(19)

تكاملتالحركة الأولى من المقاومة المسلحة من سلاسل من ردود أفعال المجتمعات الثائرة المحتاجة للحماية أمام سلطة عائلة مجرمة. كان هدف هذه الحركة التلقائي الضمني هو العمل على خلق مناطق آمنة كأمر واقع DE FACTO SAFE-ZONE، وذلك عبر شن هجمات غزيرة ترادفيّة أو متوازيّة في منطقة واحدة، وعبر التمترس في الأحياء الأكثر والأشد استهدافًا حيث لزم الأمر. ولم يكن غير ذلك ممكنا، من بعد ما قلِّبنا الأمور.

كان هدف هذه الحركة التلقائي هو العمل على خلق مناطق آمنة كأمر واقع وذلك عبر شن هجمات غزيرة ترادفية أو متوازية في منطقة واحدة، وعبر التمترس في الأحياء الأكثر استهدافًا.

حماية المظاهرات والحراك السلمي، والذي أُعلن عنه مرارًا وتكرارًا وصراحةً في بيانات المنشقين والمتسلحين والمجالس، لم تكن شعارًا زائفًا، لأن نظام الأسد لم يستهدف المظاهرات بعمليات قمع، بل استهدف الأحياء والمجتمعات الحاضنة والمنتفضة بعمليات انتقام وإذلال وتنكيل، ومجازر واعتقال عشوائي. وفي المرحلة الأولى، لم يكن من بد في أكثر المناطق من التمترس في الأحياء، لأن النظام ينتقم من الأحياء التي خرجت منها الثورة بكل الأحوال؛ حتى لو لم يتواجد فيها ثوَّار أو مقاومة.

مع الوقت تكوَّنت، بجهود الجيش الحر تحديدًا، لأن الجهاديّة لم تكن قد ظهرت في بدايات الحركة الأولى، ثم لمّا ظهرت، في وقت متأخر من هذه الحركة، كانت طريقتها البدائيّة استهداف مقار الأمن والجيش المجاورة للأحياء الخارجة عن السلطة بالتفخيخ والانغماس، وكانت أعداد مجموعاتها قليلة مطلقًا ونسبيًّا، وإنْ كانت عمليّاتها نوعيّة إلّا أنّها ما كانت لتحتفظ بقطاعات ولا لتحرر أخرى نظرًا لطبيعتها وقلّتها، وما كان لها أنْ تتحرك لولا هذه المناطق الآمنة. ممّا هو جليّ أنّ هذه المناطق الآمنة تكونت كنتيجة لـ «حرب العصابات» من شن هجمات على الأرتال الأمنية والعسكريّة المتجهة لأهدافها من مناطق التظاهر والثورة، وقطع الطرقات، وصدّفرق الموت على مداخل الأحياء والبلدات والمناطق، وليس كنتيجة «معارك ضارية» بالمعنى الحرفيّ، ولا كاستهداف مباشر لمراكز السيطرة العسكريّة والأمنيّة. وكان هذا العمل يتمّ بدايةً بأسلحة خفيفة، بنادق الصيد وعلب الديناميت والكلاشينكوف، وبالتظافر مع المقاومة السلميّة.

ومع تواتر حركة الانشقاق وتوفر الأسلحة الخفيفة، والمتوسطة على شحّها في تلك المرحلة، تكونت مناطق، ريفية، آمنة نسبيًّا ذات تجاور مع مراكز أو ضواحي مدن منتفضة، في حوران، دير الزور، شمال حمص وجنوب غربها، جبل الزاوية، جسر الشغور وشمالها حتى امتداد حبل الأكراد مع الحدود التركيّة، وادي بردى والزبداني. وما كان لمثل هذه المقاومة أن تتكون لولا الحركة الثورية الواسعة والعميقة والجذرية، وتمرد مجتمعات كبيرة ومناطق آهلة على سلطة عائلة الأسد، وخروجها عنها جزئيًّا، وهي الحركة الأولى من المقاومة «السلمية».

إنّ الحركة الأولى امتدّت منذ انشقاق الهرموش، يونيو/حزيران 2011، وحتى شنّ جيش النظام كبرى عمليّاته بالأسلحة الثقيلة في ربيع 2012، حيث تمكّن من دخول حي بابا عمرو في حمص على أنقاضه، ومن ثمّ اقتحام الزبداني بعد حصار دام أسابيع. ويمكن اختصار السمات العامّة لهذه المرحلة بما يلي:

  • سيطرة الحراك السلميّ على المشهد العام، رغبةً وقناعةً بجدوى الحراك الثوريّ السلميّ، رغم طبيعة وشدّة عنف النظام، وهذه الرغبة والقناعة كانت عامّة ومعتبرة.
  • هيمنة حركة الانشقاق على المشهد المسلّح، عبر وسائل الإعلام، ومن خلال تمثل العسكريين المنشقين في المجالس العسكرية.
  • سلاسل عمليات مناطقية تقوم بها مجموعات صغيرة، وأحيانًا مجموعة واحدة، من منشقين أو متسلحين، تستهدف الأرتال الأمنية والعسكريّة، وتأخذ أحيانًا طابعًا بسيطًا وعفويًّا، كما يحدث حين يشن النظام مداهمة ليليّة وتقوم مجموعة من الشباب مع أحد المنشقين بالتصدي لهم، ولكن مع تصاعد حركة الانشقاق والتسلّح في مناطق معيّنة، توسعت العمليّات.
  • سيطرة خطاب «وطنيّ» مهتم بسوريا وشعبها، ومتفرع عن الثورة، مفرداته عامّة تدور حول حماية المتظاهرين والثوّار لتحقيق مطالبهم، ومن ثمّ في وقت متأخر لمساعدتهم على «إسقاط النظام».
  • سيولة التشكيلات العسكريّة، والتي تأخذ طابع التفرعات المناطقيّة أفقيّة التكوين، وليس الهرميّة، حيث يكون على رأس كلّ تفرع شخصيّة ثقلها منها وليس من موقعها أو وظيفتها، وحيث تأخذ التجمعات هيئة التآزر والتنسيق والتناصر لا الانتظام والتنظيم. وهذا امتدّ عبر الحركات الثانية والثالثة، وحتى اليوم وإنْ على نحو أقلّ.
  • نجحت في حماية النوى المنتفضة عبر توفير مناطق بعيدة نسبيًا عن سطوة جيش ومخابرات الأسد المباشرة أمكن للثورة فيها الاستقرار والتعزز، وولدّت الأمل بإمكانيّة التحرير أو/و المقاومة. ويمكن القول ببساطة أنّها حالت دون استئصال الثورة في مهدها، حيث فشل النظام في الربع الأوّل من عام 2012 من إعادة هيبته المنتهكة وسلطته الآخذة بالضياع على مناطق واسعة من البلاد رغم تصعيده عنفه وتوسيعه عمليّاته.
  • لأنّ الحركة الأولى كانت فرعًا على الحراك الثوريّ العام، وكحركة مقاومة وانشقاق في طابعها العام، تعززت شرعيّة الثورة، وتولد الاعتقاد في الداخل والخارج؛ بأنّ الانشقاق في بنى المجتمع والدولة عميق وقويّ وغير عكوس، وأنّها ثورة، وليست مجرد تمرد أو أعمال شغب.

(20)

انتهت هذه الحركة بحيازة الثورة والمقاومة لمناطق واسعة أعطت الانطباع والأمل بأنّ الثورة قد شارفت على الانتصار، وامتدّت نظريًّا حتى معركة القصير يوليو/تموز 2013.

تظاهرت الحركة الثانية من المقاومة المسلّحة بُعيْد العمليّات الكبرى التي شنّها النظام في الربع الأوّل والثاني من عام 2012، وتماديه في ارتكاب مجازر كبيرة وكثيرة وفظيعة، حيث كان هذا العام فترة مجازر السكين والتصفية الجماعيّة ذات الطابع المسرحيّ الإذلاليّ، من مجازر حمص إلى مجازر الغوطتين ومجازر إدلب ودير الزور، ومع توسّع حركة الانشقاق أفقيًّا وعموديًّا، وتوسّع حركة التسلّح في الأوساط المنتفضة. وانتهت هذه الحركة بحيازة الثورة والمقاومة لمناطق واسعة أعطت الانطباع والأمل بأنّ الثورة قد شارفت على الانتصار، وامتدّت نظريًّا حتى معركة القصير يوليو/تموز 2013، وإعلان حزب الله اللبنانيّ عن تدّخله الصريح في سوريا، وانطلاق كبرى عمليّات النظام في القلمون الغربيّ والغوطتين. ومع نهاية هذه المرحلة كان تنظيم الدولة الإسلاميّة قد أعلن عن نفسه وأظهر العداوة لقوى وفصائل الثورة والمقاومة.

ويمكن اختصار السمات العامّة لهذه المرحلة والحركة بما يلي:

  • توسّع الحراك المسلّح، مع استمرار الحراك السلميّ، وتعززه رغم انحساره النسبيّ، واستقراره في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، واستهلال العمل ـــــــــ الذي فشل أو بتر بسبب الإبادة الأسديّة والعدائيّة الجهاديّة ـــــــــــــ على تكوين المؤسسات المدنيّة والخدميّة.
  • تصاعد ظهور الحركات الإسلاميّة، الجهاديّة وقرب الجهاديّة، والحركات ذات الطابع المتديّن والإسلامويّ، والتي أخذت بالإعلان عن نفسها كفاعل سياسيّ بدءًا من النصف الثاني من 2012.
  • تميّز العمل العسكريّ بالتآزر بين الحركات أعلاه وبين مجموع فصائل الجيش الحرّ حيث أنّ التحيزات الفكريّة التي بدأت في وقت متأخر من هذا العام لم تكن قد أثرت بعد على العمل الميدانيّ، وحيث كان العدوّ الوحيد على نحو متناقص هو نظام الأسد. وهذا التآزر أخذ شكل تحالفات موضوعيّة ميدانيّة لا مفكر فيها كوحدة أو تنظيم سياسيّ –عسكري، ولا حتّى كنواة له، حيث سنلاحظ في الحركة الثالثة والمتأخرة أنّ الإشكاليّات والمشاكل لهذه الجهة كانت تنمو ويتمّ ترحيلها.
  • انطلقت عمليّات كبرى، مع ازدياد العدّة والعتاد، وتوفّر الممرات والمناطق الآمنة كأمر واقع، وتمكّن الحركة الأولى والثانية من اغتنام السلاح من المواقع العسكريّة النظاميّة الأبعد والأقل تحصينًا.
  • تطوّرت في هذه المرحلة الهيئات التنظيميّة للتشكيلات العسكريّة، وإن على نحوٍ مناطقيّ متزايد، وتكاملت الجبهات المعروفة لليوم؛ الشرقيّة، الوسطى، الساحل، الجنوبيّة، والشماليّة. وفي نهايتها برز دور الحراك المسلّح في حلب على نحو لافت، وهي التي تأخرّت نسبيًّا في الانخراط في الحراك السلميّ.
  • بدأت تظهر أكثر النزعة الفصائليّة، والفرز بين جيش حرّ وقوى إسلامويّة، وجهاديّة. وذلك ما فصلنّاه سابقًا.
  • فشل الحراك المسلّح في الاستفادة السياسيّة من المكاسب على الأرض، وهو فشل الثورة عمومًا بمكوّنات المعارضة ومجالسها في الخارج، ومكونات المقاومة والثورة المسلّحة والمدنيّة في الداخل.
  • تميّزت العمليّات العسكريّة في هذه المرحلة بمهاجمة القواعد العسكريّة من جويّة وغيرها، والمقار الأمنيّة، وحتى المرافق المدنيّة مما اتخذّه النظام قواعد للأمن وفرق الموت والشبيحة، ومما لم يتخذّه. ولا شكّ في أنّه، وبسبب فارق موازين القوى الكبير، تمّ تطعيم هذه العمليّات بوسائل حروب العصابات، مع توسّع عمليّات الجهاديّة في التفخيخ والانغماس، والتي ظلّت حتى اليوم تظهر في بعض العمليّات كمعاوض لغياب القوّة الناريّة، حيث يبرز دورها في الاقتحام، لا في الدفاع والرباط.

(21)

إنّ الحركة الثالثة من المقاومة المسّلحة تميّزت بصعود الفصائليّة والجهويّة، وتكاملها إلى ما نعرفه اليوم، وهو قبل كلّ شيء نتاج عدم الاستثمار السياسيّ الحكيم في مكاسب الحركتين الأولى والثانيّة، وبدء تقويض المرجعيّات المتعلقة بالثورة والمقاومة وذلك على إثر تفشّي الجهاديّة المتأخرة، الفراديّة والحزبيّة، وتمدد تنظيم الدولة من بعد إعلانه عن نفسه ومشروعه ربيع 2013، وانقضاضه قبل كلّ شيء على شقيقه تنظيم جبهة النصرة، وعلى فصائل الجيش الحرّ والإسلاميّة المحليّة. وإنّ الفصائل التي نعرفها اليوم إنّما تشكلت على هذا النحو واستقرّ تمايزها في النصف الثاني من عام 2013 وبدأت تتمايز أكثر مع حروب تنظيم الدولة والتي امتدّت خلال النصف الاوّل من عام 2014 وانتهت بإعلانه الخلافة رمضان صيف 2014 من بعد سيطرته على الشرقية كاملة وانحساره في إدلب وحلب تحت وقع ضربات الثورة والمقاومة.

على الجانب الآخر تضافر ما سبق مع سفور التدخل الأجنبي الإيرانيّ والمليشياويّ الشيعيّ، ومع استخدام النظام لأسلحة أشدّ وأوسع فتكًا منذ مذبحة الكيمياويّ في الغوطتين أغسطس/آب 2013؛ حيث تمكن حلف العدوّ من تحقيق اختراقات استراتيجيّة انتهت بعزل جبهات الثورة كما هي عليه اليوم، وذلك من خلال تصفية الثورة في حمص المدينة وأريافها المحاذية للبنان والممتدّة عبر القلمون الغربيّ، وكانت هذه رئة الجبهة الوسطى، رئة الثورة، ومن خلال تصفية الثورة في القلمون الغربيّ وعزلها عن الغوطتين على نحو شبه تام، وعزل الغوطتين عن بعضهما البعض، وعن جنوب العاصمة. كما تولّى تنظيم الدولة مهمّة بتر العمق الاستراتيجيّ الفراتيّ للثورة عبر سيطرته على حوض الفرات حتى حلب. وكان لصعود حزب الاتحاد الديمقراطيّ المستثمر في نادي مكافحة الإرهاب العالميّ عبر حربه مع تنظيم الدول؛ دورُ ثالثة الأثافي في عزل قوى الثورة والمقاومة عن العمق التركيّ والعراقيّ بشكل جزئيّ.

ولمْ تتوقف عمليّات الفصائل الثوريّة والمقاومة في هذه المرحلة، لكنّها أخذت على نحوٍ أوضح طابع المناطقيّة والفصائليّة حيث انحسر كلّ فصيل وتشكيل إلى معقله الأوّل بعد تقطع ساحة الثورة،وانتابها طابع التنافس بين الفرز الآخذ بالتعمق، والتظاهر على شكل مشاريع مخصوصة، مع ضياع «الطابع الوطنيّ أو الثوريّ أو الجامع للخطاب»، وتلاشي السمّة المحليّة للصراع، بسبب استدعاء النظام للتدخل الأجنبيّ صراحة، وتوفرّ ظروف صعود الجهاديّة المتأخرة بكل عللها الظاهرة والباطنة. وكان آخر هذه العمليّات ما أسميه الضربة الثلاثيّة التي أخرجت النظام وحلفه من إدلب، ووفرّت عمقًا عمليّاتيًّا لمعارك الساحل وحماة عبر امتداد سهل الغاب، وحلب. قبل أنْ تنطلق العمليّات الروسيّة الجويّة والبريّة أكتوبر/تشرين الأول 2015 حيث حققت أولى أهدافها في منع تداعي النظام وحلفه أو سقوطه التام تحت وقع هذه الضربات، ومن ثمّ إعادة احتلال قطاعات ذات أهميّة سياسيّة بالغة، وذات أهميّة استراتيجيّة عسكريّة خطيرة، وتمثلت أساسًا في معركة حلب، عبر عزلها عن الريف الشماليّ وعن كردور كلس، وهو الكردور الأهم في الشمال منذ صعود دور لواء التوحيد في حلب أواخر 2012. وعبر العمل على حصار المدينة والقضاء على جيب الثورة والمقاومة الأكبر في الشمال من حيث أهميّته السياسيّة والتاريخيّة.

في هذه المرحلة الطويلة والممتدّة حتى اليوم حدثت الكثير من التغيّرات، غير المفيدة والمهمّة على المستوى العام، وربّما التراجعيّة لو نظرنا فيما كان يجب أن يكون، في بنى الجيش الحرّ، وفي بنى العمل المسلّح، إلّا أنّالتغيّر العام تم في اتجاهين:

  • تمايز التجمعات المسلّحة حسب الجبهات، وتحت ضغط الميدانيّ، أكثر منه بدافع انتظام السياسيّ –العسكريّ، وهذا بالغ الأهميّة برأيي، حيث حدث تقهقر نسبيّ مقارنة بالحركتين الثانيّة والثالثة، فلإنْ كانت هذه المرحلة شهدت نشوء غرف عمليّات وجبهات و«جيوش» كبيرة للجيش الحرّ، تشكيلات كبيرة؛ إلّا أنّها كانت تشكيلات غير هرميّة، وغير ذات مواقع وظيفيّة ثابتة، وكانت رخوة، وما هو أخطر مناطقيّة أكثر مقارنة مع ما سبق، أو مع ما هو متوقّع. تجمعات حلب وريفها، تجمعات شمال حماة، تجمعات الساحل، تجمعات القلمون الشرقيّ، داريا كحالة نماذجيّة مصغرة، الجبهة الجنوبيّة كمعقل للجيش الحرّ، كبير ومع ذلك غير ناضج بما يكفي ليكون النموذج الأكبر لعمل سياسيّ عسكريّ منبثق عن الثورة. وبشكل موازٍ لذلك تطوّر العمل السياسيّ المكاتبيّ الخاص بالتشكيلات والتجمعات، والمستقر في دول الجوار، وهي مكاتب دعم وارتباط ووظائف سياسيّة وإعلاميّة بدائية.
  • ظهور تشكيل جيش الفتح، وتنامي دوره مع معارك إدلب. وبعيدًا عن جدل الجهاديّة المتأخرة، وعن جدل مشروع جبهة النصرة؛ فما يهمني هنا هو الإشارة إلى أنّ هذا التشكيل وبما حققّه، جنبًا إلى جنب مع فصائل الجيش الحرّ في الساحل وشمال حماة، لم يكن عامل توحيد عسكريّ، ولا سياسيّ، كما كان متوقعًا. وهنا أشير إلى نقطة جوهريّة هي من الحقائق القطعيّة في العمل العسكريّ السياسيّ؛ وهي إنّ الانجازات الميدانيّة التي تنطلق فيها أطراف من كونها متمايزة بنيةً ومشروعًا لا تؤدّي إلى التوحيد، لا الموضوعيّ ولا القصديّ، لا الميدانيّ لا السياسيّ؛ وإنّما العكس، حيث يظهر التنافس والتحيّز أكثر، وتسعى قوى لابتلاع قوى أخرى. وإذ نسلّم أنٍ انجازات معركة إدلب ليست ضخمة بالمطلق، وإنّما نسبيًّا نظرًا لطبيعة الصراع والحرب في سوريا؛ فإنّنا يجب أنْ نتذكر إلى ذلك إلى إنّ هذه التحيزات وهذا التنافس من جانب الجهاديّة المتأخرة، وقرب الجهاديّة؛ هي تحيزات مسحوبة ممّا قبل الثورة والحرب. كما إنّ قوى الثورة والمقاومة عمومًا، والفصائل الجهاديّة كلّها؛ اتسمت بتعجل الثمرات وإعلان مشاريع السلطة في الحالة السوريّة، عبر توّهم النصر أو قربه متمثلًّا بسقوط النظام الوشيك في حالة الأولى، وبإدارة الصراع من منطق مناطق التوحشّ في حالة الثانية.
  • انخراط عشرات الفصائل في عمليّة سياسيّة ترعاها الدول الفاعلة إقليميًّا ودوليّا، فصائل من الثورة والمقاومة، بما فيها متديّنة وإسلاميّة، وعلى رأسها حركة أحرار الشام الإسلاميّة وجيش الإسلام. وبالنظر إلى العموم وإلى الصمت الإيجابيّ من بعض غير المنخرطين؛ لم ترفضها إلّا الجهاديّة ـــــــــــــ جبهة النصرة وأعدال القاعدة ــــــــــــــــ؛ وناصبت الآخرين العداء ــــــــ مما هو مضمر ومعلن ــــــــــــ بسبب قبولهم للعمليّة التفاوضيّة والسياسيّة، الانتقاليّة، أو صمتهم عنها.

كنتيجة لطبيعة التدافع السابق صرنا إلىتمايز القوى التالية لجهة الحراك المسلّح، وتحت التصنيفات الواردة أدناه أتحدث عن أفراد وجماعات وفصائل، كما أتحدّث عن اتجاهات رأيّ داخل المقاتلين وداخل الثورة ومجتمعاتها إجمالًا، ولا أشير تمامًا إلى بنى صلبة مكتملة وناضجة كتصنيف ناجز وفق المعايير المقترحة:

  1. قوى الثورة: وهي قوى الجيش السوريّ الحرّ، والتي ترفع رايته، وتتسمى به صراحة، وخطابها فرع على خطابات المؤسسين الأوائل؛ وهم الحركة الأولى من المنشقين والمتسلحين، من الثوَّار أساسًا.
  2. قوى المقاومة: وهي فصائل قرب الجيش الحرّ، قوامها متسلحون مدنيون، وأقل منشقون، سواء ممن انخرطوا أساسًا في الحراك السلميّ أم ممن لم يفعلوا، ومنهم إسلامويّ الخلّة، ومنهم متدين السمة؛ والتدين والإسلامويّة في حقّهم سابق، أو أكثر: محايث، زلاحق لحالة التسلّح، وهو عمومًا محليّ متأثر بدرجات متفاوتة بهجين من الخطابات السابقة للثورة، من إخوانيّة وسلفيّة وجهاديّة. وهؤلاء ينتسبون عمومًا بطرق شتّى إلى الجيش الحرّ، أو يسمون جيشًا حرًّا لكونهم قوى مقاومة تشكلت في الحركتين الأولى الثانية، ولم تفارق مشروع الثورة إلّا قليلًا، مع مطاوعة كبيرة.
  3. الجماعات الإسلامويّة المحليّة: ونشأتأو تكاملت نواها في الحركة الأولى، وكانت أقل حضورًا وظهورًا، ولم تظهر كفاعل سياسيّ حتى الحركة الثانيّة، ومنهم الأقرب إلى الجهاديّة، أو الجهاديّة المعدّلة المحليّة، منهم السلفيّة أو الإخوانيّة عمومًا. وهم أكثر نضجًا من قوى المقاومة لجهة تخيلهم المخصوص لأنفسهم ولمشاريعهم. وهؤلاء صعدوا كحركة مقاومة مع ارتكازهم على فكر وخطاب محدود سابق للثورة تم تعديله بشكل راجع بما يلائم الثورة وجدلها.
  4. الجهاديّة المتأخرة: ظهور متأخّر نسبيًّا ميدانيًّا، ومعتبرًا سياسيًّا، متمثلّة في القاعدة «جبهة النصرة»، وهي عائدة إلى فكرٍ جهاديّ سابق ومتجاوز لسوريا والثورة، معولم ومهاجر في طبعه، إلا إنّه حين الحديث عن جبهة النصرة فإنّ جزءًا مهمًا من حيثيّات حضورها وتوسعها في سوريا هي حيثيّات وآليّات مقاومة مجتمعات حيال حرب إبادة، وليس الاستجابة لدعوة ما، عبر القناعة بفكر الجهاديّة ومشروعها السياسيّ (مجازًا) ابتدءًا. وثقلها فيما آلت إليه الأوضاع حتى تاريخه في إدلب، مع حضور أقلّ متغاير الأهميّة في بقيّة الجبهات، وأعدالها من جماعات يبلغ عددها بضعة عشر، وهي جماعات صغيرة عددًا وأثرًا مقارنة بجبهة النصرة من جهة ومقارنة بقوى الثورة والمقاومة من جهة أخرى. وهؤلاء عمومًا من مفارقي تنظيم الدولة، ومن مفارقي مشروع الثورة السياسيّ أكثر. ويضم جيش الفتح من 2 و3، وأساسه من 4.

خاتمة

إنّ الحركة الثالثة من المقاومة المسّلحة تميّزت بصعود الفصائليّة والجهويّة، وتكاملها إلى ما نعرفه اليوم، وهو قبل كلّ شيء نتاج عدم الاستثمار السياسيّ الحكيم في مكاسب الحركتين الأولى والثانيّة.

في سلسلة المقالات السابقة محاولة أولى لشرح آليّات وحدثيّات المقاومة في نشوء الحراك المسلّح لمجتمعات تتعرض لحرب استئصال حال ثورتها على أوضاع وضيعة وسيئة عاشتها طوال عقود تحت سلطة قاتلة وفاسدة تمثلّت في شخصيّ حافظ وبشّار. وصدورًا عن هذه الحدثيّة المركزيّة والخطيرة كانت مقاربة الجيش السوريّ الحرّ في عموميّات بناه وأصوله، وتطوّرهما. وكانت الإضاءة على أهميّته السياسيّة البالغة بوصفه فرعًا على نسق الثورة، ولكونه حركة المقاومة الأولى زمنًا وأثرًا ومعنىً. ومن هنا تمّ تمييز دلالات مختلفة للاسم في أوساط شباب الثورة، وهي دلالات ليست مفترضة من الكاتب، وإنّما كانت متداولة على نحوٍ واع وغير واعٍ. وهو يحتوي تلك القوة الثوريّة التي تنتسب له اسمًا وخطابًا وتنظيمًا ومشروعها مشروع الثورة وأساسه إسقاط النظام والوضع القائم وتحقيق تغير مخصوص لسوريا، وتلك القوى التي لا تنتسب إليه صراحةً وفقًا لكلّ العناصر السابقة، وإنّما تنسب إليه جزئيًّاأ، وتسمى من الآخرين بالجيش الحرّ، حيث إن نشأتها هي الأخرى كانت على نحو مهيمن كحالة مقاومة.

جميع أجزاء السلسلة مجمعة (هنا) ويمكن تحميل كتيّب «الجيش السوري الحر – في البنى والأصول» على (هذا الرابط)