – غير أننا لا نستطيع أن نطلق على شيء أنه إله وقد تم خلقه، فالإله لا بد أن يكون خالِقًا ولا يصبح إلهًا إذا كان مخلوقًا، كما أوضحت.

وهنا يأتي السؤال السادس للسيد س:

أيهما خير؟ ألا يُخلق الوجود أصلًا، أن يبقى في حيز العدم؟ أو أن يُخلق مع نقصه، مع كمالاته غير التامة، مع الخير الكثير الذي يوجد فيه والشر القليل الذي يشوبه؟

ملحوظة: من صفات الجنة في الآخرة أنها ليست مملة وأننا عاجزون حتي عن تخيّل لذّاتها ونعمها. أما إذا حُوِّلت الدنيا إلى جنة فستكون مملة إلى أبعد حد، كونها ظهرت من جراء تخيّلنا لها، ولا يجوز المقارنة بين جنة من فعل البشر – أو من تخيلهم – وبين جنة من خالق البشر.

هكذا نكون قد أنهينا الجزء الثاني من المقال، وأرحب بكل الانتقادات والآراء باحترام، وكما نوّهت، فسأرد بعد نشر الجزء الرابع.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.