(14)

الشرعيّة تزيد وتنقص، والمشروعيّة كذلك، وفي حال ثورة وانتقال تتغير بسرعة وبحدّة. فاعلون مختلفون تنازعوا مصادر الشرعيّة البدئيّة، وتنافسوا على الأصول البشريّة والماديّة، ما فتّت الشرعيّة الكليّة، وبدّد الموارد، وهذا عائدٌ للافتقار للفطنة السياسيّة ولجملة عوامل فكريّة وسيسيولجيّة واقتصاديّة، بنيويّة ووظيفيّة، وعلاقات السلطة، حالت متظافرةً دون العمل ضمن النسق الاوّل والجامع.

كان «نجاح» نظام الأسد في تقطيع المناطق، وتوليد انفعالات مُشتِّتة في صفوف الثوّار، وتصعيده للعنف ممّا أظهر أنّ المقاومة «الجيش الحرّ» عاجزة عن الحماية، عاملا محايثا لانقسام الجيش الحر.

وإذْ أنّالعامل الأوّل المولّد للانقسام هو غياب أدنى مقوّمات الحياة السياسيّة قبل الثورة، وطبيعة تنشؤ نويّات حمل السلاح العفويّة البؤريّة المتناثرة، والشرعيّة والتنظيميّة الصاعدة من القواعد، وطبيعة العلاقات بين الوحدات الاجتماعيّة، فإنّ العامل الأوّل المحايث كان «نجاح» نظام الأسد في تقطيع المناطق والمجتمعات واختراقها، وتوليد انفعالات مُشتِّتة ومضلّلة في صفوف الثوّار وكوادرهم غير الناضجة، وتصعيده للعنف بآلة عسكريّة جبّارة ومتوحشّة، ممّا أظهر أنّ المقاومة «الجيش الحرّ» عاجزة عن الحماية، وهذا بدأ في صيف 2012، مع موجات نزوح وانتقال داخليّ كبيرة، مع استخدام سلاح ثقيل وشامل من مدفعيّة وصواريخ أرض-أرض وجوّ-أرض عشوائيًا قصديًّا ضدّ مواطني المناطق المنتفضة، بعد أنْ كانت قذائف الهاون أو الرشاشات الثقيلة والبنادق هي أدوات الإرهاب والقتل قبل ذلك عمومًا، وبسبب تفاوت كبير في القوّة بين أسلحة خفيفة وأسلحة ثقيلة ظهر «كما لو أنّ» المقاومة غير قادرة على الحماية أو إيقاف القتل، مع قدرتها على الصمود والتمترس إلى حدّ مذهل حين النظر لخلل موازين القوّة والردع، بمن فيها كتائب إسلاميّة أو ذات صبغة، وما تخللّه من فوضى في المناطق التي تتفرّغ من أي سلطة وسيادة، وتستباح من قبل جنود الأسد (تستباح على الطَّوَى)، واستغلال عصابات الأسد وعصابات «تتقنع بالمقاومة» وتسمى هي الأخرى بـ «الجيش الحرّ»، والعصابات والسرّاق عمومًا؛ استغلالها هذه الأوضاع لارتكاب نقائص تتمّثل بالسطو غالبًا، وفي الفترة ذاتها كانت تظهر الكتائب والمجموعات والجماعات الإسلاميّة كفاعل سياسيّ، وعلى الأرض بشكل بسيط وربّما عفويّ كان يُقال أنّ هذه الكتائب أكثر عفّة ونزاهة وفاعليّة مقابل مسمّى واسع هو «الجيش الحرّ»، لا مقارنةً بكتائب محليّة بعينها اشتهرت بالنقائص، وفي الفضاء العموميّ بدأت أولى حالات تجمعّهم «الكتائب الإسلاميّة» في «جبهات»، وهذا هو العامل الثاني المولّد للانقسام.

في المحصلّة، صار فريقٌ من الناس، لا يمكن تقدير نسبته، وأعني من أوساط الثورة، يتحدّث أنّ «الجيش الحرّ» أخطأ باختياره التمترس وخوض المعارك الضارية في أحياء ومناطق، وهذا يمكن تفهمّه إلى حدّ ما، مع تذكّر أنّ النظام ارتكب منذ البداية مجازر ضدّ بنى أهليّة مسالمة، وأطفال ونساء، وأنّ مشروعيّة المقاومة المسلّحة كانت أساسًا الحماية، حماية أحياء ومناطق، وليس القضاء على الجيش والمخابرات وإسقاط النظام. ومع خسارة مجتمعات كاملة لمناطقها ولبيوتها ومعايشها، ومع ما يطفو من أخبار عن حالات النهب في الفوضى، من حقائق ومن دعاية، كان يرتبط ذلك تلقائيًّا في أذهان الناس بـ «الجيش الحرّ»، وفي مرحلة لاحقة صار الأمرُ إلى تجريم هذا الجيش من مبدأ فاسدٍ وهو: «ما كان النظام ليرتكب جرائمه لولا الجيش الحرّ»، ليصار في النهاية إلى لوم الثورة، وكأنّ الثورة والجيش الحرّ بِنى مستوردة جاهزة تفعل ما تفعل، أو أنّها كانت موجودة قبل ربيع 2011.


(15)

منبع الشرعيّة للعنف المقاوم، كان الاحتياج للحماية، وقد قاوم وقاتل شبابُ الثورة عاملين في سلسلة من البنى المتغايرة والمتغيّرة تحت عنوان الجيش الحرّ، ولا يزالون، مع تطوّر بنى التنظيم. وإحدى مصادر الشرعيّة للجيش الحرّ هو كون كوادره من شباب الثورة، ويعبرون عن المكوّن الهوياتيّ الأبرز والأوسع لسوريا، وعن النسق المقاوم الأوّل وتنطيماته، وإنكار ذلك، خطأ أو خبث، هو عامل انقسام وتنازع وطريق سريعة للفشل.

بوضوح، نعم، كان ثمّة مجموعات أكثر نزاهة وأوضح فاعليّة في الحماية والإدارة من أخرى، ومنها «إسلامية» من حيث العنوان، ومنها من الجيش الحرّ، والكلام عن فترة ضيّقة، وكان يوجد بالمقابل مجرّد «عصابات» ودعاية الأسد والثورة المضادّة، لكنّ هذا لا علاقة له بفرز جيش حرّ وغير جيش حرّ، طالما أنّ الجيش الحرّ ليس بنية سياسيّة أو عسكريّة أو فكريّة قائمة، وطالما أنّ مئات المجموعات المسلّحة التي كانت ولا زالت تتسمّى بهذا الاسم، وصارت تنتظم تحته، كانت من شباب الثورة، ونزيهة ومقاومة ومضحيّة، حيث لم تخلُ منطقة من وحدة مقاتلة من أبنائها تقاتل تحت هذا الاسم وتقاوم، وهذا مستمّر حتى الآن، وهي من مجتمعاتها بمكان عجزت في حالات كثيرة جدًّا فرض أي درجة من الرقابة والسلطة لإدارة مناطقها، وهذا خطأ على أيّ حال، وذلك بسبب عدم «رغبتها» في ظلم أحد أو الدخول في صراعات مع «الناس» أو الاشتباك معهم، ولحرصها على مقاتلة ومقاومة الأسد ونظامه كأولويّة، وهذا الربط بين فقدان الفاعليّة وقلّة النزاهة، قد تسبّب، مع ظهور الفاعلين الإسلاميّين كسياسيّين، ولأسباب أخرى تتعلق بجودة التمويل والتنظيم، إلى انزياح المقاتلين أنفسهم من تحت راية الجيش الحرّ إلى رايات أخرى، فيما كان التصوّر الواهم، يفرز حتى على أسس طبقيّة وفئويّة وجهويّة، ومع الانقسام في مسارين، محاولات هيكلة الجيش الحرّ المتكررة والناكسة في «مجالس عسكريّة»، ومحاولات تجمّع الإسلاميّين المتكررة والناكسة في «جبهات».

كان المقاتلون يتنقلّون، ببساطة بين المجموعات والجماعات، أو إنّ المنخرطين الجدد في المقاومة المسلّحة يتخيّرون، أو إنّ بعضهم يتدينون أكثر. المقاتلون هم هم، لا يأتي أحدٌ من فصيلة أخرى مثل الملائكة، ولكنّ الفرز عند جماعات وأفراد ظلّ هو هو، بين جيش حرّ ونظائره، جيش حرّ قاصر وفاسد، ونظائر أنقياء ظاهرون وفعّالون، وهو فرز لا معنى له البتّة، وأحيانًا خبيث النوايا كما فصلنّاه في الجزء الأوّل من حيث إنكار الجيش الحرّ وجودًا أو فاعليّةً أو طبيعةً. هذا يضاف إلى الخلط بين حالات الفساد والفوضى المبثوثة المعزولة الكثيرة وترافقها مع سوء فهم وممارسة السلطة وقصور التدبير العام في الفراغ الحاصل من قبل الأفراد وتجمعاتهم من جهة، وسوء استغلال السلطة والسلاح أو سلطة السلاح وشرعيّته من جهة ثانية، وهذا الأخير قيل من قبل أطراف وأفراد مختلفين بحقّ أطراف وأفراد مختلفين، أي لم يقتصر على من ينتسب إلى الجيش الحرّ، وحرّيٌ بنا التفكير بأنّ سوء استغلال السلطة والسلاح أفدح أثرًا وأوسع حين يقع من قبل تنظيمات وجماعات أقوى وأشدّ تماسكًا وذات ايديولوجيا تتصرّف كسلطة، أي حين يكون من يفعل ممأسسًا أو وعيه بنفسه كمؤسسة أو تنظيم، والجيش الحرّ لم يكن كذلك على أي حال؛ وما سبق تفصيله هو حالة،وهي العامل الثالث والأشدّ وخامةً المولّد للانقسام.


(16)

الربط بين فقدان الفاعليّة وقلّة النزاهة، قد تسبّب، مع ظهور الفاعلين الإسلاميّين كسياسيّين، ولأسباب أخرى تتعلق بجودة التمويل والتنظيم، إلى انزياح المقاتلين أنفسهم من تحت راية الجيش الحرّ إلى رايات أخرى.

فاعلون مختلفون مناهضين للنظام القديم، اعتمدوا في شرعيّتهم، على نحوٍ شبه حصريّ، على لا-شرعيّة هذا النظام، ولم يسعوا إلى توفير وترسيخ مصادر شرعيّة أخرى، ممّا وسّع لأطراف لا-شرعيّة لها للظهور لأنّها أقوى، وهذا أضعف الشعبيّة وضيّع القضيّة.

سيأتي من يختارون العناوين الإسلاميّة، لا ليقتنصوا الفرصة ويغتنموا هذه الشرعيّة والمشروعيّة ليبنوا عليها، بل ليعملوا لوحدهم كمتمايزين، وليطرحوا طروحات تدفع الفصائل ليصطدموا بعضهم ببعض، والناس ليختلفوا بينهم.

ومن ناحية «الجيش الحرّ» بوصفه الحائز على الشرعيّة والمشروعيّة أوّلًا، والمستمر كذلك في الخلفيّة العامّة والعريضة حتى اليوم نظرًا لكلّ ما فصلّناه في الأجزاء السابقة من حيث قبوله من قبل شرائح أوسع من السوريين في أوساط الثورة، وكذلك عدم رفضه أصولًّا من قبل الأغلبية الساحقة من الفصائل الثوريّة الإسلاميّة محليّة النشأة والخطاب والتي تتقاطع معه في البنى والأصول الاجتماعيّة وديناميّات التكوّن؛ من ناحيته ظهر أنّ عدم قدرة القادة في الخارج وفي الميدان لسوء ما كان يحدث بينهم، أو لا يحدث، على هذا التأسيس؛ كان هو العامل البدئي لقصور المؤسّساتيّة والتنظيميّة. وسيأتي من يختارون العناوين الإسلاميّة للجهاد والمقاومة، من التيارات الإسلاميّة أو فئات الأوضح تديّنًا، مع تداخله بطبائع الأصول الاجتماعيّة لهم، لا ليقتنصوا الفرصة ويغتنموا هذه الشرعيّة والمشروعيّة ليبنوا عليها أو حولها، وتحت عنوانها الأبرز «الجيش الحرّ»، وليبنوا التنظيمات والمشاريع الجامعة، لإسقاط النظام قبل أيّ شيء، بل ليعملوا لوحدهم كمتمايزين بشكل مواز وهو الأغلب، أو ليعمل أفراد وجماعات وتنظيمات أعمالًا وليطرحوا طروحات تدفع الفصائل ليصطدموا بعضهم ببعض، والناس ليختلفوا بينهم، وهم في حالة حرب وجود، وليبتلوهم بمعالجة مفاهيم مجرّدة إشكالاتها كامنة فيها، كالحكم والحاكميّة والدولة والمنهج، بدل توليف مصطلحات وأنساق الإتفاق ما أمكن؛ وهوالعامل الثالث المحايث المولّد للانقسام، والذي لا مبرّر له البتّة.

لا جرم، أنّ فشل القادة الأوائل، من ناحية المقاومة المسلّحة ككلّ، في الانتظام وترسيخ شرعيّة بنيويّة، ما يعني القدرة والكفاءة على الحماية والإدارة ممثلةً بمؤسّسات جامعة، وتوليد الاعتقاد لدى فئات واسعة ومتغايرة من الشعب السوريّ بذلك وبمشروع سياسيّ، يحصل على الرضا متعدد المصادر، أو ينتزع الاعتراف؛ هو سبب بارز في الأزمات التي اعترت الحالة السوريّة داخليًّا لاحقًا، من بقاء نظام الأسد حتى العام الخامس للثورة، ومن ظهور تنظيم الدولة ومشابهاته، ومن ظهور مجموعات وجماعات الفساد، ومن الفتن والإقتتال، ومن «تغلّب» التنظيمات الأقوى تنظيمًا، ومن الانقسامات بين الوحدات الاجتماعيّة وخلالها، حتى حين النظر إلى مجتمعات الثورة عينها، أو إلى «السنّة العرب» لو سمحت لنفسي اعتبارهم «طائفة سياسيّة».

ما سبق توصيفه تداخل على نحوٍ شديد التعقيد مع «سياسات» داعمين رسميّين وغير رسميّين كانت تقدح النزعات الأولى أو تغذيّها وتعززها، وتفعل عن سوء فهم وخرق تصرّف أو خبث نوايا واعتلال سياسات، وعلى خلفيّة انقسامات وتعقيدات وصراعات تعتري عموم الحالة العربيّة والإسلاميّة الرسميّة والشعبيّة قبل الثورات وبعدها، وعن تداخل هذه الأخيرة بالمشاريع والتدخلّات الدوليّة القائمة والناشئة في المنطقة والإقليم والتي لا تفعل بالضرورة عبر النظام الرسميّ فقط؛ وهذا هوالعامل الرابع المولّد للانقسام، وكل ذلك حدث ويحدث والمجتمع السوريّ يخرج من سبات عميق وبعيد حاجبٍ عن النقاش السياسيّ والفكريّ أحدثه نظام الأسد، ويخوض ثورته وصراعه ضد هذا النظام عديم الأخلاق المميت، ويذهب في حرب بلا رحمة يشنّها نظام الأسد وحلفه.