رغم تقدم العلم ودخول الإنسان إلى عالم التكنولوجيا إلا أن الجانب النفسي وعوالمه لا تزال خفية حتى الآن، تسمى قدرات اللاوعي أو اللاشعور، وهي قدرات لا يمكن تفسيرها بوسائل العقل والمنطق، لكنها تحدث في حياتنا ولو بنسب نادرة.

وجدت محاولات علمية جادة للبحث في تفاصيل هذه الظواهر الإنسانية وطبيعتها، لكن معظم نتائج تلك المحاولات كانت ضعيفة ولا ترقى لأن تعمم وتصبح كقانون يفسر الظاهرة نفسها، بقي عالم اللاشعور سراً غامضاً بالنسبة للبشرية جمعاء، غير أنه نتيجة للتطور العلمي في الدول الغربية تم تحليل تلك الظواهر بأساليب علمية بحثية نظرية وعملية، وكما أشرنا سابقاً بقيت تلك النتائج مجرد محاولات ليس إلا، وفي هذا الكتاب يحاول علي الوردي أن ينقل لنا نظرة عامة عن لب تلك الأبحاث، كما أنه يسعى ليستكشف كنه هذا العالم من خلال النتائج التي وصلت إليها الأبحاث في هذا الجانب.


نظرة عامة على الكتاب

يناقش الكتاب فكرة اللاشعور وكل ما يتعلق بها، كما أنه يناقش قضايا فكرية ونفسية متعلقة بهذا الجانب، ويعتمد الكاتب بشكل رئيسي على نتائج الأبحاث والدراسات والتجارب التي تمت لاستكشاف كنه هذا العالم، ويشير الكتاب إلى أن دراسة قوى النفس بدأت على يد العالم راين في جامعة (ديوك) في 1930م، ويشير الكاتب إلى أن القرن العشرين شهد ثورتين مهمتين الأولى تتعلق ببحوث المادة على يد هنري كرايل، والثانية تتعلق ببحوث علم النفس، كما يشير إلى أن فرويد هو مبتدع نظرية اللاشعور.


الإطار الفكري

العالم مانهايم يرى أن الحقيقة موجودة خارج عقل البشري ولديها وجوه متعددة، ويرى الناس تلك الحقيقة من خلال إطارهم الفكري، وما يشكل الإطار الفكري هو الواقع والبيئة التي يعيش فيها الإنسان، غير أن هذه البيئة ليست بيئة صافية تسمح للإنسان أن يحكم على الحقيقة بشكل موضوعي، بل يوجد ثلاثة قيود تشكل هذه البيئة التي تشكل الإطار الفكري للإنسان وهي: قيود نفسية، قيود اجتماعية، وقيود حضارية، ويؤكد الكاتب على أن مشكلة الصراع البشري هي مشكلة معايير قبل أن تكون مشكلة حق وباطل.


المنطق الأرسطوطاليسي

يقوم منطق أرسطو على القياس من المعلوم إلى المجهول، ومن المقدمات إلى النتائج، اعتمد السوفسطائين على الخرافات في بحثهم عن الحقيقة وجابههم سقراط وقُتل نتيجة لذلك، وواصل تلميذه أرسطو طريق البحث عن الحقيقة والعلم، غير أنه قام بخطأ فادح كما يشير الكاتب وهو أنه ابتدع منهج يجب أن يسير عليه كل الفلاسفة، وهو بذلك عزلهم عن الواقع وأرغمهم على أن يتتبعوا وجها واحدا فقط من أوجه الحقيقة.

قديماً اعتمدت الفلسفة على ثلاثة قوانين كانت تحرك الإطار الفكري للبشر في ذلك الحين، وهي الذاتية: أصل الأشياء الثبات أي السكون وهذا أصل الكون، وفي العصر الحالي ثبت بطلان هذه النظرية لأن الأصل في الكون الحركة وليس السكون.

قانون عدم التناقض: الشيء وضده لا يمكن أن يكونا معاً في نفس الزمان والمكان، وفي العصر الحالي ثبت بطلان هذه النظرية على يد النظرية النسبية لأينشتاين لأنه ثبت بطلان وجود حقيقة مطلقة.

قانون الوسط المرفوع: ويقتضي هذا القانون بأن العالم مؤلف من جانبين لا ثالث لهما، جانب حق وجانب باطل، العلوم الحديثة أبطلت هذه النظرية لأن المادة ليست موجودة في مكان معين بذاته.


بين الإرادة والنجاح

يرى الكاتب أن الإرادة قد تعرقل سبيل النجاح إن لم تتوفر في صاحبها أسس النجاح والوصول للهدف، ويشير الكتاب إلى قانون كويه (الجهد المعكوس) والتي تقول بأن الفكرة إذا سيطرت علينا وحاولت الإرادة أن تلغيها، واجتهدت بذلك تتحقق تلك الفكرة رغم ذلك الجهد في منعها.

ويشير الكاتب إلى أن الفرق بين خيال النجاح وإرادة النجاح، أن الأولى ترتبط بقناعة الأشخاص وبإيمانهم بأنهم ناجحون، بينما الأخرى قد لا تتوافق مع الإيمان الداخلي للشخص ولذا ليس بالضرورة أن تنجح.


العقل الباطن

يستعرض الكتاب جهود مدرسة التحليل النفسي التي نفذتها جمعية المباحث النفسية في بريطانيا، والتي من خلال تجاربها أثبتت أنه يوجد قدرات نادرة يتمتع بها بعض الأفراد مثل القدرة على التنبؤ بشكل صائب، تناقل الأفكار، رؤية الأشياء من وراء الحواجز، وفي هذا الجانب يوجد فرضيتين حول العقل الباطن (تشتز) والتي ترى أن العقل الباطن له القدرة على تخطي المكان، وتميز ما بين العقل الفردي والعقل الكوني، الفردي يتعلق بالأفراد والعقل الكوني الذي يرتبط بالتفكير الجماعي،أما فرضية (سينيل) فتشير إلى أن العقل الباطن هو حاسة سادسة لدى الإنسان.


النفس والمادة

يوجد عدة أبحاث أثارت فكرة العلاقة بين الجانب النفسي والجانب البدني في محاولة لتفسير بعض الظواهر المتعلقة بقدرات بعض الأشخاص على تحمل آلام الجانب المادي نتيجة لقدرتهم على التحكم بالجانب النفسي، كالمتصوفة وبعض الهنود الذين يستطيعون أن ينوموا أنفسهم، غير أن نتائج تلك الأبحاث لم تكن دقيقة بحيث يتم الاعتماد عليها بشكل قاطع، ويختتم الكتاب بالإشارة إلى أن اللاشعور يصنف بثلاثة أنواع:

1.خوارق اللاشعور: والتي تكون أقوى عندما تصفو النفس وتتخلص من قيودها.

2.الرغبات المكبوتة والعقد النفسية، والتي تلعب دور كبير في التأثير على اللاشعور لدى الإنسان.

3.القيم الاجتماعية: التي تشكل الإطار الفكري لدى الناس، والذي يؤثر بشكل كبير على الجانب النفسي لديهم.


خاتمة

يؤخذ على هذا الكتاب وجود بعض المغالطات الفكرية التي استخدمها الكاتب في إثبات حقيقة وجهة نظره حول الموضوع، رغم أن موضوع اللا شعور لا يمكن أن يثبت من خلال وجهة نظر كون العلم بوسائله المتطورة لم يستطع أن يبت فيه حتى الآن، لكن وعلى الرغم من ذلك يعتبر هذا الكتاب من الكتب الثقافية الممتعة في المكتبة العربية كونه يعتمد على سلاسة اللغة، وتنوع المواضيع وتنوع أساليب الطرح، كما أنه يحتوي على قيمة معرفية كبيرة كونها يتحدث عن مختلف المواضيع الفكرية والعلمية والنفسية بشكل مبسط.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.