يهدف هذا المقال إلى استعراض بعض أهمّ العوامل التي ساهمت في تشكيل قضية «الزواج المبكر»، باعتبارها قضية تنتمي إلى عصرنا الراهن، وأنّ هناك عدة متغيّرات ساهمت في تشكيلها بصورتها الحالية. وهو لا يهدف إلى إبداء الرأي الشرعي والأخلاقي في هذه القضية، نظرا لرجوع ذلك إلى أدوات بحث أخرى لا يهدف هذا المقال إلى استيفائها.

إنّ من أكثر الأمور إشكالية في الخطاب النسوي تحديدا طرح قضية «الزواج المبكر» في سياق عاطفي، ومن خلال التركيز على التهويل والحالات الشاذّة. رغم أنّ قضية الزواج المبكّر قضيّة متشابكة تحتاج إلى دراسات جادّة في سياقات عدّة. هناك من يرى مثلا أنّ زواج فتاة في سنّ السادسة عشرة ضربٌ من الجنون، وأنها لا تزال «طفلة» لا يمكنها تحمّل مسؤوليّات الأمومة، وفي الواقع ما يؤيّد ذلك فعلا. وثمة من ينظر إلى الإنسان معزولًا عن السياق الواقعي الذي يعيش فيه، فيقرّر حقائق الدين والبيولوجيا، وهي أنّ الإنسان قادر على الزواج في هذه السنّ المبكّرة، متجاهلا السياق الراهن وظروف الواقع المختلفة.

والواقع أنّ قضية «الزواج المبكر» قضية حديثة، لم تكن حاضرة في وعي جدّاتنا ولم تكن في الماضي مثارًا للاستهجان. فما هي العوامل التي شكّلت هذه القضية؟

يسلّط هذا المقال الضوء على أثر الدولة الحديثة وما أوجدته من مفاهيم في المجتمع على نشوء قضية «الزواج المبكر» وإشكالياتها، أي إنّ العوامل المادية التي أنتجتها الدولة الحديثة في المجتمع هي التي شكّلت البيئة التي نشأت فيها هذه القضية. وقد حدث ذلك على عدة مستويات أساسية.


نظام التعليم

حدّدت الدولة الحديثة نظامًا تعليميّا صارمًا، يبدأ – حيث أعيش – من سنّ 4 سنوات، حتى سن 18. أي إنّ هذا النظام يمسك الإنسان أربعة عشر عاما ليقدّم له أبجديات التربية والمعارف، قبل البدء في اكتساب حِرفة.

أخّر هذا «الحبس» المادي بطبيعته الإعداد النفسي والمعرفي للإنسان؛ فحتى يبدأ بتعلم موضوع ليتخصص فيه أو ليكتسب خبرة للعمل، يحتاج إلى التأخر ثمانية عشر عاما، وفي معظم الحالات أكثر من ذلك؛ لِما في الدراسة الأكاديمية من نفقات باهظة. أو قد يبدأ قبل ذلك في حالة اختياره المسلك «الصناعي» أو «الحِرفي». ولكن تبقى المشكلة قائمة، وهي أنّ هناك أعواما كثيرة تضيع في ما يمكن تسميته «مطّ» المحتوى المعرفي والتربوي المطلوب للإنسان لأكثر مما يُحتاج إليه من سنوات.

عندما نطرح الافتراض البديل يتضح أثر ذلك: فماذا لو كانت الفترة المدرسية تنتهي في سنّ الرابعة عشرة، ثم يبدأ التأهيل المهني في سن الرابعة عشرة وينتهي في سنّ الثامنة عشرة؟ لا شكّ أن الفارق سيكون كبيرًا في نقطة البدء بالإنتاج ومواجهة صعاب الحياة وما يلحق ذلك من نضوج على مختلف المستويات.


تعريف الطفل

حرصت الدولة أيضًا على تعريف الطفل، فالذي لم يبلغ مثلا سنّ الثامنة عشرة هو «طفل» بالنسبة للدولة، تسري عليه قوانين الأطفال. وفضلًا عن ذلك، تم تعميم خطاب عالمي مبني على هذا التعريف القانوني للطفل [1]، ومن أهم عناصر هذا الخطاب ما يتعلّق بـ «عمل الأطفال»، وما يتعلق بتزويج الأطفال، وما صاحب ذلك من خطاب إعلامي وحقوقي رسّخ في المجتمع مفهوم الطفل هذا، وأصبح معظم الناس يعتبرون الشاب اليافع الذي بلغ ستّة عشر عامًا طفلًا! وليس ذلك لكونه طفلًا بالمفهوم البيولوجي، ولا لكونه طفلًا من حيث الإمكانات المعرفية والنفسية، وإنما لأنّ الخطاب العام الشائع الذي أسست له الدولة يعتبره طفلًا.

وقد عزّز هذا التعريف والخطاب المصاحب له التأخّرَ النفسي للطفل؛ فأنت حين تربّي ابنك على أنّه سيكون رجلا في سنّ الرابعة عشرة مثلا، وحين تتعامل معه باعتباره رجلًا لا طفلًا حين يكون في الخامسة عشرة، فإنّ لهذا الخطاب أثره على تكوينه النفسي، فما بالنا بخطاب دولة ومجتمع كامل يرسّخ النظرة التي تعتبر من بلغ السابعة عشرة طفلًا؟ وفضلًا عن وجود قوانين وتنظيمات تعضد هذا الخطاب ماديّا. لا شكّ أنّ لذلك أثره الكبير على التكوين النفسي للإنسان.


النظام الاقتصادي الرأسمالي

إنّ النظام الاقتصادي الرأسمالي المفروض على المجتمع وجميع القوانين والسياسات المصاحبة له هي من العوامل الأساسية في تأخير النموّ الاقتصادي للإنسان. ولا شكّ أنّ ما ذكرناه في السابق من عوامل هي عوامل مرتبطة بالنظام الاقتصادي؛ فتأخر الإعداد المعرفي والتأهل المهني في النظام التعليمي، يؤخّر جيل الإنتاج لدى الإنسان.

ولو قارنّا بين عصرين لوجدنا أنّ الإنسان المعاصر يحتاج إلى أن يبلغ اثنين وعشرين عامًا على الأقل حتى يتم توظيفه كمعلمّ مثلا ويبدأ بالإنتاج، بينما كان بعض أئمة الإسلام يجلسون للتدريس في سنّ السادسة عشرة! مع امتلاكهم للتأهيل العلمي والمعرفي والنفسي الكافي لأداء هذه المهمة. فالمشكلة ليست في طبيعة الإنسان وإمكان تأهيله في هذه السنّ، وإنما في الظروف المادية التي إمّا أن تكون عائقا أو عنصرًا داعمًا.

إنّ هذا الشاب الذي أمضى أربعة عشر عامًا في المرحلة المدرسية، ثم عامين للعمل، ثم أربعة أعوام في المرحلة الجامعية، ثم مثلها لإيجاد عمل وجمع بعض المال ليتمكّن من الزواج. إنّ هذه الحالة ليست هي طبيعة الأشياء وليست مشكلة الإنسان من حيث هو إنسان، وإنما هي مشكلة المنظومة المهيمنة على مساره ومقدّراته والتي تضع العوائق أمام نضجه المعرفي والنفسي والمهني والاقتصادي.

إنّ امتلاك منزل يحتاج إلى مبالغ هائلة، والمتحكّم بأسعار العقارات هو تلك الدولة التي احتكرت الأرض وجعلتها ملكًا للدولة بدلًا من أن تكون ملكًا للشعب، والتي أنتجت أزمة السكن بسياساتها الاقتصادية، ممّا جعل قضية إيجاد مسكن قضية كبرى في حياة كل مواطن، بل قد يؤخّر بعض الشباب سنّ الزواج من أجل امتلاك سكن! ناهيك عن دور الإعلام الرأسمالي في تضخيم احتياجات الإنسان، ونقل مساحة كبيرة من «الكماليات» إلى «الضرورات»؛ فأصبح في حسّ الكثيرين أنّ امتلاك سكن هو أمر ضروري للزواج، بل لم تعُدْ الكثير من العائلات تقبل بالذي لا يمتلك منزلًا ويسكن بالإيجار!


تضافر العوامل

إنّ تضافر جميع هذه العوامل، وعلى رأسها تلك المستويات الثلاثة:

  • النظام التعليمي المطوّل.
  • تعريف الطفل والقوانين المتعلقة به والخطاب المبني عليه.
  • النظام الاقتصادي الرأسمالي وسياسات الدولة المنبثقة عنه.

أدى إلى تأخر الإنسان في مستويات أربعة:

  • النموّ المعرفي.
  • النموّ النفسي.
  • التأهيل المهني.
  • الإمكانات الاقتصادية.

وإذا جمعنا هذه العوامل، وجدنا أنّ مشكلة «الزواج المبكّر» هي نتيجة لها، فهي ليست مشكلة الإنسان من حيث تكوينه الفطري، وإنما هي مشكلة حديثة تسببت بها هذه العوامل متضافرةً.

ولو افترضنا تغييرًا جذريّا طرأ على هذه العوامل المادية وسمح باكتمال النموّ النفسي والمعرفي والمهني والاقتصادي للإنسان في سنّ الثامنة عشرة مثلا، وكان الشاب وهو في سنّ التاسعة عشرة يمتلك منزلاً فضلًا عن الأهلية النفسية والمعرفية والاقتصادية، فهل سيقال له إذا تقدّم لخطبة فتاة: «هذا زواج مبكّر»؟

وهل سيُقال للفتاة التي أنهت تعليمها المدرسي في الرابعة عشرة، وشارفت على إنهاء الدراسة الجامعية في سنّ السادسة عشرة أو السابعة عشرة، وكان لها من النموّ النفسي والمعرفي ما يكفي: «هذا زواج مبكّر»؟

لعلّ ثقل الواقع يزيد من صعوبة تصوّر ذلك، حتى أنّ بعضنا يكاد يشعر أنّ هذه الأوضاع التي نعيشها هي الأوضاع الطبيعية، وأنّ مشكلة «الزواج المبكر» وغيرها من المشكلات هي مشكلة «إنسانية» ترتبط بطبيعة الإنسان وتكوينه البيولوجي، ولا علاقة لها بالظروف المادية المتغيّرة، وذلك تحت تأثير الخطاب النسوي والعلماني والأوضاع التي شكلتها الدولة الحديثة.

ومن تناقضات الخطاب النسوي والليبرالي عمومًا أنّه يعتبر قضية الزواج المبكّر أو حتى قضية الطفولة ومعاييرها من «الثوابت» التي ينافح من أجلها ولا يتقبّل الرأي المخالف بخصوصها، ولا يواجهه إلا بأوصاف التخلف والجهل. رغم أنّ هذا الخطاب نفسه ينقل الكثير من الثوابت إلى فئة «المتغيّرات» في سياقات أخرى. فلو نظرنا مثلا إلى قضية الشذوذ الجنسي (التي يسمّونها المثلية الجنسية Homosexuality) لوجدنا أنّها من القضايا التي نشأت بشكل أساسي بفعل إزاحة العلاقة الطبيعية بين الجنسين – الذكر والأنثى – عن خانة «الثوابت» إلى خانة «المتغيّرات»، وأصبحت الهوية الجنسية في هذا الخطاب أمرًا متغيّرًا يتحدّد بناء على الشخص نفسه، بحيث لا ينبغي أن ينشأ تعريف قانوني للعلاقة الجنسية المقبولة بين شخصين بحسب هذا الخطاب، ولكن في المقابل، يجب أن يكون هناك تعريف قانوني للطفل يمطّه حتى سنّ الثامنة عشرة!


حاولتُ في هذا المقال الموجز النظر إلى قضية اجتماعية معاصرة، وهي قضية الزواج المبكّر، بمنظور استقرائي يحيّد قدر الإمكان العوامل العاطفية والضغوط الإعلامية، ليظهر لنا بأنّه لا ينبغي مطلقا التعامل مع الكثير من القضايا المعاصرة باعتبارها «مسلّمات»، بل الكثير من هذه المسلّمات في نظر الناس هي في الواقع وليدة ظروف حديثة جدّا. ولا ندري ربّما تصبح قضايا أخرى، هي اليوم من المستهجن اجتماعيا، مسلّماتٍ في نظر العالم عام 2040!


[1] انظر: اتفاقية حقوق الطفل المعتمدة بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 44/25 بتاريخ 20 تشرين الثاني 1989، المادة 1.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.