هنالك مقولة منسوبة للمخرج الأمريكي الشهير ستانلي كوبريك عن فيلم «قائمة شيندلر» Schindler’s list لمواطنه الشهير ستيفين سبيلبرج، حينما سئل عن رأيه في الفيلم استنكر كوبريك أن يكون الفيلم عن الهولوكوست، لأن «قائمة شيندلر» فيلم عن الانتصار، الهولوكوست هي حدث لقي به ستة ملايين شخص حتفهم لكن «قائمة شيندلر» عن ستمائة شخص لم يفعلوا، يمتلك كل من كوبريك وسبيلبرج نظرة مختلفة عن الحياة والسينما والفن، وعلى الرغم من منطقية رأي كوبريك في «قائمة شيندلر» فإن نقده ذلك بالتحديد هو جوهر أعمال سبيلبيرج، أعمال تضم أفلام محطمة للأرقام القياسية، أفلام مرضية للجماهير تعتمد على متعة المشاهدة المجردة، تعطي الأمان لمشاهديها أنهم سوف يذرفون دموع الفرح بعد الحزن، معظم أفلام سبيلبرج في لبها عن الانتصار، ليس الانتصار في شكله المجرد المثالي، لكن عن الانتصارات الصغيرة، وإيجاد الأمل في نهايات الطرق وفي أكثرها قتامة، يركز سبيلبرج على ما يبعث الأمل حتى ولو كان في خضم محرقة عالمية لأصحاب عرق ودين ينتمي هو نفسه له أو الأمل الذي ينتظره طفل يريد أن يتحول من دمية إلى ولد حقيقي فيحظى به بعد انتظار يدوم آلاف السنوات.

في آخر أفلامه يفتش سبيلبرج عن الأمل كعادته، لكن ليس في خضم حرب عالمية أو حدث ضخم يهدد سلامة الأرض، بل في حياته الصغيرة بين أسرته، فيلم «عائلة فبيلمان» The fabelmans كما تم التسويق له هو فيلم عن طفولة سينمائي واعد، عن الأقليات في البيئات المهيمنة، وعن تفرد كل أسرة عن الأخرى وتشابه كل التجارب الأسرية في العالم ، يستدعي سبيلبرج ذكرياته الخاصة وشخوص حياته مثلما فعل قبله كثير من المخرجين، يستخدم الوسيط الذي يعمل به كأداة لنكء جراح الماضي ثم رتقها، ويتأمل أدق تفاصيل حياته الشخصية أمام العالم بأسره.

أفلام عن الانتصار

يبدأ فيلم «عائلة فيبلمان» بطفل في طريقه لمشاهدة الفيلم الأول له في قاعة العرض، تجربة حياتية جديدة لكنها لا تغير حياة الجميع، الجلوس في غرفة مظلمة مع حفنة من الغرباء لمشاهدة صور تتحرك وتروي قصة ما، لكن في حالة سام فيبلمان (ماتيو زوريون كطفل وجابرييل لابيل كمراهق) فإن مشاهدة قطار يتحطم على الشاشة يمثل نداء إلى عالم الأحلام، يستكشف الفيلم تدريجياً «عائلة فيبلمان» وفي منتصفها سام، تتكون العائلة من أب حنون يقدس الحياة العملية يعمل بالهندسة، ويقوم بول دانو بدوره برقة، وأم ذات موهبة فنية لم يكتب لها الظهور العام (ميشيل ويليامز)، وثلاث أخوات مرحات ممتلئات بالحياة، حياة سام ليست مثيرة أو ضخمة، بل على أفضل حال حياة متوسطة متوقعة لطفل نشأ في أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية في أسرة نووية تقليدية، لأب عامل وأم ربة منزل.

ماتيو زوريون من The Fabelmans 2022
ماتيو زوريون من The Fabelmans 2022

ما يجعل حياة سام مثيرة وجديرة بفيلم من أفلام سبيلبرج التي عادة ما تكون ممتلئة بالأحداث هو معرفتنا التامة بموضوع الفيلم الرئيسي، بأن النهاية المحتومة هي تحول ذلك الطفل لمراهق ثم إلى ستيفن سبيلبرج أو نسخة ما منه على الأقل، تلك النهاية الحتمية هي ما تجعل الأمل ضرورياً والانتصار مضموناً، لا يحاول سبيلبرج أن يجعل قصته أكثر إثارة للاهتمام، بل يجعل من كل بادرة غير مرئية في حياة تقليدية مشهداً سينمائياً، يصور النضوج وانكسار القلب، الطموح وبدايات الموهبة، الخلافات الأسرية واكتشاف أن والديك أشخاص حقيقين خارج إطار حياتك، تفاصيل متكررة في معظم أفلام النضوج يجعلها سبيلبرج حية وجديدة بصدق مؤلم ورغبة حقيقية في التصالح مع ما حدث.

يتناول «عائلة فيبلمان» شخصياته كلها برقة نادرة، كل فرد يمكن تفهم دوافعه ويمكن محبته، يكاد يصيبه ذلك بخفة غير ملائمة لثقل موضوعاته، في عالم ذكريات سبيلبرج لا يوجد أشرار حقيقيون، متنمرو المدرسة يملكون قلوباً غضة يخفونها عن الناس، وأخطاء الوالدين التي لا تغتفر نظرياً في الحقيقة لديها أسباب وجيهة يمكن رؤيتها إذا فعلنا الحد الأقصى من التعاطف، السينما بطبيعتها أداة للتعاطف، للتداخل مع حيوات الآخرين وتفهمهم كلياً، حتى مع استحالة فعل ذلك في العالم الحقيقي، وهذا ما يحققه سبيلبرج بفيلمه، طاقة تعاطف وحب حقيقي لكل من يعبر طريقنا في الحياة، تعاطف مع معادي السامية ومع الخيارات الأنانية لأفراد الأسرة، وفوق كل شيء تعاطف مع الرغبة في ترك كل شيء من أجل أداة التعاطف نفسها: السينما أو الفن بشكل أعم.

ملاحظات عن الفن والحياة

يعمل «عائلة فيبلمان» ككتيب توضيحي عن الفن والحياة، عن ترجيح كفة أحدهما على الآخر، يعمر بأفكار مباشرة عن قيمة الفن وخطورته على ممارسة الحياة، فهو في النهاية على الرغم من مقياسه الصغير وحميميته الشديدة هو فيلم لسبيلبرج، يسير على كل النبضات المتوقعة ويرضى من يشاهده بنهايات تجعله يبتسم أو على الأقل يتأكد أنه في أمان أن الفيلم لن ينتهي قبل النجاة، تتناثر طيلة مدة الفيلم نصائح من النماذج الأبوية في حياة سام، عن ضرورة التخلي من أجل الوصول للإمكانيات الحقيقية، التخلي عن الأسرة والتخلي عن الأفكار المسبقة عن الحياة.

تعمل الصورة أو السينما في «عائلة فيبلمان» ككاشف للحقيقة، تتكرر تيمة الاستكشاف عن طريق الصورة طيلة الفيلم، فعند توثيق حدث ما يمكن التقاط تفصيلة خفية كان من المستحيل رؤيتها دون فعل التصوير، يمكن رؤية ما لم تره من قبل بعينك غير المدربة، تعمل الرؤية عن طريق الكاميرا كأداة لتغيير كل شيء، ليس بشكل مجازي أو رومانسي بل بشكل حرفي، يحدث التغيير عن طريق الكشف ورؤية أبعد مما تراه العين، بعين إضافية تمثلها الكاميرا، عين لا ترى فقط بل تحتفظ بالحدث، ليتم تحليله، قطعه ووصله وإعادته مئات المرات في محاولة للوصول لحقيقة الآخرين، لتفهمهم، وجعلهم أكثر آدمية مما كانوا عليه.

يتصور «عائلة فيبلمان» العالم من وجهة نظر شخص نشأ بعد اختراع السينما، يصور عالماً سينمائياً بطبيعته، فهو لا يعود لماضي مفتقد للصورة بل إلى ماض تحكمه الصورة والثقافة البصرية، عندما ينشأ الفرد في وجود الأفلام فإنه يتلقى الحياة بلغة السينما بخاصة إذا كان مهتماً بشكل خاص بالوسيط، فهنالك وازع حتمي لتصور مشاهد الحياة كمشاهد من الأفلام، لترجمة ما نراه وحفظه في ذاكرة ملموسة، يمكن العودة إليها واسترجاعها، يصبح الوجود كله إمكانية محتملة لصناعة فيلم أو لتخيله إذا كان كذلك، إذا تعرضت لخلاف مع زميل عنيف في المدرسة فإن أول ما تفكر فيه هو كيف يشبه ذلك أفلام المراهقين، أو إذا علقت في خضم مواجهة عائلية محتدمة سوف تغير حياتك للأبد تتصور كيف يبدو ذلك إذا ما تم تصويره في فيلم سينمائي.

يضعنا فيلم سبيلبرج أمام تلك الحقيقة المحرجة، ويعترف بها أمامنا، فهو قد حققها بالفعل، إذا افترضنا أن الفيلم استعادة لذكريات المراهقة والطفولة فإن تلك التصورات قد أصبحت حقيقة، الأفكار التي راودته عندما شهد خلاف والديه فتشتت عن الحدث الحقيقي وتوجه لتصوره كمحتوى بصري وقصصي محتمل، ووعده لأحدهم أنه لن يصنع فيلماً عنه أبداً قد تم خرقه، بالطبع لا يمكن تصور أو افتراض أن الذكريات المعروضة في الفيلم حقيقية ودقيقة بشكل كامل فتلك ليست هي طبيعة الذكريات لكن الأفكار التي يتناولها أعم وأكثر كونية من مجرد ذكريات شخصية لواحد من أنجح وأشهر المخرجين التجاريين في السينما الأمريكية والعالمية، فهي أفكار تراود أي فرد عاش في عصر السينما سواء في بدايتها أو عندما أصبحت هي الحاكم لطريقة رؤيتنا للعالم وكيفية تلقينا للصور والتتابعات الحياتية، وكيف تتوقف الحدود الفاصلة بين السينما والحياة ويصبح من الصعب معرفة من جاء أولاً.

«عائلة فيبلمان» هو أحد أفضل أفلام ستيفن سبيلبيرج في السنوات الأخيرة، يمكن إرجاع ذلك بشكل رئيسي لكونه فيلم أراد صناعته فعلا وليس مجرد مشروع كسول للبقاء على ساحة سينمائية تصبح خانقة أكثر يوما بعد يوم، يمثل الفيلم مشاهدة سينمائية ممتعة وبسيطة، لا أفكار معقدة أو تقنيات متباهية، أحداث تسير بمنطق زمني متلاحق، وتلمس النبضات العاطفية المتوقعة منها، وعند مشاهدته في قاعة العرض يمكن الاستمتاع بواقع أنك في دار عرض تشاهد فيلماً عن شخص في دار عرض يشاهد فيلماً لأول مرة في حياته فيتغير إلى الأبد.