إذا امتلكت الشجاعة الكافية لقتل عجوز طاعن، غالبه المرض الخبيث تحت مظلة الموت الرحيم، فلا شك أنك لن تتردَّد في قضِّ مضاجع حلم بكر يرضع من ثدي الزمن، وهو ما قام به الروائي الأمريكي «سكوت فيتزجيرالد» حين كتب رواية «جاتسبي العظيم» متناولًا «وهم» الحلم الأمريكي في خضم عصر الجاز، وفي بدايات نبوغ هذا الحلم وسطوعه، فقد كانت أمريكا تجتذب المهاجرين من كل البلدان، سواء تلك التي تعاني من وطأة الحرب أو الفقر أو المرض، وحتى الحالمين الذين صدَّقوا فلسفات القرن التاسع عشر ولم ينتبهوا إلى صفعات القدر على وجه العالم في مطالع القرن العشرين، مع اندلاع الحرب العالمية الأولى والثورة البلشفية، بجانب الكوارث والأمراض والأوبئة.

الوهم

أطلق فيتزجيرالد على عشرينيات القرن الماضي «عصر الجاز» الذي يبدو أنه تقلَّدت موسيقاه قلمًا لتؤرخ للعالم، ولعلَّ المصطلح – كما أوردته مُترجِمة العمل في نسخته الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة – يعكس مدى السطحية الأمريكية في الاعتقاد بأن التاريخ إنَّما هو حاضرهم، وأنَّ ثقافتهم إنَّما هي ثقافة لكل العالم، لكن مهلًا … هل هذه سذاجة منهم أم منَّا بعد مرور مائة عام؟ فالواقع أنّ التاريخ إنَّما أضحى أمريكيًّا بامتياز، لا عليك … المهم أن الأحلام كانت تُباع في زجاجات الأمل للجوعى والمرضى والمشردين من ملايين الأنفس حول العالم على قطعة أرض تُدعى أمريكا، وبعد حصد التجار لمكاسبهم، فإنَّهم لا يعبئون بالنتائج والدمار.

كانوا قومًا طائشين – توم وديزي – حطَّموا الأشياء والناس ثم تراجعوا عائدين إلى أموالهم أو إلى استهتارهم العظيم أو ما يكون ذلك الذي يجمعهم معًا ثم تركوا للآخرين لملمة الفوضى التي تسببوا فيها.

بهذه العبارات البليغة يصف فيتزجيرالد بطلي روايته عبر ترجمة «سارة العناني» البديعة، ويُلخِّص فيهم أوهام المفاهيم التي قامت عليها الحياة الأمريكية.

الثراء الفاحش

لعلَّ ما نبدأ به من المفاهيم المؤسِّسة للوهم الأمريكي عبر الرواية هو الثراء، حلم الثراء السريع الذي يوفر لبطل الرواية جاتسبي رافعة اجتماعية رهيبة تُمكنه من تغيير وجهة نظر «ديزي» حبيبته بعد زواجها، فهي التي لم تطق صبرًا عليه بعدما ذهب ليشارك في الحرب العالمية الأولى في باريس، ولم يكن – بالطبع – ليصارحها بحقيقة فقره، ليبدأ السعي خلف الثراء السريع جدًّا حتى يستطيع مطاردتها.

وشخصية ديزي مثل «ماما أمريكا» تعكس الاهتمام الشديد بالمال، الذي يتخفَّى في جوهر كل المعاني الأخرى، من جمال أو رومانسية أو عاطفية، أي المادية/ النفعية/ البراجماتية.

الصداقة الأمريكاني

ويظهر ذلك من خلال كون الصداقة تتم فقط لأجل المصلحة، فها هو «توم بيكانون» ينتقد جاتسبي وحفلاته قائلًا:

أعرف أنني لست ذائع الصيت … لا أقيم حفلات ضخمة، وأفترض أنك يجب أن تحول بيتك إلى حظيرة خنازير كي تحصل على أصدقاء في العالم الحديث.

هذه النفعية لا تعرف الرحمة حتى في أوقات الحزن أو التعاسة، ما بالك بالموت، فتجد صديق جاتسبي يتصل بعد موته ويعرف خبر وفاته ولا يعبأ بميعاد الجنازة، فقط يريد «ما اتصلت بشأنه كان حذاءً تركته بالمنزل أتساءل لو سيسبب إزعاجًا أن تطلب من رئيس الخدم إرساله إليَّ».

على أنَّك قد تجد في الراوي مثلًا دلالة على وجود صداقات جيِّدة، وبالتالي ضعف الاتهام الموجه ناحية الصداقة على الطراز «الأمريكاني»، لكنك حين تتذكر أن «نايك»، الراوي، لم يكن إلَّا جاتسبي نفسه، يقوم بسبر أغوار هذا المجتمع ويعطف على شخصياته، سيزول – ولا عجب – منك هذا الاحتجاج البسيط.

الملكية

ويجرُّنا ذلك إلى مفهوم الملكية الذي صيغ بشكله الأوسع والأعم في فلسفة «جون ستيوارت ميل»، وظهر في الرواية بشكل يتجاوز كونه مجرد حق من حقوق الإنسان وأحد مرادفات الليبرالية، إلى كونه امتلاكًا للبشر والحجر، فتلمح ذلك في الرواية من خلال هذه الفقرة التي تحكي قصة بناء القصر الذي سكنه جاتسبي، فما حكاية المالك الأصلي؟

هناك قصة أنَّهُ وافق على دفع الضرائب مدة خمس سنين على كل الأكواخ المجاورة، إذا قبل المالكون أن يجعلوا سقوفها من القش، ربما يكون رفضهم قد انتزع قلب خطته لإنشاء عائلة، فانحدر انحدارًا عاجلًا، باع أبناؤه منزله وإكليل زهور الحداد الأسود لا يزال على الباب، فالأمريكيون بينما يقبلون أحيانًا أن يكونوا عبيد أرض، فدائمًا ما يمانعون أن يكونوا من طبقة الفلاحين.

الطبقية

ولطالما اعترف الحلم الأمريكي بهذه الطبقية، وتحرَّك بناءً على التسليم بها حتى تستطيع تجاوزها وتتحرك من طبقة إلى أخرى، فإذا كان بوذا قد بشَّر الهندوس بإلغاء الطبقات، فإنَّ فيتزجيرالد قد بشَّر الأمريكيين بأن «شيئًا واحدًا أكيدًا ولا شيء أكثر منه تأكيدًا، الأغنياء يحصلون على مزيد من المال والفقراء يحصلون على مزيد من الأطفال».

يتجلَّى ذلك أيضًا بالوصف الرومانسي للفقراء كمجرد «أشباح رمادية في ليالي شتوية يجوبون بين الأشجار الزهرية باحثين عن مأوي أو طعام».

الخواء العاطفي والذهني

ولا بد عند وصولك إلى الثراء السريع أن تحقق السعادة التي هي إكسير الحياة ونقطة بحث الفلسفة والعلم والدين والفنون، لكنَّ المفاجأة التي يقدمها فيتزجيرالد أنك لن تصيب إلا رفاهية مُمِّلة، كأنْ تصل إلى متعة ثم تشعر بملل فتحاول أن تعبرها إلى متعة أشمل وأكبر، فلا يصيبك إلا خواء عاطفي عبَّرت عنه بشخصية «ديزي» التي تلهو وتلعب بمصائر البشر – كما تجلى ذلك في دهسها مدام ويلسون دون قصد – أو فراغ ذهني كالذي يعانيه توم.

إن الرواية لتُقسم بكل الأيمان – غير حانثة – أن الحلم الأمريكي هو أكذوبة قرن طويل عاشت فيه البشرية تجري خلف كل المفاهيم السابقة، وقليلون هم منْ وصلوا، ولكن أكثرهم لا يعلمون ولا يصلون ويموتون بينما يتنفسون الأحلام، كموت جاتسبي في نهاية الرواية.

نجد هذا النقد للفلسفة الأمريكية الجديدة في الحياة عبر هذه الرواية البديعة عام ١٩٢٥، لتحاول وأد هذا الحلم قبل أن يستفحل ويصل مصير جاتسبي إلينا جميعًا في كل الأزمنة والأماكن، لا شكَّ أنها شجاعة يستحق عليها فيتزجيرالد أن يكون صاحب هذه الرواية البديعة «جاتسبي العظيم».

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.