ارتبط مسلسل «أفراح القبة» بالجدل منذ لحظاته الأولى. في البداية كان من المفترض أن يكتب السيناريو «محمد أمين راضي»، ثم حدثت خلافات بين راضي وصُنّاع العمل مما أدى لاعتذاره عن استكمال النص، وانتقلت مهمة استكمال الحلقات المتبقية لـ«نشوى زايد». كما ثار الجدل أيضًا حول قدرة صُنّاع العمل على تحويل رواية لنجيب محفوظ لعمل درامي، خاصة أن رواية «أفراح القبة» محدودة الشخصيات وصغيرة الحجم، حيث يبلغ عدد صفحاتها في النسخة القديمة 57 صفحة، وفي نسخة دار الشروق الحديثة 170 صفحة.

اعتمدت الرواية على الرمزية وسردياتها المعتمدة على أصوات الشخصيات الرئيسية الأربع (طارق رمضان – كرم يونس – حليمة الكبش- عباس يونس) من خلال هذه الأصوات تفرعت شخصيات جديدة في النص الدرامي، لم تكون موجودة في الرواية كعائلة «تحية»، وشخصيات كان وجودها محدودًا في الرواية كـ«درية».

مسألة الأصوات المتعددة لم تكن يسيرة لنقلها لعمل درامي، ولكن كاتب الحلقات الأولى «محمد أمين راضي» والمخرج «محمد ياسين» اتخذا خطوات شجاعة، فسردية النص التي تعتمد على «المأساة» كالبطل الأول للمسلسل، المأساة التي يعاني منها الجميع، لذلك تتلاشى الحدود الزمنية ونرى حلقات تسرد ماضي الشخصيات، وحلقات أخرى تسرد حاضرها، وحلقات ثالثة تسرد ماضي الشخصيات من خلال المسرحية حيث يتلاشي الزمان والمكان وتتداخل خشبة المسرح مع الحقيقة.

هذه الحركة المستمرة في الزمن نتج عنها تكرار بعض المشاهد، وهنا نُقلت الأصوات من الرواية للمسلسل، فالمشاهد المكررة تكون محمّلة بأصوات مختلفة، كل عرض لها بصوت شخصية من الشخصيات وفلسفته الحياتية، وكل مرة ستشعر أنك ترى المشهد لأول مرة، اختبارات صعبة للمخرج ياسين وسردية نصية متطورة لم نرَها في الدراما المصرية من قبل. هذه السردية نفسها التي استخدمها محفوظ في كتابة الرواية.

من خلال كل صوت سنتحدث عن بعض الشخصيات والخيوط التي لم تتواجد في الرواية، ومن خلال أصوات الرواية الأربع سننظر للمسلسل.


طارق رمضان: صوت الهزيمة

لا يحيا حياة يسيرة إلا المنحرفون، لقد بات البلد ماخورًا كبيرًا، لم كبست الشرطة بيت كرم يونس وهو يمارس الحياة كما تمارسها الدولة؟

مثّل «طارق رمضان» في الرواية صوت الحب المهزوم، كما مثّل تناقضات كثيرة في الرجل الشرقي، فهو الذي أحب تحية، وفي نفس الوقت هو من قهرها، وكان يوسعها ضربًا، وعندما ماتت بكى كالأطفال، وهو أكثر من غضب عندما رأى مسرحية «عباس يونس» التي تشير لقتل عباس لتحية وابنها. في الرواية بدأ السرد بصوت طارق رمضان، ربما لأنه هو الصوت الأبسط والأوضح.

يجمع بين طارق رمضان وصديقة «سرحان الهلالي» مأساة الهزيمة، ومأساة جيل تحولت أحلامه لكوارث، حلم المسرح والتمثيل والنجومية. طارق الفتى اليتم لم يجد رفيقًا سوى سرحان الغني الذي رعاه، كبرت أحلامهما سويًا، في وسط حلم سياسي شهدته مصر في بداية ثورة يوليو 1952. شغلهم المسرح؛ طارق وموهبته، وسرحان وحبه للمسرح ورغبته في تحويل المسرحيات الكلاسيكية لنصوص عربية، ولكن هُزم حلم المسرح كحلم الثورة.

تحول كل منهما لمسخ، طارق الذي تحول لممثل درجة ثانية، فاشل في جميع أركان حياته، تصرف عليه «أم هاني» خياطة الفرقة. وسرحان الذي تحول لشخص قاسٍ، صاحب مسرح متجبر لا يرغب سوى في المكسب، هوايته القمار ومعاشرة النساء، نموذجان للأنانية والسلطوية، ومع ذلك استطاع الكاتب ألا يحملنا على كره سرحان أو طارق، فنحن لا نشاهد الأشرار، بل نشاهد المأساة والهزيمة. أجاد إياد نصار في دور طارق رمضان، بل ربما يكون هو الممثل الأبرز في المسلسل، وجمال سليمان استطاع رسم شخصية المتجبر، ونجح في نقل مشاعر الكره والتعاطف في نفس الوقت.


كرم يونس: صوت العبث

عجيب أن يطمح الناس للتحرر من الحكومة على حين يرسفون بكل ارتياح في القيود الكامنة في أنفسهم.

هو صوت التشائم والعبث، فعبثية «كرم يونس» لا تنبع من لا منطقية، بل هو يرى حقيقة ما حوله كما هي، فجميع من حوله مذنبون مدعون للتحضر والشرف. الشرف والتحضر هي قيود كالحكومة، يرى كرم أن الأمور بشكلها الحقيقي أفضل، ويرى ذنوب وخطايا الجميع، رأى أن ذلك الادعاء نابع من النزعة الأخلاقية المثالية عند جميع من حوله، الذي يدفعهم لإبراز الجانب الطيب الشريف المثالي، في مقابل حقيقتهم، ولذلك أصبح كرم يونس مضادًا للنزعة الأخلاقية غير مبالٍ بالحياة ولا ما حوله بالرغم من إدراكه له.

يمثل «عباس يونس» بالنسبة لكرم الأزمة الكبرى، فدائمًا عباس يمتلك نزعة أخلاقية ومثالية، هذه النزعة نابعة من تربية «حليمة» له، فهي التي ربته على أن يكون الملاك الشريف، لذلك رحب كرم في داخله بفكرة قتل عباس لـ«تحية»، فلا أحد مثالي في العالم، وهو ليس سوى ابن حرام آخر كالجميع.

مع الانفتاح الاقتصادي وزيادة الفقر تزداد النزعة اللا أخلاقية، فحول «كرم» أحد الغرف لماخور للعب القمار وشرب الخمور، أثناء نوم ابنه عباس، وتقبل العلاقة التي حدثت بين حليمة وسرحان، فقام بفعلين متناقضين فانفصل عن حليمة في غرف النوم، ولم يطلقها، فقط لكي يذكرها بعدم شرفها، أو كما قال هو «أسوأ الحشرات إلا حشرة واحدة».


حليمة الكبش: صوت المرأة.. وعورتها

«حليمة الكبش» صوت المرأة في الرواية، والمرأة في عصر الهزيمة والانحطاط. في بداية عملها بالمسرح اغتصبها سرحان الهلالي، ثم لم يقم بأي تعويض إلا عندما شعر بالخطر من اقتراب زواجها وافتضاح أمرهم، ولكنها تحلت بالشجاعة وأخبرت «كرم يونس» الذي قبل بالأمر، ثم تحملت تحولات شخصية كرم يونس وإدمانه للأفيون، ورفضت خيانته برغم من إغواء سرحان لها، ومع ذلك وجه لها كرم يونس الاتهام، وظل يعذبها بكلماته القاسية.

لم يتعامل المسلسل مع العلاقات غير الشرعية برفض، بل تعامل مع بعضها برؤية إيجابية كعلاقة تحية وطارق، والأخرى بسلبية كعلاقات عائلة تحية، وحليمة وسرحان.

ومن صوت المرأة تفرّع من خيال كتاب المسلسل قصة عائلة تحية (التي لم يرد ذكرها في الرواية). أربع شخصيات غنية يمثلون رؤية المرأة كوعاء للجنس، وكمصدر للتجارة والربح بأجسادهن، فـ«بدرية» أم لثلاث بنات؛ «سنية» و«تحية» و«علية»، علمتها تجارب الحياة معاداة الرجال، فلسفة بدرية قائمة على احكتار استغلال أجساد بناتها الثلاث، فأجسادهن مصدر دخل وفير، وفي نفس الوقت مطمع لمن يريد استغلاله والربح منه كشخصية «أحمد السعدني».

نجح المسلسل في إقناعنا بتناقض «بدرية»، فمصدر استغلالها لأجساد بناتها هو قناعتها بوجوب ذلك سواء بيدها أو بيد غيرها، لذلك يجب توفير الربح الأكبر ما دام ما سيحدث يجب أن يحدث. «سوسن بدر» تألقت كعادتها في تجسيد الشراسة والحب وفلسفة بدرية، «سنية» رمز القهر الأكبر التي مثلتها «رانيا يوسف» ببراعة تمثيلية وحركية في تأديتها للرقصات، «دينا الشربيني» في دور «علية» التي استغلت جسدها للترقي الصحفي، و«تحية» التي تمردت على احتكار بدرية لجسدها. كلهن أجدن التعبير عن صوت المرأة.

إضافة شخصيات من خارج الرواية المحفوظية مغامرة شديدة الخطورة، ولكنها كانت عظيمة في تدعيم صوت المرأة في وسط الأحداث، بل جعلته الحدث الأبرز والأكثر إتقانًا.


عباس يونس: صوت الحلم

حرارة المقت أقوى من موقد الفرن. وكم أشعر بالتعاسة وأنا أنظف البيت القديم الكريه، أو وأنا أعد الطعام. كيف قضي عليّ بهذه الحياة؟
ليكن البيت القديم هو المكان، ليكن الماخور هو المصير، ليكن الناس هم الناس، ولكن الجوهر سيكون الحلم لا الواقع.

«عباس يونس» هو صوت الحلم في الرواية، البعث الطاهر وسط الدنس، رمز للحقبة المتمناة بعد الهزيمة، أمل «محفوظ» في جيل جديد، ينهي على كل الهزائم. على الرغم من نشأته في ظروف اقتصادية صعبة، وأسرة مشتتة ولكنه تلقى الرعاية الكافية، وعاش وسط المسرح والحلم، شهد الهزائم والخطايا، تزوج من «تحية» وهي أكثر من بحث عن الحب والإخلاص في وسط هذا الدنس.

عباس حلم من صلب الهزيمة، سمحت له الظروف بمعرفة خطايا كل الشخصيات، مما جعله قادرًا على كتابة مسرحية جوهرها الحلم، الحلم الذي سيحاول البعث وتغيير الواقع القديم، الواقع القديم الذي اعتبر عباس الماخور هو مصيره، أشخاص مخمورون يلعبون القمار منفصلين عن الدنيا، تتحكم فيهم النزوات.

«أفراح القبة» مثّل لنا حلمًا لثورة جديدة في الدراما المصرية، وتغيير طرق السرد التقليدية وبناء الشخصيات، والحدود الزمانية والمكانية، كليشهات كثيرة ظلت ثابتة في الدراما المصرية حتى ظننا أنها لن تتغير، ولكن أفراح القبة حتى ولو تعددت سلبياته، ولكنه أمل جديد لتغيير شكل الدراما المصرية ونصوصها، وإعادة فكرة الاقتباس عن الروايات، التي توقفت عنها الدراما المصرية منذ فترة طويلة.

محمد ياسين مخرج «الحلم» الذي تمكن من أدواته الأخراجية، تحكم في سياقات الزمان والمكان وعدم الوقوع في فخ التشتت، اختلاف زمن الأحداث في كل حلقة عن الأخرى وتكرار نفس المشاهد، تحديات كثيرة على المستوى التقني، الخطأ الواحد قد يكلف عدم فهم المشاهدين للمسلسل وترتيب أحداثه، أو شعورهم بالمطّ من تكرار الأحداث، ولكن حتى الآن محمد ياسين بسلاسة يقود تلك الثورة في أسلوب السرد. أما على مستوى الصورة فقد برع ياسين في استخدام كاميرا متحركة في المشاهد الطويلة، مما يعطي للمشهد حيوية وقدرة على إظهار أكثر من حدث في أكثر من مكان في مشهد واحد وبحركة كاميرا واحدة.

«أفراح القبة» تجربة جديرة بالاحترام، ومسلسل سيُذكر كثيرًا في تاريخ الدراما المصرية ولن يُنسي بسهولة.