هل يمكن أن يعود الماضي فعلاً؟ وإذا تمكنا من استعادته ماذا سنفعل فيه؟!

في فيلمها التسجيلي الأوّل «هدية من الماضي»، تخوض «كوثر يونس» تجربة جديدة ومختلفة وشيقة للبحث عن حبيبة والدها السابقة «باتريسيا» التي تركها من 33 عامًا في روما، ولا يزال يحتفظ بتذكاراتها معه، ويفاجأ الأب (د. مختار يونس) بهدية ابنته، حينما تقدّم له تذاكر سفر لروما لكي يبحثا سويًا عن تلك الحبيبة القديمة، وتحاول أن تقنعه بضرورة السفر والبحث عنها وتخوض معه ويخوض معها المتفرج هذه المغامرة الجميلة.

الفيلم الذي تم تصوير «بكاميرات خفية» ولم يتم عرضه إلا بعد استئذان كل الشخصيات المشاركة فيه، يتناول رحلة الأب وابنته والعقبات التي واجهتهم حتى تمكنا أخيرًا من أخذ «”تأشيرة السفر»، لتبدأ رحلة البحث عن عنوان «باتريسيا» وصورتها التي يحتفظ بهما الأب في أوراقه القديمة، كما يحتفظ بخاتم زواجها الذي كان قد وعدها به، ثم عاد إلى مصر، لتأتي ابنته بعد 33 عامًا لتقلب عليه تلك الذكريات كلها، وتدفعه دفعًا إلى السفر ولقاء حبيبته.

ترصد المخرجة (الابنة) لحظات توتر والدها وقلقه منذ أخبرته بعزمها على هذه الرحلة، وتردده بين قبول السفر ورفضه، الأمر الذي يتحوّل إلى مشادّة كبيرة بينهما لأنه يرفض السفر حتى بعد الحصول على التأشيرة، ثم يسافران أخيرًا ويبدو ذلك الرجل العجوز (في الخامسة والسبعين من عمره) مراهقًا يغني الأغاني الرومانسية وينادي حبيبته وهو في الطائرة (أنا قادم يا باتريسيا)، ويحكي لابنته عنها كيف كانت تراه في عباءته الكبيرة وكأنه فارس من فرسان «ألف ليلة وليلة»، ويؤكد لها أن رغبته في العثور عليها لكي يخبرها فقط أنه «لم يضحك عليها» وأن الظروف هي التي منعته من الوفاء بوعده!

يذهب الأب وابنته إلى عنوان «باتريسيا» ويحاولان أن يسألا جيرانها عليها، فتكون المفاجئة أنها انتقلت من هذا العنوان منذ عشرين عامًا، يصاب الأب بخيبة أمل كبيرة، ولكنه يخفيها عن ابنته، ولكن البنت تحبط أكثر وتشعر بالحزن وتبكي من أجل والدها وتسعى جاهدة أن تحصل على عنوانها بالبحث عن اسمها على «فيسبوك» وتكون المفاجأة أنها تجدها وتكتشف أنها انتقلت للعيش في «رومانيا» فتخبر والدها وتقرر أن تذهب إليها.

الجميل في الفيلم، بغض النظر عن لقاء تلك الحبيبة الأجنبية بعد كل هذه السنوات، هو تلك الحميمة والدفء التي يعامل بها الأب ابنته، وما يدور بينهما من حوارات وخلافات وشد وجذب في أوقاتٍ كثيرة، حرصت المخرجة على أن توثقها في الفيلم كما جاءت طبيعية وصادقة، بالإضافة إلى الإشارة الخفيّة إلى طريقة التعامل مع ذلك الماضي الذي يبدو أننا نفتقدها تدريجيًا باستخدام وسائل «التواصل الاجتماعي»، فلم يعد أحدٌ اليوم يحتفظ بأوراقٍ قديمة اصفرَّ لونها وصور تحمل ذكريات لأماكن وأشخاص قد يكون قد نسي تفاصيل علاقتهم به، ولكن تأتي لحظة ما تجعله يعود إلى ذلك الماضي من جديد ويستحضره وكأنه لم تمضي عليه كل هذه السنوات!

تكون لحظة التنوير الكبرى في الفيلم بعد فقدان الأمل في العثور على الحبيبة، ثم محاولة التواصل معها من خلال «فيسبوك» والوصل إليها بالفعل، تكون لحظة التنوير هي تلك المقابلة التي لا يكاد المرء يصدقها، حبيبان من بلدين مختلفين يلتقيان بعد كل هذه الأعوام، ويتحدثان عن مشاعر الحب التي كانت تربطهما بكل بساطة، يعود الأب بعد ذلك في الطائرة وهو يدندن مع الخلفية الموسيقية ولا تنقل المخرجة من كلماته إلا تلك التنهيدة البسيطة، ولمعة عينيه بسعادة تحقق حلمه الذي ظنه مستحيلاً.

تنتهي الرحلة ويبقى ذلك الأثر الجميل الذي يصنعه دومًا الفن الحقيقي، فلم تنقلب الدنيا رأسًا على عقب، ولم ينس الوالد نفسه في أحضان حبيبته القديمة، بل مر الأمر طبيعيًا وعاديًا، وعاد إلى زوجته، ليفاجئ بالطبع بالمفاجأة الأخيرة في هذه الرحلة، أن ابنته قامت بتصوير كل هذه الأحداث (350 ساعة) بكاميرا الموبايل، فيعترض الوالد في البداية على عرض جزء من حياته للناس على هذا النحو، ولكنه يوافق في نهاية الأمر -كعادته- ويصبح فخورًا بابنته وبعملها الجميل.

شارك فيلم «هدية من الماضي» (الذي يعتبر مشروع كوثر يونس للتخرّج من معهد السينما) في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته 37 عام 2015 وحظي بإقبالٍ جماهيري ونقدي كبير، كما تم عرضه في مهرجان «الأسماعيلية» للأفلام التسجيلية والقصيرة إبريل الماضي، كما شارك في عدد من المهرجانات الدولية منها مهرجان الفيلم العربي في برلين، والمهرجان الدولي للشريط الوثائقي بأغادير، ومهرجان إنكاونترز للفيلم الوثائقي في جنوب أفريقيا، والمهرجان الدولي في باتموس، ومهرجان برافوفي للفيلم في البوسنة، كما سيعرض الشهر المقبل في مهرجان بروكسل للفيلم في بلجيكا، والمهرجان الدولي للفيلم بزاكورة بالمغرب.

تجدر الإشارة إلى أن الفيلم يعرض تجاريًا لأول مرة في سينما «زاوية» بوسط البلد، وكان مقررًا أن ينتهي عرضه في أول ديسمبر، لكن إدارة السينما قررت أن تمد فترة العرض أسبوعًا آخر نظرًا للإقبال الجماهيري عليه.