رغم نشأته البروتستانية، تبعًا لمذهب والده القسّ البروتستانتي الفرنسي، إلا أن «بيير بايل» لم يكد يلتحق بالمعهد اليسوعي، حتى اعتنق المذهب الكاثوليكي، مذهب الأغلبية في فرنسا. ولم تمضِ فترة طويلة، حتى قرّر الرجوع من جديد إلى البروتستانتية. ولكي لا يقع تحت طائلة العقوبة التي وضعها ملك فرنسا لويس الرابع عشر، لكل من يرتدّ عن الكاثوليكية إلى البروتستانتية، اضطر بايل للهرب إلى هولندا. وهناك، اشتغل على تفكيك الظاهرة الدينية، ولم يتوقّف في اشتغاله ذاك على تفكيك البروتستانتية فقط، بل قام بتفكيك الديانة المسيحية ذاتها، وقام بإجراء دراسات منصفة للظاهرة الدينية في المجتمعات غير المسيحية، بما فيها المجتمعات المسلمة، وكتب موسوعته الرائعة «القاموس النقدي والتاريخي». وهناك من روتردام كان بيير يرأس تحرير مجلة أدبية شهرية اسمها «أخبار من جمهورية الآداب».


تسامح بيير بايل أم تسامح جون لوك؟

لولا بيير بايل، الذي أعتبره المؤسس الحقيقي لعصر الأنوار ومدمر السلطة الكنسية في أوروبا، لما انتهى عصر الحروب الدينية، ليس في أوروبا فقط بل في كل العالم. كان نموذج الدولة التنينية لتوماس هوبز يقوم على فرضية ووجوب تدخل الحاكم لفرض رؤية دينية موحدة للمجتمع ونموذج الدولة المدنية لجون لوك قائم على فصل الدين عن السياسة ولكن كليهما لم يناقش القضية الدينية بجدية مثلما فعل بيير بايل.

يتميز بيير بايل بتسامح حقيقي لا تسامح وهمي مثل تسامح جون لوك الذي كان يتسامح مع عباد الأصنام من هنود أمريكا الحمر ولا يتسامح مع الروم الكاثوليك أو الملحدين.

يقول جون لوك في رسالته عن التسامح «إن القوم الذين لا يؤمنون بالله لا يستحقون أن يعاملوا بالتسامح فإن الكافر لا يقيم وزنًا لعهد أو قسم أو ميثاق وتلك الروابط التي يتماسك بها المجتمع الإنساني. إن استبعاد الله ولو في الفكر ينقض هذه الروابط نقضًا، هذا فضلا على أن هؤلاء الذين يقوضون بإلحادهم الأديان كلها لا يمكن أن يزعموا أن لهم دينًا يطلبون بمقتضاه حق التسامح».

لكن بيير بايل يخالفه الرأي، فأخطر ما توصل إليه بيير بايل هو فرضيته المسماة «مفارقة بايل»، التي تقوم على أنه لا توجد علاقة بين الأخلاق والدين، وبالتالي فإن الشخص الملحد ممكن أن يكون مواطنا طيبًا وصالحًا، وكتب بيير بايل جملته الشهيرة الساخرة: «إن أكبر الآثمين في هذا التاريخ الذين تقشعر من هول جرائمهم الأبدان يؤمنون بوجود إله… وحتى الشيطان نفسه الذي يغوي البشر فيقودهم إلى الضلال يؤمن بوجود الله، وبهذا نرى التشابه بين خبث المجرم المؤمن وخبث إبليس؛ فإن كليهما لا ينكران وجوده».


الكنيسة والملك تحت مِقصلة النقد

وهاجم بيير فرض المسيحية بالقوة على الوثنيين ورد على القائلين على أنها أخطاء تاريخية بمقولته الذهبية (إن الأخطاء لن تصبح على حال أفضل بسبب كونها قديمة). وقال بيير أن المانع الحقيقي للرجال لكي لا يقوموا بالأفعال الخاطئة لا يمكن أن يكون الدين بل هو القانون (وهذا مشابه للمقولة الإسلامية: إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن). وقال بيير أن مجتمعًا من الملحدين يمكن أن يستمر ويعيش طالما كان هناك قانون قوي ورادع. وكان يرى أن الإيمان مجرد مسألة ضمير فردي ولا علاقة له بالدولة لأنه لا يمكن إثبات صحة أي دين بدليل أرضي وأدلة إثبات صحة الأديان تكمن في الوحي.

هاجم بيير بايل الكنيسة الكاثوليكية، وهاجم ملك فرنسا الكاثوليكي، وملك إنجلترا البروتستانتي، وصار مطلوبًا لدى كليهما.

كان نقد بيير بايل للدين المسيحي شديدًا لدرجة أنه كان مطلوبا من قبل ملك إنجلترا وليم الثالث (البروتستانتي) ومن قبل ملك فرنسا لويس الرابع عشر (الكاثوليكي). وعندما عجز ملك فرنسا عن القبض على بيير بايل اعتقل شقيقه جاكوب وطلب من بيير تسليم نفسه أو سيقتل شقيقه وعندما رفض بيير تسليم نفسه قام ملك فرنسا بقتل شقيقه بعد أن عرض عليه اعتناق الكاثوليكية أو الموت.

يقول بيير في كتابه الرائع «القاموس النقدي»: «على الكاتب أن يكون مهتمًا فقط بمصالح الحق واهتمامات الحقيقة، حيث ينبغي له أن يضحي على مذبحها بالأحقاد وبذكرى أفضال الأغيار عليه وحتى بحبه لوطنه، ويتوجب عليه أنه ينتمي لأي بلد أو أنه نشأ على أي مذهب معين ، أو أنه يدين بالفضل إلى هذا أو ذاك الإنسان أو أن هؤلاء الناس هم أهله وهؤلاء هم أصدقاؤه، فالمؤرخ الحقيقي هو كملكي صادق لا أب له ولا أم ولا نسب وإذا سأله أحدهم: من أين أنت؟ ومن أنت؟ فعليه أن يجيب أنا لست فرنسيا ولا ألمانيا ولا إنجليزيا، أنا إنسان مقيم في العالم وأنا لست بخادم الإمبراطور ولا بخادم ملك فرنسا، بل أنا خادم الحقيقة».

هاجم بيير ملك فرنسا لويس الرابع عشر بكل قسوة في كتابه (معنى انحطاط فرنسا الكاثوليكية في ظل لويس الكبير)، وهاجم الكاثوليكية بقسوة أكبر في كتابه (شرح فلسفي لعبارة منسوبة للمسيح أجبرهم على الدخول)، حيث كانت الكنيسة الكاثوليكية تجبر الناس على اعتناق دينها بسبب جملة منسوبة للسيد المسيح هي: «أجبروهم على الدخول إلى حظيرتكم».


«فولتير» على خُطى «بيير بايل»

يعتبر فولتير أشهر تلاميذ بيير بايل، رغم أنه لم يلتقِ به، إلا أنه دافع عن كل آرائه وزاد عليها ووصل بفكره عن التسامح مبلغًا لم يعرفه الفلاسفة الآخرون. فبدأ وضع أولى اللبنات للإخوة الإنسانية، فكتب في رسالته الشهيرة: «إني سأذهب إلى أبعد من ذلك فأدعوكم إلى اعتبار البشر جميعا إخوة لكم. ماذا؟! قد تجيبون أيكون التركي (أي المسلم) شقيقي؟ والصيني شقيقي؟ واليهودي؟ والسيامي؟ أجل بلا ريب، أفَلَسنا جميعا أبناء أب واحد، ومخلوقات إله واحد؟».

تأثّر فولتير باتجاه بيير بايل في التسامح الديني، وواصل مسيرته مدافعًا عن آرائه، ومطوّرًا لها.

وكتب فولتير في معجمه الفلسفي: «إن الله يثيب بالفضيلة ويعاقب بالرذيلة، وإن ثمة دينا عاما وأصيلا وبدائيا وبسيطا ومعقولا، كما إن جميع الأديان تنبع من ذات المنبع، إن سقراط ومحمد وكونفيشوس والمسيح كانوا في ذات أنفسهم يؤمنون بالدين الواحد ذاته دين الطبيعة، وهو الدين المنقوش على كل قلب، ويجوز لنا أن نختزل أوامره إلى أمرين: اعبد الله، وكن عادلا».

أخيرًا، هل بالإمكان الاستفادة من بيير بايل في عصرنا؟

الأمة الإسلامية في أمس الحاجة لمثل بيير بايل، خصوصا في دعوته للتسامح بين الطوائف الدينية فنحن نعيش في حالة احتراب طائفي يكاد يشعل الإقليم كله. وكما كان الكاثوليك والبروتستانت ضحية الصراع السياسي بين فرنسا الكاثوليكية وبريطانيا البروتستانية، فإن أمتنا تقع اليوم ضحية صراع بين محور شيعي وآخر سني، ولا خروج من هذا النفق إلا بـ«بير بايل» إسلامي يُفكك أساطير هذا الصراع ويُظهر سخافته.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.