شكلت الحرب العالمية الأولى منعطفًا تاريخيًا صاغ شكل الدولة الحديثة، ومهد لترسيخ النظام العالمي الجديد. وكان العنوان الأبرز بعد الحرب هو انهيار الامبراطوريات الكبرى متنوعة الأعراق، وانفتاح عصر القوميات.

وقد تم الزج بالعرب في أتون الحرب العالمية الأولى دون أن يكون لهم قرار المشاركة أو التأثير في نتائجها، وكان الفرنسيون أول من استخدم الجنود العرب من المغاربة في باكورة المعارك، بينما ضم الجيش العثماني 300 ألف مقاتل عربي من العراق والشام، شكّلوا ثلث الجيش العثماني المقاتل خلال الحرب، كما وجد الشريف حسين ومن التف حوله أنفسهم بيادق في جعبة دول الحلفاء (بريطانيا، فرنسا، روسيا) ضد خصومهم من دول المركز (ألمانيا، النمسا، الدولة العثمانية).

ومع انتهاء الحرب وما آلت إليه من تقسيم للمشرق العربي، بدا أن العرب كانوا مجرد حشو مدافع في صراع الدول الكبرى الذي لا ناقة لهم فيه ولا جمل، كما وصفهم الأديب اللبناني «ميخائيل نعيمة»، فيما تنكّر مستخدموهم للتضحيات الجسام التي بذلوها خلال الحرب، وتركوا دولهم المنهوبة منهكة ووحيدة أمام مبضع التقسيم الاستعماري.


الدولة العثمانية تدخل الحرب

بدأت الحرب العالمية الأولى صراعًا أوروبيًا محليًا على النفوذ، حتى أنها سميت في الولايات المتحدة بالحرب الأوروبية. بعد أسبوع من بدء الحرب أعلنت الدولة العثمانية الحياد (في الثالث من أغسطس/آب عام 1914م)، بينما دارت تحت الطاولة مفاوضات ألمانية-عثمانية لإقناع الأخيرة بدخول الحرب إلى جانبها.

قاد أنور باشا الدولة العثمانية لدخول الحرب العالمية الأولى بجانب ألمانيا والنمسا، الأمر الذي بقيت أسبابه محل جدل حتى الآن في أوساط المؤرخين.

كان وزير الحربية العثماني، إسماعيل أنور باشا (حكم بين عامي 1914-1918م) أحد قيادي حركة تركيا الفتاة، وقد كان شخصية ذات صيت ونفوذ في أوساط النخبة العثمانية، إلى جانب حظوته بعلاقات شخصية مع الألمان، فقد درس في إحدى الكليات العسكرية في برلين، وكان منبهراً بالنهضة الألمانية.

قاد أنور باشا، الذي كان متزوجاً من حفيدة السلطان عبد المجيد الأول، حركة تحويل القرار العثماني من الحياد خلال الحرب الأولى، إلى الاصطفاف الكامل إلى جانب ألمانيا والنمسا، وبقيت أسباب دخول العثمانيين الحرب محل جدل حتى الآن في أوساط المؤرخين.

ووفق الجنرال الألماني إريش لودندورف (قاد أهم معارك الحرب الأولى)، فإن التدخل العثماني مكن ألمانيا من الاستمرار عامين إضافيين في الحرب، ولولا العثمانيين لانتهت الحرب العالمية الأولى عام 1916م. وقد بدا قرار الحرب الذي دفع أنور باشا باتجاهه أقرب للانتفاع الشخصي، نظراً لكون الألمان هم من كانوا بحاجة العثمانيين في هذه الحرب، لا العكس، لا سيما لموقع الأناضول الجيوبوليتيكي الذي يشكّل سداً متقدماً ضد أعدائهم الروس.

كان الأتراك بشقيهم العثماني والقومي، يعيشون حالة من التقارب مع ألمانيا القيصرية قبل الحرب، وقد اعتقد العثمانيون أن ألمانيا والنمسا أقوى من دول الحلفاء، وعوّلوا على تحالف فريد معهما بعد الحرب.

دخلت الدولة العثمانية القتال فعلياً في 29 من أكتوبر/تشرين أول عام 1914م، عبر مهاجمة القوات الروسية على الشواطئ الروسية للبحر الأسود، على إثر ذلك أوعز العثمانيون لمفتي السلطنة الملقب بشيخ الاسلام، أن يعلن النفير العام للجهاد من مسجد الفاتح باسطنبول، وبدأت الدولة العثمانية تحشد لمحاربة الحلفاء تحت مظلة الحرب الدينية والمشاركة في الجهاد المقدس، وهي دعاية تواطأ فيها قوميو تركيا الفتاة والاتحاد والترقي أصحاب التوجه المتضاد مع الإسلام.


خطط التقسيم

فتحت هزائم ألمانيا ودول المركز شهية الحلفاء على الاستيلاء على أراضي ومصالح الامبراطوريات المنهزمة، وبدأت تدور في الخفاء مخططات تقسيم التركة العثمانية بين القوى الكبرى المنتصرة في الحرب. ويقول الرأي السائد ما بين المؤرخين، أن فكرة تقسيم الدولة العثمانية لم تكن مسيطرة على القوى الاستعمارية بداية الحرب، إنما كان التركيز على بقع أخرى في الشرق الأوروبي والبلقان، وهي الأراضي التي نشب الصراع الأوروربي عليها في الأساس.

ويدعم هذا الرأي أن كلاً من فرنسا وبريطانيا التي تقاسمتا تركة المشرق العربي، لم تحرّضا العثمانيين على دخول الحرب كما فعلت ألمانيا. ويرى المؤرخ الفرنسي جاك فريمو، أن مشروع التقسيم الذي تم ترسيمه في اتفاقية «سايكس-بيكو» لم يكن وارداً في بداية القتال، إذ لم يكن من المعروف أي موقف ستتخذه السلطنة العثمانية، وكان مأمولاً منها ألا تتدخل.

أما على الأرض؛ فلم تشكل «سايكس-بيكو» سوى مسودّة نظرية ساهمت في التمهيد لفكرة تقسيم المشرق العربي، لكنها على عكس الخطأ الشائع، لم ترسم الحدود الفعلية التي نراها اليوم، إذ لم يحصل التقسيم إلا بفعل الاحتلال العسكري البريطاني والفرنسي خلال الحرب العالمية الأولى، حيث حدثت إزاحات واضحة في الخرائط، وخرجت مناطق أخرى من تحت وطأة التقسيم.

المدّ القومي الجارف الذي سيطر على العالم في القرن الأخير قبل الحرب، ووصل إلى الأناضول عبر قيادات الاتحاد والترقي وتركيا الفتاة، ولم تسلم منه النخبة العثمانية المتأخرة، إلى جانب انهيار فكرة الامبراطوريات الكبرى لصالح الدول القومية، ساهم بشكل كبير في إعادة تعريف السلطنة العثمانية لهويتها، وجعلها تنكفئ أكثر نحو المركز، فتكتل ما تبقى من الجيوش العثمانية لحماية أراضي الأناضول (تركيا الحديثة) بطريقة استطاعت تغيير خرائط التقسيم، وإنقاذ تركيا من مصير مشابه لمصير المشرق العربي، إذ كانت تفاهمات «سيفر» و «سايكس-بيكو» قد أوصت بمنح مساحات واسعة من الأناضول لكل من روسيا واليونان وبريطانيا وفرنسا.

الانتصارات التركية التي قادها مصطفى كمال أتاتورك بُعَيْد الحرب العالمية الأولى (ما عُرف بحرب الاستقلال)، حمت تركيا من هذا المصير، فيما خرج المشرق العربي منهكاً وممزقاً من سنوات الحرب، وتُركت هذه البلدان تواجه مصيرها دون خطة دفاع، مما قاد إلى تثبيت خرائط تقسيمها وتحولها إلى حقيقة ماثلة للعيان.


العرب ضحايا القومية

الانتصارات التركية التي قادها مصطفى كمال أتاتورك فيما عُرف بحرب الاستقلال، حمت تركيا مصير التقسيم، بخلاف المشرق العربي الذي خرج منهكاً وممزقاً من سنوات الحرب.

كانت الحرب العالمية الأولى صراعاً استعمارياً غذّته المشاعر القومية التي فتكت بالعالم خلال عقود سبقت الحرب، وقد اكتوى العرب كغيرهم من شعوب العالم بنار القومية حين استعرت داخل القيادة العثمانية المتأخرة، فأصبحت ترى المنطقة العربية مجرد مصدر لجباية الضرائب والتزويد بالمقاتلين. ثم اكتووا بها ثانية حين انكفأت الدولة العثمانية نحو المركز تاركة عمقها الشرقي لمصير التقسيم بعد الحرب، واكتووا بها ثالثة حين نجح البريطانيون بإغواء الشريف حسين للقتال ضد العثمانيين، مقابل وعود بدولة قومية مستقلة للعرب.

قادت القراءات الأيدلوجية القوميين العرب إلى اختزال تاريخ العلاقة الطويلة مع العثمانيين بسنوات المجاعة وإعدامات جمال باشا، في مقابل تصوير الإسلاميين لها بصورة ملائكية منزهة عن الأخطاء.

يحتاج التاريخ دوماً إلى عين منصفة تجيد قراءته بعيداً عن العدسات الملونة بالدين أو القومية، إذ أن الأحداث الكبرى التي تصنع صيرورة التاريخ أعقد من أن تحرّكها اعتبارات أيدلوجية خالصة، إنما تتفاعل فيها عشرات العوامل السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية.

وقد قادت القراءات الأيدلوجية بعض العرب إلى اختزال تاريخ العلاقة الطويلة مع العثمانيين بسنوات المجاعة القاسية وبإعدامات جمال باشا (الملقب بالسفاح) للمثقفين العرب خلال الحرب العالمية الأولى، تماماً كما اختزل بعض الأتراك علاقتهم بالعرب، في سنوات تنامي البعد العروبي تحت مظلة ثورة الشريف حسين التي رأوها طعنة في الظهر. وفي المقابل قدّم الإسلاميون من الطرفين، روايات تاريخية هدفت لنقض الرواية القومية العربية أو التركية، فصوّرت العلاقة بين العرب والأتراك نهاية الامبراطورية العثمانية، بالعلاقة الملائكية المنزّهة عن الأخطاء والمظالم.

كانت القومية داء القرن العشرين بلا منازع، لكنها كانت أيضاً رأس الحربة التي شقت تاريخ أيامنا الحاضرة، فقد ساهمت الحرب الأولى بتفتيت الامبراطوريات الكبرى، وإعادة صياغة الكيانات السياسية على مبدأ القومية والتجانس العرقي. وفي هذه الأثناء لم يكن العرب يمتلكون كياناً يعكس هويتهم القومية، أو قوة عسكرية قادرة على حماية التركة العثمانية الناطقة بالعربية، فكان مصير العرب بعد الحرب مريعاً، حين قادتهم أقدارهم للخضوع إلى القوانين القومية الجديدة في العالم، في وقت ذابوا فيه تحت راية الإسلام في امبراطورية كان مركزها وحصنها الذي تدافع عنها حتى الموت يقع في الأناضول، لا في ديار العرب.