عندما سأله أحدُهم: أيّ كتبك يجدر بي مطالعتُها أولاً؟ أجابه: «بوسعك أن تختار أي كتابٍ تشاء؛ إن كتبي تعالج المسائل ذاتها، وتتبنّى المواقف نفسَها». هكذا كانت إجابة إميل ميهاي سيوران، أشهر فلاسفة رومانيا على الإطلاق، وأشهر العدميين والمتشائمين في العصر الحديث. وهي الإجابة التي أكّدتها خليلته سيمون بويه بقولها:

«إن جميع كتاباته ما هي إلا تنويعات على مسألة واحدة، ولا بد أن تلك المسألة هي التي تبدت أمامه في العشرين من عمره، حسبما كرّر مرارًا»؛ الأمر الذي يفسّر تلك الفكرة السائدة عن سيوران بين قارئيه: وحدة أفكاره، وعدم تبدلها طوال مسيرته، فكل صياغةٍ منه لا تعدو أن تكون نقطةً على نفسِ خطّ العَناء.


التقلّب في العناء

ولد إميل سيوران في الثامن من إبريل عام 1911، في قرية رازيناري، بمقاطعة ترانسلفانيا الرومانية، كان والده قسيسًا أرثوذكسيًا نشطًا ومؤثرًا. قضى طفولته بين الطبيعة متجولًا وسط الرعاة الرومانيين، وحيدًا أغلب الأوقات، قبل أن يرحل في 1921، إلى أحد معاهد مدينة سيبيو المجاوره الثانوية، حيث انتقل والده، وهناك أظهر اهتمامًا ملحوظًا بالعلوم الإنسانية.

تأثّر سيوران في بدايات شبابه بفلسفات وجودية وفاشية، وقادته إصابته المستمرة بالأرق للتفكير في الانتحار وصياغة فلسفته التشاؤمية.

ثم سافر في السابعة عشرة من عمره إلى بوخارست لدراسة الفلسفة في جامعتها، والتقى هناك بصديقي عمره: يوجين يونسكو وميرتشيا إلياده، وتبنى أفكار معلمهم الفيلسوف الروماني ناي يونسكو، التي كانت مزيجًا من الوجودية والفلسفات الفاشية. في تلك الفترة بدأت معاناة إميل سيوران مع مرض الأرق الذي سيلازمه طيلة حياته. كان الأرق مزعجًا إلى درجة دفعته إلى التفكير في الانتحار، لكنه عدل عن ذلك وشغل وقته بالقراءة والمذاكرة.

أجاد سيوران الألمانية؛ مما يسر له استيعاب فلسفات إيمانويل كانت، وشوبنهور، وهيدجر، إضافة إلى نيتشه الذي سيكون له أثر كبير على سيوران. ثم قدم سيوران أطروحته حول هنري برجسون التي نال عنها شهادة البكالوريوس، إلا أنه سيتبرأ منها فيما بعد، عندما يتبدى له أن برجسون «لم يستوعب مأساة الحياة».

انتقل إميل سيوران في عام 1933 إلى ألمانيا حيث حصل على منحة دراسية من جامعة برلين، وشهدت تلك الفترة نشر أول كتبه «على ذرى اليأس» عام 1934، و«كتاب الخدع» 1935 في رومانيا. ثم عاد إلى موطنه عام 1936، ليعمل بالتدريس لمدة عام في معهد براسوف، وينشر «تحولات رومانيا» الذي جاء متعاطفًا مع السياسات الشمولية للحرس الحديدي الروماني اليميني المتطرف -وهو ما سيعلن ندمه عليه لاحقًا- قبل أن يحصل على منحة من معهد بوخاريست الفرنسي في نهاية 1937 ويرحل فورًا.

وفي عام 1946، قرر سيوران قطع علاقته مع الماضي بالتخلّي عن اللغة الرومانية، والكتابة بالفرنسية، معتزمًا البقاء في فرنسا. وسيتم كتابه الفرنسي الأول «موجز التفكيك» عام 1947، إلا أنه لن ينشر قبل مرور عامين عن عن دار جاليمار التي ستتولى نشر سائر أعماله، لينال الكتاب بعد عام الجائزة المخصصة للكتّاب الأجانب وستكون هذه هي جائزته الوحيدة، حيث سيقرر بعدها رفض تسلم أي جائزة أخرى كجزء من العزوف عن الوسط الثقافي والابتعاد عن الأضواء الذي سيفرضه على نفسه.

ورغم تلك الجائزة، لن يبزغ نجم شهرته قبل أعوام كثيرة، وفي تلك الفترة ستتوالى مؤلفاته مثل «مقايسات المرارة»، و«التاريخ واليوتوبيا»، و«مثالب الولادة»، بينما يعيش ما تبقى من حياته مع رفيقة عمره أستاذة الأدب الإنجليزي سيمون بويه في الحي اللاتيني بباريس، في حالة مادية سيئة، قبل أن يتوفي عام 1995 بعد إصابته بمرض الألزهايمر.


من النيتشويّة إلى الباريسية

المتأمل في سيرة سيوران لا يملك إلا التعجب من التباين الواضح بين الجانب الأكثر شهرة من فلسفته، وبين نهجه في مرحلة الشباب؛ فكيف لفيلسوف العدمية أن يتحمس بشدة لسياسات الحزب النازي؟ لدرجة أن ينشر مقالًا في إحدى الصحف أثناء إقامته في برلين يعلن فيه أن أدولف هتلر السياسي المعاصر الوحيد الذي يستحق الإجلال!

أيد الإعدامات السياسية التي عرفت باسم «عملية الطائر الطنان». كان تحمس سيوران تحمس الشاب الطامح إلى المجد؛ ذلك المجد الذي كان يتمناه لوطنه رومانيا، فكتب في «تجليات رومانيا» المنشور عام 1937 -وهي الفترة التي شهدت تقاربًا في الآراء بينه وبين الفاشية الرومانية- ينتقد وطنه ويستنهضه كي يحتل مكانه بين الأمم العظمى مثل فرنسا وألمانيا.

ينقسم إنتاج سيوران الفلسفي إلى مرحلتين: «النيتشوية» التي تأثّر فيها بنيتشه، و«الباريسية» التي تأثرت بالكتابات الهيومانية والتشكيكية الأوروبية.

هذا وغيره الكثير يجعل بالإمكان تسمية تلك المرحلة بـ «المرحلة النيتشوية» أيضًا. والأمر يتعدى كتابة «الشذرات» التي تبناها سيوران في معظم أعماله، والتي اشتهر بها نيتشه من قبل، فلقد توافقت طبيعة نصوص نيتشه مع حماسة الشاب وميله إلى تقويض اليقين والحاجة إلى الشعور بالتفرد الذي تبدى في رفض الأطروحات الميتافيزيقية التقليدية.

أسفر ذلك عن رؤية وجودية تثمن القوة والحيوية والشجاعة والمجد، بطولة تراجيدية خالصة، لا يمكن فصلها عن تأييده للسياسات الفاشية.

أما المرحلة الباريسية فقد أتت محملة بمراجع وقراءات وتحيزات مختلفة تمامًا، وستشهد خفوت التأثير الألماني، والتغول التدريجي للكتابات الهيومانية والتشكيكية الأوروبية، إلى جانب عدد من النصوص الغنوصية والفلسفات البوذية، ليصبح الكتاب الفرنسيين خصوصًا مرجعًا شبه دائم لكتابات سيوران، حيث ستظهر صورة مختلفة، صورة الإنسان المحكوم بالموت، وفاقد الحيلة أمام قوى كونية هائلة.

أما عن أثر نيتشه، فهو -وإن كان ما يزال ملاحظًا في كتابه الفرنسي الأول «موجز التفكيك»- سيأخذ في الخفوت تدريجيًا مفسحًا المجال أمام سيوران الفيلسوف المكتمل، رسول التشاؤم والشك الأكبر، وهو الشك الذي سيراه باتريس بولون هربًا وتبرؤًا مستمرًا من الماضي الملوث بالانحياز إلى الفاشية، وسيلمّح رولان جكار إلى كونه نوعًا من الندم الصادق وتأنيب الضمير.


شذرات «سيوران» أشلاءٌ فلسفية

تخلو فلسفة سيوران في أغلبها من التنظير بشكله المعتاد، فهو يصرخ ويعوي ويوجه طلقاته فرادى، على شكل شذرات، تلك الهيئة الأدبية التي تجعل من المستحيل على القارئ الإمساك بنظرية محددة، بل هي شذرات متناقضة أحيانًا، تقول الشيء مرة، ثم تقول عكسه، وربما تأتي شذرة ثالثة فتحل الإشكال المتوهم، أو لا تأتي.

ومن المهم هنا ألا ننسى مقولة سيوران: «يفنى كل ما هو قابل للتصنيف، ولا يبقى إلا ما كان حمال أوجه»، إضافة إلى مناسبة هذا الشكل الأدبي لفلسفة سيوران الكاره لكل نسق فلسفي مكتمل، وهو ما عبر عنه في أحد اللقاءات قائلًا: «إن عملًا طويل النفس، يخضع لمتطلبات البناء ومزيفًا بهاجس التتابع، لهو عمل مفرط في التماسك إلى حد لا يمكن أن يكون معه حقيقيًا»، كذلك قال مدافعًا عن انتهاج نيتشه هذا الأسلوب: «لا شيء أكثر إغضابًا من تلك المؤلفات التي تنسق فيها الأفكار المبعثرة لعقل حي لم يكن هدفه إنشاء منظومة على الإطلاق».

انطلقت شذرات سيوران من واقع كراهيته لكلّ نسقٍ فلسفيٍ مكتمل، وتناولت مأساة الإنسان في أشكالها المختلفة.

لكن هذه الشذرات تدور حول عدد من المسائل الأساسية، أهمها وأشدها خصوصية هي مشكلة الولادة والسقوط في الزمن، وهي مأساة الإنسان الأساسية عند “سيوران”، لا الموت كما عند الوجوديين.

فسقوط الإنسان في التاريخ جعل العودة إلى الطمأنينة الأولى أمرًا مستحيلًا، فنحن نحيا -حسب سيوران- والشر خلفنا لا أمامنا، وهذا السقوط يؤدي بالضرورة إلى رعب الصيرورة، والجحيم عنده هو المكان الذي يحكمنا فيه الزمن إلى الأبد.

فسيوران يحن إلى «زمن ما قبل الزمن»، حيث الأمل في تفادي كارثة الولادة ما يزال متاحًا. فهو القائل: «أتقبل الحياة، وأتقبل الموت، لكني لا أتقبل الولادة». ومشكلة الولادة هذه هي التي دفعت سيوران ليصبح أحد أعتى مناهضي الإنجاب، حتى أنه لم ينجب قط، وقال مرة: «آه لو يدرك هؤلاء الأطفال الذين لم أنجبهم مقدار السعادة التي يدينون بها لي!».

وفي المجمل، تظل شذرات سيوران القصيرة السهلة، أصدق تعبير عن أفكاره:

– لا يدرك معظم الناس الاحتضار البطيء الذي هم فيه، ولا يعرفون إلا احتضارًا واحدًا، ذلك الذي يسبق الولوج في العدم.

– إذا كان للأمراض مهمة فلسفية في هذا العالم فستكون البرهنة على أن هذا الشعور بأبدية الحياة مجرد وهم.

– أخذك الشؤون البشرية على محمل الجد يخفي وراءه مقدارًا هائلًا من النقائص.

– داخل كل إنسان هناك نبي، حين يستيقظ يزداد الشر في العالم.

– انعدام العدالة هو جوهر الحياة الاجتماعية.

– أن تكون مفهومًا لهو إذلال يفوق كونك غير مفهوم.

– أحلم بلغة كلماتها مثل اللكمات، تهشم الفكوك.

– الحياة ليست ممكنة إلا بسبب قصور المخيلة والذاكرة.


عدمية الحياة ولا جدوى الموت

يحتقر سيوران الحياة كشأن كل متشائم عدمي، بل يصل إلى حد بغض كل من يكثر من ذكر الكلمة، ويرى في المرض والعذاب نوعًا من السلوان الذي يتحسر أنه لم ينل منه الكفاية، وهو القائل: «لو كنت مصابًا بمرض عضال لشكل ذلك لي خلاصًا».

فينظر إلى كافكا ويغبطه على نعمته، أليس العمق – كما قال- ملكًا حصريًا للمعذبين؟، كيف للإنسانية أن تسمو في حالة من الصحة والنشاط؟، حتى أنه شرح رؤيته للتطور قائلا: «إن انفصال الإنسان عن المملكة الحيوانية يرجع -بلا شك- إلى كونه أكثر عرضة للأمراض».

احتقر سيوران الحياة والمعرفة، وامتدح المرض والجهل؛ ومع ذلك كان يشجّع على عدم الانتحار، ويرى أن الموتَ ليس حلاً!

لكن لعل هذا الإجلالَ للمرض أمرٌ اضطراريٌ، كونه ولد إنسانًا بالفعل -وهو ما يجذر من أصالة المعاناة في الحالة الإنسانية- أما على مستوى الخيال فلا يخفي سيوران احتقاره للوعي والمعرفة، فالخطيئة الأولى لم تكن خيانة «آدم» للعهد، بل خيانته نعمة الجهل وسقوطه الكابوسي في المعرفة.

يتمنى سيوران لو كان حيوانًا، بل حشرة، وحبذا لو كان نباتًا!. إنه يتمنى الهرب من ذلك الوعي إلى الجنة، حيث لا نعي شيئا، وهكذا فنحن نحيا في عالم لا يستحق أن نعرفه.

إذن، فهل يحبذ سيوران الانتحار؟. الانتحار هو الفكرة التي ستطرأ على ذهن الإنسان متى طالع عناوين كتبه فقط. لا، فتلك الفكرة لم تكن حلًا بالنسبة إلى سيوران، بل ربما كانت خلاصًا من فعل الانتحار في ذاتها. حتى سيوران نفسه كان يخشى في بداية رحلته الأدبية أن تدفع كلماته الناس إلى إنهاء حياتهم، لكن المفاجأة كانت أنها ساعدت أشخاصًا من مختلف الجنسيات على العدول عن هذه الفكرة.

لعل أحد الأسباب هو تلك السلبية التي تترفع حتى عن فعل الانتحار، فقد صرح: «لست إنسانًا نشطًا، ولو كنت لأقدمت على الانتحار، أنا شخص سلبي»، بل يزيد على ذلك باعترافه بفضل تلك الفكرة في استمراره في الحياة: «كنت سأقتل نفسي لا محالة لو لم تكن فكرة الانتحار موجودة!». إضافة إلى اعتباره الانتحار فعلًا يقوم به المتفائلون الذين فقدوا كل أمل وسبيل إلى الاستمرار في التفاؤل، أما أمثاله من المتشككين المتشائمين، فإذا كانوا بالأساس لا يملكون دافعًا للحياة، أي دافع عساه يدعوهم إلى الموت؟

حتى الموت عند سيوران لا يمثّل حلًا؛ فالمشكلة ليست في الحياة، بل في الوجود ذاته الذي فرض في لحظة الولادة، ولا سبيل إلى التخلص من ذلك. إلا أن سيوران ينصحنا: «أن نتدرب على ألا نكون شيئًا»، وهذا يظهر مدى تأثير الفلسفة البوذية على سيوران، الذي يرفض أي حياة تحوي أملًا، ويدعو -كفيلسوف شرقي- إلى عيش لا يهدف إلى شيء.

المراجع
  1. المعنى والغضب: مدخل إلى فلسفة سوريان؛ حميد زنار؛ الدار العربية للعلوم والنشر
  2. Romanian Philosophical Culture, Globalization and Education: Romanian Philosophical Studies, IV; Alin Tat, Stefan Popenici
  3. لو كان آدم سعيدا؛ إميل سيوران؛ ترجمة: محمد علي اليوسفي؛ أزمنة للنشر والتوزيع
  4. تاريخ ويوتوبيا؛ إميل سيوران؛ ترجمة: آدم فتحي؛ منشورات الجمل