محتوى مترجم
المصدر
Jacobin
التاريخ
2015/10/30
الكاتب
Roberto Patricio Korzeniewicz

يعالج كتاب دارن آسيموغلو وجايمس روبينسون «لماذا تفشل الأمم: أصول السلطة والازدهار والفقر» أشد الأسئلة انتشارا في العلوم الاجتماعية: لماذا تصبح دول غنية بينما تظل أخرى فقيرة؟

تلقى الكتاب عددا من المراجعات الصحفية المشيدة من قبل شخصيات بارزة؛ إذ يصفه كاتب العمود في صحيفة نيويورك تايمز، توماس فريدمان بالـ «ساحر». ويعتقد جاريد ديموند أنه يجب أن يكون «قراءة متطلَّبة»، فيما يشيد باحثون مرموقون بينهم داني رودريك وروبرت سولو وكينيث آرو وفرانسيس فوكوياما باتساع أفق الكتاب وعمقه.

إن اللبنة الأساسية في أطروحة الكتاب، هي الإجابة البسيطة نسبيا التي يقدمها آسيموغلو، رجل اقتصاد، وروبينسون، عالم سياسة، لأحجية ظلت قائمة لوقت طويل: تطوّر بعض الدول مؤسسات حاضنة Inclusive ترعى نموا اقتصاديا مستداما وتولد الرخاء، بينما تديم دول أخرى و(تعيد إنتاج) مؤسسات إقصائية Extractive تعيق إمكانية نمو بعيد المدى. وقد تشهد الدول الأخيرة طفرة رخاء مؤقتة (كالاتحاد السوفييتي) إلا أنها لن تحقق ازدهارا حقيقيا على المدى البعيد.

لماذا؟ بعد معاينة المنعطفات التاريخية لدول حول العالم، يستنتج آسيموغلو وروبينسون أن المؤسسات الحاضنة -الحكومات المركزية إنما التعددية، وحقوق الملكية والحقوق السياسية المشروطة إنما الموزعة على نطاق واسع، والتطبيق العادل للقانون، والأسواق التنافسية- هي ما يولد الحوافز الاقتصادية التي تنتج الابتكار المستمر.

يقول آسيموغلو وروبينسون أن ارتباط الوصول للثروة والحكم برافعة السلطة السياسية هو السبب وراء محاولة النخب في تلك البلدان تقييد التنافسية والحد من الابتكار

مع البنية المؤسساتية السليمة، يجادل الإثنان، تفشل قوى اجتماعية معينة كـالنخبة المتأصلة Entrenched Elite في كبح الضغوط التنافسية أو في السيطرة على مردود الابتكار. وكنتيجة: يُسمح لما يدعوه شومبيترالتدمير الخلاق Creative Destruction -عملية الإزالة المتواصلة لكل من المؤسسات والأفكار والإستراتيجيات التنظيمية والشركات الموجودة سلفا بالتزامن مع نشوء أخرى جديدة- بأن يُعمِل سحره، وهو الأمر الذي تكون ثمرته نموًا متواصلًا بعيد المدى. بيد أن أغلب الدول -لأسباب يحاول روبينسون وآسيموغلو تفسيرها- لا تطور مؤسسات حاضنة على الإطلاق. وعوضا عن ذلك، تكون مؤسساتها إقصائية، مصممة لتضخيم قابلية جماعة صغرى (نخبة) على نهب الموارد.

يقول آسيموغلو وروبينسون أن ارتباط الوصول للثروة والحكم برافعة السلطة السياسية هو السبب وراء محاولة النخب في تلك البلدان تقييد التنافسية والحد من الابتكار. وبالإضافة إلى إعاقة التدمير الخلاق، تنتج تلك الإجراءات المؤسساتية بيئة كل شيء أو العدم؛ التي تتسبب النخب المتنافسة من خلالها بأزمات خطرة كالاقتتال الداخلي وانعدام الاستقرار السياسي.

يصر المؤلفان على أن نظريتهما تفسر استمرار الفقر في بلدان معينة. فعند عملها، تتناغم المؤسسات الإقصائية والحاضنة مع العائدات والحوافز الاقتصادية المتنوعة. فيحلقة نزيهة Virtuous cycle، تستنهض الإجراءات الحاضنة الابتكار والحراك الاجتماعي، وتوطد السياسات التنافسية. وفي حلقة خبيثة Vicious cycle، تسهل المؤسسات الإقصائية استيلاء النخب المحلية على الموارد التي يستخدمون عائداتها المالية لإحكام قبضتهم على البلاد. ومن خلال أوجه التضافر Synergies في كل من الحلقتين الخبيثة والنزيهة، تتكلس المؤسسات الحاضنة والإقصائية شيئا فشيئا، باستمرارية على مدى الزمن وعلى امتداد المساحة إلى أن تزداد صلابة حينما تصل دولها منعطفات مصيرية. ويُرجِع المؤلفان استمرار رخاء دول مقابل استمرار فقر دول أخرى، عقدا تلو عقد، إلى هذا السبب.


الطاعون الذي صنع الرأسمالية الغربية!

يعودُ بنا كل من روبينسون وآسيموغلو إلى القرن السادس عشر لإثبات وجهة نظرهما. لقد كان حينئذ، يجادل الباحثان، عندما بدأ شرق أوروبا وغربها بالتباعد جوهريا -باتجاه الغرب نحو الحاضنية والشرق نحو الإقصائية. إذ كان لدى الفلاحين تفاوت نسبي في قوة التفاوض bargaining power، بين قطبي القارة العجوز.

لقد أصبحت إجراءات حيازة الأراضي في الغرب أكثر حاضنية بسبب الحدث المصيري تلك الفترة: الطاعون. وهو الأمر الذي لم يحدث في شرق أوروبا برغم مجابهته الوباء ذاته. وفي مواجهة ملاك أراض أَضعف مقارنة بأقرانهم في الشرق، تمكن فلاحو الشطر الغربي (وفي إنجلترا تحديدا) من انتزاع مزيد من الحريات، ما أدى إلى رفع الأجور ومنحهم مكانة سياسية أفضل؛ في حين كانت حرية فلاحي شرق أوروبا مقتصرة على أمور بسيطة. وبينما لم تكن الاختلافات الأولية في قوة التفاوض بذاك الكبر، يفسر آسيموغلو وروبينسون، إلا أن خصوصية المسارات التي جرى اتباعها (باتجاه مؤسسات حاضنة أو إقصائية) باتت أكثر ترسخا مع مرور الزمن.

السياسات والمؤسسات السياسية هي التي تحدد نوعية المؤسسات الاقتصادية التي يمتلكها بلد ما

مع ذلك، منظور آسيموغلو وروبينسون بعيد المدى ليس مشروطا بالصيرورة التاريخية Path dependent كليا. إذا ما كان اعتناق الدول مؤسسات سياسية واقتصادية حاضنة متعلقا بمستوى الصراع: المدى الذي ذهب إليه أولئك الذين هم ليسوا جزءا من النخبة المهمينة (وفي بعض الدول نخبة وغير نخبة) للمطالبة بإشراكهم في العملية السياسيةـ، وبالتحديد أثناء أوقات حاسمة (كالطاعون، واكتشاف الأمريكتين، وانتهاء العبودية). في حالة إنجلترا، على سبيل المثال، لم تكن طفرتها في القرن السادس عشر «معتمدة على توافق بين السلطة والشعب، وإنما كانت بالأكثر محصلة احتدام الصراع بين جماعات مختلفة (نخب) تنافست على السلطة، في محاولة انتزاع سلطة من هُم في سدة القرار، وهيكلةَ مؤسسات الدولة بما يخدم مصالحها».

إن هذه الدوزنة للسلطة إحدى الأسباب الرئيسية التي أعلت شأن روبينسون وآسيموغلو في أوساط دوائر سياسات التنمية؛ إذ يظهر التركيز على علاقة السياسة بالسلطة باعتباره تحدّيا واضحا وصريحا للأطروحات الأخرى التي ركزت على عوامل كالجغرافيا والتعليم والثقافة. يرى المؤلفان أن «السياسات والمؤسسات السياسية هي التي تحدد نوعية المؤسسات الاقتصادية التي يمتلكها بلد ما». على سبيل المثال:

برغم تركيزهم على السياسة -وبرغم الإثارة التي يبثها كتابهم في دوائر التنمية، إلا أن الكاتبين لا يزعمان تقديم الحل السحري. إذ يحثان على الحذر من تقدير استقرائي (تخمين) لسياسات معينة من تجارب ناجحة. ويقولان إنه لا يوجد نموذج بعينه للمؤسسات الحاضنة. فالمؤسسات تحمل بصمة التوازن السياسي المشروط والمتغير للقوى في أوقات وأماكن محددة. وما يسري في مكان قد لا يسري في مكان آخر.

مع ذلك، يقول آسيموغلو وربينسون أن الدول التي لديها تاريخ قصير مع المؤسسات الحاضنة تكون لديها المقدرة على تطويرها. وعلى سبيل المثال، يجادل الاثنان بأن معدلات النمو الهائلة للصين على مدى العقدين الفائتين ترجع إلى تبنيها المتواضع لمؤسسات ناجعة؛ لكن إن لم يتح المجال لهذه الإجراءات كي تعمل على نطاق أوسع، فإن المؤسسات الإقصائية الموجودة في البلاد قد تجمد هذا النمو.

وعلى عكس ما يُعتقَد، فإنَ الكاتبين يشيران إلى أن استدامة تلك المؤسسات الناجعة أمر غير محتوم، فمجرد كون بعض الدول تزداد ثراءًا لا يعني أنها ستظل مزدهرة. وباستخدام عدد من الأمثلة التاريخية (كانهيار الإمبراطورية الرومانية في القرن الثاني ما قبل الميلاد، وانهيار تجارة البندقية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، والأرجنتين في القرن العشرين)، يجادل المؤلفان على أن ثمة منعطفات معينة قد تحرف الدول سريعا عن الحاضنية وتودي بها نحو الإقصائية.


هل ينبع الفقر فحسب من سياسات الدول الفقيرة؟!

«تبقى جمهورية الكونغو الديمقراطية فقيرة لأن مواطنيها لا زالوا بحاجة إلى مؤسسات اقتصادية تخلق الحوافز التي تؤدي إلى ازدهار المجتمع… ويبقى الحال على ما هو عليه لأن السلطة السياسية تظل مقتصرة على النخبة التي لا تملك أدنى اهتمام بإرساء حقوق الملكية للشعب، وتوفير الخدمات العامة الأساسية وبالتالي تحسين جودة الحياة أو الخدمات التي ستشجع النمو الاقتصادي. لكنّ اهتمامهم على العكس من ذلك منصب على استنزاف العائدات واحتكار السلطة»

إن الأطروحة في كتاب لماذا تفشل الأمم ساحرةٌ بما لا يدع مجالا للشك، والتضاد النظري بين الميكانيزميات الحاضنة والإقصائية جلي وصريح، وإدخال عنصر التفسير السياسي تغيير مرحب به عن نظريات التنمية التي تركز على ثقافة المجتمعات أو الجغرافيا لتفسير أسباب التأخر. لكن أن يلجأ الكاتبان إلى استخدام الجدالات المختصرة في الكتاب لبناء سردية تاريخية شاملة يجعل التوظيف مفتعلا، يتجاهلُ تعقيدات الرأسمالية العالمية واللامساواة التي تخلقها.

خذ/ي موضوع العبودية على سبيل المثال؛ معتمدا على عمله الأكاديمي السابق، يرى آسيموغلو التدمير الخلاق عملية مقتصرة بشكل كبير على مجال الابتكار التكنولوجي (وبتحديد أكبر على التصنيع). وعليه فإنه يعالج موضوع العبودية بوصفها مجرد ميكانيزمية إقصائية لا تتماشى مع مبادئ الابتكار الحقيقي والنمو الاقتصادي المستدام.

إن الكسب الذي يرجع إلى التصنيع في الدول الفقيرة والاستنزاف والنهب كلها أجزاء أصيلة في عمليتي الابتكار والتغيير في الرأسمالية

لكن، أهذا ما عليه الأمر بالفعل؟ ألا يبدو عمرُ العبودية طويلا بعض الشيء بالنظر إلى أجور العمال في النظام الرأسمالي العالمي؟ وألم يقدم التوسع في تجارة العبيد ذاتها نوعا معينا من الابتكار الشومبتيري (الذي، بكل تأكيد، لم يقصر التدمير الخلاق على الابتكار التكنولوجي)؟ وألا يمثل هذا الانتشار الكبير للمزارع الواسعة على امتداد العالم الكولونيالي بذاته عملية ابتكار؟

إن الكسب الذي يرجع إلى التصنيع في الدول الفقيرة والاستنزاف والنهب كلها أجزاء أصيلة في عمليتي الابتكار والتغيير في الرأسمالية، فعندما يحصر المؤلفان فهمها إلى الطريقة التي تتطور بها الرأسمالية العالمية على مر الزمن إلى أنماط مثالية سطحية: تَغْرُب هذه الحقيقة.

بالتأكيد، فإن جزءا مما يجعل الطرح الفكري في كتاب «لماذا تفشل الأمم» بالغ البساطة والوضوح هو الغموض الذي يكتنف المؤسسات المقصودة. وقد يكون لدى القارئ حدس أولي بما يعنيه المؤلفان بالمؤسسات الحاضنة والمؤسسات الإقصائية، وقد يعتمدون على هذه الحدسية في التحقق من صحة آراء المؤلفين. لكننا إن رسمنا حدودا أشد دقة للتمييز بين نوعين من الترتيبات المؤسساتية ستزداد صعوبة إثبات أن أغلب البلدان مشخصة بانتشار مؤسسات من نوع على حساب آخر. عوض ذلك، فإنه من المرجح أن نجد بأن كلا من المنطقين الحاضن والإقصائي يعملان جنبا إلى جنب وهو الأمر الذي تعتمد عليه الرأسمالية للازدهار.

المواطنة القومية مثال جيد؛ فالترتيبات المؤسساتية المتضمّنة في المواطنة القومية، في معظم الدول، تشمل معايير تاريخية تضمن حصول فئات معينة من السكان عليها، بما تمنحه من وصول للحقوق والسياسات والمؤسسات، ولكن، في ذات الوقت، سكان آخرون (على سبيل المثال، في أوقات وأماكن مختلفة، النساء والأقليات العرقية ومواطنو دول أخرى) يجري استثناؤهم من هذه الامتيازات.

وأيضا فبواسطة تطبيع وجود القوميات، عبر تبنيها كوحدات بدهية للتحليل، يجعل المؤلفان فحص الهجائن والمولَّدات الناجمة عن تعايش المؤسسات الإقصائية والحاضنة جنبا إلى جنب، بشكل حاسم، أمرًا مستحيلا. وعوض كونها محدودة في أطر الدولة القومية الحديثة، من الأفضل فهم الرأسمالية، كظاهرة عالمية تاريخية متمثلة بتمازج بين أنظمة متفاوتة (مؤسسات حاضنة وأخرى إقصائية، بالإضافة للتدمير الخلاق).

عوض كونها محدودة في أطر الدولة القومية الحديثة، من الأفضل فهم الرأسمالية، كظاهرة عالمية تاريخية متمثلة بتمازج بين أنظمة متفاوتة

قبل عدة عقود، ربطت مؤلفات العلوم الاجتماعية عدم المساواة العالمية بسمات ثقافية: نعمت بعض الدول بخصائص رعت روح المبادرة والإبداعية، فيما فشلت أخرى لتقيدهم بمبدأ القضاء والقدر (الجبرية). وقد انتُقد هذا المنظور بشدة لفشله في التحديد الدقيق لميكانيزمات العلائقية بين السلطة وعدم المساواة. يحسب لآسيموغلو وروبينسون عدم وقوعهما في الفخ الثقافي. فهُما يركزان على أهمية الصراع، ملقين الضوء على الأهمية التاريخية للحشدين السياسي والاجتماعي من قبل أولئك المستثنين؛ وهذا أمر جيد.

لكن كما فعل المنظرون الحداثيون فيما مضى، فإن المنظور «المؤسساتي» يميل إلى تطبيع القوميات كما لو كانت الواحدة منها موجودة في منأى عن الأخرى. تماما كما استخدمت نظريات خمسينيات القرن الماضي المعتقدات والتوجهات بشكل مزعوم لتفسير تقدم الحداثة وتسمّر «التخلف»، يتقيّأ آسيموغلو وربينسون بنية نظرية مختزِلة مؤسسَّة حول انقسام بين نوعين من الإجراءات المؤسساتية التي إما أن توطّد أو تثبط ازدهارا ورفاهية بعيديّ المدى.

بطريقة مشابهةٍ لما كان عليه الأمر في الخمسينيات، يعتبر كثير من المراقبين اليوم التبسيط النظري للمؤسساتيين جذابا وسهل الهضم. إنما بالنسبة لآخرين، بمن فيهم أنا، فمهمة التحديد الدقيق للعمليات العلائقية التي تنتج وتعيد إنتاج الرأسمالية العالمية -واللامساواة التاريخية التي تحدثها- ستظل ملحة كما كانت من قبل.