تتفق المصادر التاريخية على أن خلافاً دبَّ بين المعتزلة والفقهاء في بدايات القرن الثالث الهجري، إذ دارت المناقشات الطويلة بين الطرفين حول مسألة خلق القرآن، وبينما تمكن المعتزلة من حمل الناس على رأيهم المؤكد على خلق القرآن في عهود كلٍّ من المأمون والمعتصم والواثق بالله، فإن الفقهاء ما لبثوا أن استعادوا مكانتهم ونفوذهم بدايةً من عهد الخليفة المتوكل على الله.

في ظل هذا الصراع المحتدم، ظهر اسم أحمد بن حنبل، بوصفه أهم وأعظم الفقهاء، ممن حافظوا على موقفهم الرافض للقول بخلق القرآن، الأمر الذي حدا بمن تبعه من العلماء لتسميته بإمام أهل السنة والجماعة.

مع الوقت، جمعت المظلة الحنبلية بين كثير من الفقهاء والأصوليين الذين اختاروا أن يسيروا على درب مؤسس مذهبهم، فأخذوا بالأوامر الشرعية بشكل حرفي، وأثبتوا صفات الله من دون تأويل، وحاربوا التصوف، في الوقت الذي التزموا فيه قراءة صارمة للتاريخ، لا سيما تلك الخلافات التي دارت في عصر الصحابة والتابعين.

على الرغم من كل هذا، يمكننا أن نجد أن بعض الفقهاء الحنابلة قد شذوا عن السياق العام، فعُرف بعضهم بنزوعه للتأويل، وعُرف البعض الآخر بالميل للتصوف، فيما ذاعت بعض الفتاوى المتساهلة عن البعض من كبار أعلامهم.

ابن عقيل

كان أبو الوفا علي بن عقيل بن محمد بن عقيل المتوفى 513هـ، والمعروف بِاسم ابن عقيل الحنبلي، واحداً من بين كبار العلماء الحنابلة الذين عُرفوا بانفتاحهم على بقية المذاهب الإسلامية. ابن عقيل، نشأ في أسرة حنفية، وبدأ طلبه للعلم على المذهب الحنفي، ثم درس على يد مجموعة من الأساتذة المختلفين في المذاهب والأفكار. من أهمهم: القاضي أبي يعلى الحنبلي المتوفى 458هـ، وشيخ الشافعية أبي إسحاق الشيرازي الأشعري المتوفى 476ه، فضلاً عن المتكلم المعتزلي علي بن الوليد المتوفى 478هـ.

ابن حجر العسقلاني المتوفى 852هـ أشاد في كتابه «لسان الميزان»، كثيراً بابن عقيل، فكان مما قاله عنه، إنه «أحد الأعلام وفرد زمانه علماً ونقلاً وذكاءً وتفنناً… إلا أنه خالف السلف ووافق المعتزلة في عدة بدع…».

مخالفة ابن عقيل للخط الحنبلي، ظهرت في ما أورده ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة، عن ابن عقيل نفسه، عندما وصف علماء الحنابلة بأنهم «قوم خشن… فزعوا عن الآراء إلى الروايات، وتمسكوا بالظاهر تحرجاً عن التأويل… إنما غلبت عليهم الشناعة لإيمانهم بظواهر الآي والأخبار، من غير تأويل ولا إنكار…»، كما ظهرت تلك المخالفة في كونه- أي ابن عقيل- ورغم ثنائه الدائم على مذهب أحمد بن حنبل، لم يلزم نفسه بآراء أحمد دون غيرها، فنراه وقد انفتح على جميع الآراء والمذاهب «…فكان يتكلم كثيراً بلسان الاجتهاد والترجيح، وإتباع الدليل الذي يظهر له ويقول: الواجب اتباع الدليل، لا اتباع أحمد…».

من بين المسائل الفقهية التي خالف فيها ابن عقيل الحنابلة، أن الربا لا يجري إلا في الأعيان الستة المنصوص عليها، وقوله، إن الأب ليس له أن يتملك من مال ولده ما شاء، وكذلك رأيه في أن المشروع في عطية الأولاد: التسوية بين الذكور والإناث، وأن الإمام لا يجب أن يمتنع عن الصلاة على من قتل نفسه، وكذلك ظهرت روح المساواة والعدالة في قوله إنه يجب إقامة الحد بقذف العبد العفيف كالحر.

تسامح ابن عقيل مع الآخر المذهبي ظهر في موقفين مهمين، أولهما ما صرح به، ونُقل عنه في ذيل طبقات الحنابلة، في أنه قد اعتقد لفترة طويلة من حياته- قبل أن يُمتحن ويخضع لاستجواب نظرائه من علماء الحنابلة- بصحة عقيدة الحلاج الصوفي، وأنه- أي الحلاج- إنما كان من «أهل الدّين والزُّهد والكرامات…»، وثانيهما، ما حكاه عنه تلميذه أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه «المنتظم في تاريخ الملوك والأمم»، من أن الفقيه الشافعي أبا الحسن الطبري المعروف بـ«الكيا الهراسي»، لما قُبض عليه واتُهم بقوله بعقائد الشيعة الإسماعيلية الباطنية، فإن ابن عقيل لم يأبه للخلاف المذهبي بينه وبين الكيا، وسارع مع غيره من كبار العلماء لتبرئته من هذه التهمة.

وكما هو متوقع، فإن طريقة ابن عقيل المخالفة للحنابلة، قد حملتهم على إيذائه والإيقاع به في كثير من الأحيان، خصوصاً بعدما اشتهر بتأويله لصفات الله، وبكونه قد تابع المعتزلة في كثير من آرائهم الاعتقادية، وذلك بحسب ما يذكر ابن العماد الحنبلي المتوفى 1089هـ في كتابه «شذرات الذهب في أخبار من ذهب».

ابن الجوزي

على الرغم من أن الفقيه والمؤرخ أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي المتوفى 597هـ، قد اشتهر بين أقرانه بوصفه الحنبلي الذي وافق الحنابلة في الفروع وخالفهم في الأصول، فإنه قد حظي بمكانة عظيمة بين علماء بغداد في القرن السادس الهجري، الأمر الذي يشهد عليه ما وصفه به شمس الدين الذهبي المتوفى 748هـ في سيّر أعلام النبلاء، إذ يقول «…كان بحراً في التفسير، علامة في السيّر والتاريخ، موصوفاً بحسن الحديث، ومعرفة فنونه، عليماً بالإجماع والاختلاف، جيد المشاركة في الطب، ذا تفنن وفهم وذكاء وحفظ واستحضار، وإكباب على الجمع والتصنيف، مع التصون والتجمل، وحسن الإشارة، ورشاقة العبارة، ولطف الشمائل، والأوصاف الحميدة، والحرمة الوافرة عند الخاص والعام، ما عرفت أحداً صنف ما صنف».

معارضة ابن الجوزي للحنابلة، ظهرت في أمرين رئيسين، وهما: مخالفته للقراءة الحنبلية المعتمدة لبعض الأحداث التاريخية، وتأويله لكثير من الآيات التي وردت بها الصفات الإلهية.

فيما يخصُّ النقطة الأولى، فإن ابن الجوزي لما وجد أن كثيراً من معاصريه من علماء الحنابلة، قد ذهبوا إلى تصحيح خلافة يزيد بن معاوية، وأنهم قد ترضوا عليه والتمسوا له المعاذير والمبررات فيما فعله من شنائع وجرائم زمن حكمه، وكانوا مدفوعين في ذلك بحالة الخصام والمنافرة مع علماء الشيعة، فإنه- أي ابن الجوزي- قد أعلن عن رفضه لهذا الموقف، وصنف كتاباً شهيراً سماه «الرد على المتعصب العنيد المانع من ذم يزيد»، ورد فيه على عبد المغيث الحنبلي، وبيّن فساد يزيد وفسقه وخطورة ما ارتكب من معاصي ومحرمات، ولم يأبه للرأي الحنبلي السائد وقتها والذي كان يتولى يزيد من باب مكايدة الشيعة ومعارضتهم.

مما يتصل بذلك، أن ابن الجوزي لما سُئل عن الأفضل بين أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب، فإنه قد أجاب بأن الأفضل هو «من كانت ابنته تحته»، وهي عبارة غامضة قد يُفهم منها أن أبا بكر أفضل لأن ابنته عائشة كانت متزوجة من النبي، وقد يُفهم منها أيضاً أن علي أفضل لأنه كان متزوجاً من فاطمة بنت الرسول، ورغم هذا الموقف المذهبي المتوازن إلى حد بعيد، إلا أن ابن الجوزي قد تعرض لمحنة شديدة في نهايات حياته، عندما وشى به البعض عند الوزير الشيعي ابن القصاب، فاتهموه بأنه ناصبي يضمر الكره والحقد لآل البيت، فحُبس وسُجن لفترة قبل أن يُفرج عنه.

أما فيما يخص النقطة الثانية، فإن ابن الجوزي قد عُرف بمتابعته لشيخه ابن عقيل في منهجه الرافض للفهم الحنبلي الأثري التقليدي في تفسير آيات الصفات الإلهية، وقد وصل ذلك لدرجة أنه قد صنف كتاباً كاملاً بعنوان «دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه»، وقد رد فيه على كثير من مشايخ الحنابلة المشهورين من أمثال كل من القاضي أبي يعلى الفراء وابن الزاغوني، الأمر الذي عرّضه لغضب حنابلة عصره.

عبد القادر الجيلاني

لما كان من المعروف أن الأغلبية الغالبة من الحنابلة، يلتزمون بالأوامر الشرعية الصريحة المباشرة، ويرفضون العمل على تأويلها أو فهمها بشكل باطني، فقد كان من الطبيعي والحال كذلك أن تفصل الهوة السحيقة بين المزاج الحنبلي من جهة، والتعاليم الصوفية التي تعتمد بالمقام الأول على النواحي الروحانية من جهة أخرى.

من هنا، يمكننا أن نتفهم المفارقة العجيبة التي تتمثل في أن واحداً من كبار أقطاب الصوفية عبر تاريخها، كان في الوقت ذاته، فقيهاً حنبلياً يسير على خُطى الإمام أحمد. هذا الفقيه المتصوف- أو الصوفي المتفقه- هو عبد القادر بن موسى بن عبد الله، المشهور بعبد القادر الجيلاني، والذي ولد في عام 470هـ بمدينة جيلان في إيران، وتوفي في عام 561هـ، بمدينة بغداد في العراق.

إتباع الجيلاني للمذهب الحنبلي ظهر بشكل واضح في كثير من مؤلفاته الفقهية، كما اتضح أيضًا في ما نقله عنه كبار الحنابلة من اقوال ومعتقدات. على سبيل المثال، دون الجيلاني كتاب «الغنية»، الذي شرح فيه أحكام العبادات والشرائع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، كما نقل عنه الإمام الحنبلي الكبير ابن القيم الجوزية المتوفى 751هـ في كتابه اجتماع الجيوش الإسلامية، إثباته لصفة الاستواء الإلهي الواردة في الآية الخامسة من سورة طه «الرحمن على العرش استوى»، وكيف أنه- أي الجيلاني- قد تعصب للفهم الأثري الحنبلي لتلك الآية، فذهب إلى ضرورة إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل، ورفض ما قال به الأشاعرة وغيرهم من أن الله، عز وجل، موجود في كل مكان.

على الجانب الآخر، عُرف الجيلاني بطريقته الصوفية ذائعة الصيت، والتي قُدر لها الانتشار في بقاع مختلفة من العراق وآسيا الوسطى وإيران، وفي السياق نفسه، نجد أن كبار الأئمة والعلماء، قد اجتمعوا على القول والاعتقاد بكرامات الجيلاني، فأثبتوها وتواترت فيما بينهم، ومن بين أشهر تلك الكرامات، ما أورده محمد رشيد رضا في تفسير المنار من أن عبد القادر قد رأى نوراً عظيماً يوماً ما، وسمع منه صوتاً يخاطبه بأنه ربه وأنه قد أحل له المحرمات، فقال له الجيلاني: «اخسأ يا لعين»، فتحول النور ظلاماً.

الجيلاني، صنف كثيراً من الكتب التي جمع في مضامينها بين الحقيقة الصوفية والأوامر الشرعية، وحُفظت عنه كثير من الأقوال التي تناقلها أهل الزهد عبر القرون، ومنها نصيحته لأتباعه «كونوا بوَّابين على باب قلوبكم، وأدخلوا ما يأمركم الله بإدخاله، وأخرجوا ما يأمركم الله بإخراجه، ولا تُخلوا الهوى قلوبكم فتهلكوا»، ومنها حديثه عن جهاد النفس ومغالبة الهوى «كلَّما جاهدتَ النفسَ وقتلتها بالطاعات كلَّما حييت وكلَّما أكرمتها ولم تنهها في مرضاة الله ماتت…».

ابن تيمية

على الرغم من أن اسم الإمام الحنبلي، شيخ الإسلام، تقي الدين ابن تيمية الحراني المتوفى 728هـ، قد ارتبط في الذهنية الجمعية السائدة، بأعمال العنف والتكفير والإقصاء، فإن القراءة المتأنية في كتاباته، من شأنها أن تميط اللثام عن بعض الجوانب المتسامحة التي قلما تعرض لها الباحثون والمفكرون بالشرح والدراسة.

أولى تلك الجوانب، كانت تلك التي تعلقت بموقفه من قضية الطلاق التي شذ فيها شيخ الإسلام عن السياق السني الجمعي الذي يرى بوقوع لفظ الطلاق بالثلاث، ويوجب التفريق عندها بين المرء وزوجه. ابن تيمية، وجد مخرجاً لكثير من تلك الحالات الزوجية الإشكالية، عندما أفتى بأن طلاق الثلاث في طهر واحد، لا يعدو على أن يكون في حقيقته طلقة واحدة لا أكثر، وقد تحدث عن تلك المسألة في مجموع الفتاوى، فقال شارحاً وجهة نظره «…وكذلك إذا طلقها- أي الزوج- ثلاثًا بكلمة أو كلمات في طهر واحد فهو محرَّم عند جمهور العلماء، وتنازعوا فيما يقع بها، فقيل: يقع بها الثلاث، وقيل: لا يقع بها إلا طلقة واحدة، وهذا هو الأظهر الذي يدل عليه الكتاب والسنة…».

في السياق التسامحي نفسه، خالف ابن تيمية الرأي الفقهي الذي اتفق عليه الكثير من الفقهاء عبر القرون، عندما أجاز إخراج زكاة الفطر في صورة نقدية، بشرط أن يكون في ذلك مصلحة حقيقية للفقير، وفي ذلك قال «وأما إخراج القيمة في الزكاة والكفارة ونحو ذلك… فأن إخراج القيمة لغير حاجة ولا مصلحة راجحة ممنوع منه… وأما إخراج القيمة للحاجة، أو المصلحة، أو العدل فلا بأس به».

الوجه المتسامح لابن تيمية، ظهر أيضاً في بعض مقالاته التي تناول فيها الآخر المذهبي أو العقائدي، ذلك أننا نجد أن شيخ الإسلام الذي عُرف بهجومه الشديد الوطأة على أهل البدع والانحراف، قد أشاد كثيراً بمجموعة من كبار شيوخ الصوفية، أولئك الذين اشتهر أمرهم في القرون السابقة، فنراه يقول «…وأمّا أئمة الصوفية مثلُ الجنيد بنِ محمّدٍ وَأتباعِه ومثلُ الشَّيخِ عبد القادر وأمثالهِ فهؤلاء من أعظمِ النّاس لزوماً للأمرِ والنّهي وتوصيةً بإتباع ذلك….».

ورغم أن كثيراً من الحركات الجهادية والأصولية المعاصرة، قد بنت أحكامها التكفيرية على بعض الفتاوى المنسوبة لابن تيمية، فإن القراءة المدققة لكتابات شيخ الإسلام، ستكشف لنا أنه قد تحوط كثيراً في مسألة تكفير المعين- أي تكفير شخص واحد على وجه التحديد- ويمكن أن نتأكد من ذلك بالرجوع لكتابه «بُغية المرتاد في الرَّد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية»، والذي انتقد فيه المقالات المنحرفة التي تقول بها تلك الفرق، ثم قال بعدها «…فهذه المقالات هي كُف؛ لكن ثبوت التكفير في حقِّ الشخص المعيَّن، موقوفٌ على قيام الحجة التي يَكْفُر تاركها، وإن أطلق القول بتكفير مَن يقول ذلك، فهو مثل إطلاق القول بنُصُوص الوعيد، مع أنَّ ثُبُوت حكم الوعيد في حقِّ الشخص المعيَّن، موقوفٌ على ثبوت شروطه، وانتفاء موانعه؛ ولهذا أطلق الأئمة القول بالتَّكفير، مع أنهم لم يحكموا في عين كلِّ قائلٍ بِحُكم الكفار».