الشيخ الغزالي رحمه الله كان واحدًا من أولئك العظماء، فتتلمذ رحمه الله على علماء زمانه الكبار؛ أمثال المرحوم العلامة عبد العظيم الزرقاني صاحب «مناهل العرفان في علوم القرآن»، والشيخ عبد الجليل عيسى، ومحمد المدني، ومحمود شلتوت، ومحمد يوسف موسى، والشيخ محمد أبو زهرة، والشيخ محمد عبد الله دراز، وكان الأزهر وقتئذ مليئًا بالفقهاء الكبار، والعلماء النحارير.


في ذكرى رحيله

ولد الشيخ الغزالي في قرية نكلا العنب مركز إيتاي البارود بالبحيرة سنة 1917م، وسماه والده بالغزالي تيمنًا وتبركًا بحجة الإسلام أبي حامد الغزالي رحمه الله، وأتمّ حفظ القرآن في الكُتّاب لما بلغ العاشرة من عمره، ثم دخل معهد الاسكندرية الابتدائي فالثانوي ثم انتقل إلى كلية أصول الدين بالقاهرة سنة 1937م، وحصل على العالمية سنة 1943م.

ولم يكد ينتهي من دراسته حتى عُرف اسمه وذاع صيته بعد أن كتب في مجلة الإخوان المسلمين وقتئذ وأثنى عليه الأستاذ حسن البنا، وسمّاه أديب الدعوة. وفي نفس الوقت كان للغزالي مجهود لا يُنكر في تأليفه لأول كتاب في الاقتصاد الإسلامي في ذلك الوقت، ثمّ ذاع صيته وصارت له مكانة أدبية وعلمية مرموقة وسط الكيان الأدبي في ذلك الوقت، فأثنى عليه عباس العقاد وزكاه عند الرئيس أنور السادات.

قال الغزالي صراحة في أحد كتبه أنه أول من كتب عن الاقتصاد في الإسلام، وأن صديقه سيد قطب أخذها عنه، وطورها

الجوانب الفكرية كثيرة ومتشعبة عند الشيخ الغزالي رحمه الله، لكن إذا أردنا أن نختزل مشروع الشيخ الفكري فيمكن أن نختزله في الفقه الدستوري.

فالشيخ الغزاليّ رحمه الله كان واحدًا من القلائل الذين كتبوا عن الفقه السياسي والدستوري في الإسلام؛ ذلك لأنه انتمى إلى مدرسة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، فسخّر الشيخ كل علومه الفقهية والأصولية، والقرآنية لمحاربة الاستبداد الفكري والسياسي، ثمّ وضع معالم الدولة الإسلامية التي يراها.

وقبل أن يضع معالم الدولة الإسلامية عرف الغزاليّ أن دولته المنشودة لن تقوم بالخطب الرنانة والكلام الإنشائيّ، فالطائرة لا تطير إلا بالأجنحة، فقام الرجل بصياغة النظرية الإسلامية في الاقتصاد، وسمّاها «الاقتصاد المسئول» الذي يقف بين الاشتراكية والرأسمالية، وللأسف الشديد فإنّ أحدًا من الباحثين لم يدرس الغزالي الاقتصادي حتى الآن.

ربما لأنّ التيارات الإسلامية في مصر لا تعترف في نفس الأمر بالاقتصاد الإسلامي وتسير بخطى حثيثة على النموذج الرأسمالي في معاملاتها ومشاريعها وانصهارها في الكيانات الاقتصادية العالمية، وربما لأن شبكة علاقات الإسلاميين الاقتصادية والمالية تعقّدت وصار من الصعب انفكاكها عن الرأسمال العالمي؛ وربما لأنّ بعضهم صار جزءًا لا يتجزأ من المشكلة، فصار لا يعي مشروعًا اقتصاديًا إسلاميًا حقيقيًا.

وهو الهاجس نفسه الذي كان عند سيد قطب -قبل انضمامه للإخوان- الذي انتقد جماعة الإخوان بسببه عندما وصف شعاراتهم بأنها فضفاضة ولا تحمل حلولاً حقيقية وتفصيلية.

فكتب الغزالي عن الإٍسلام والأوضاع الاقتصادية، كي يمهد للدولة المنشودة التي ينشدها؛ لأن الدولة إذا رفعت شعارات الإسلام ولم تترقَ في مسالك العمران والبنيان فليست إسلامية وليست شرعية وإن ادّعت ذلك، كما يرى الشيخ.

ثمّ رسّخ الغزاليّ للدولة الإسلامية فنظّر لها من داخل الوعاء الفقهي، ومن خارج الوعاء الفقهي. فتكلم عن وجوب ممارسة الدولة للعدالة، وعدم تمييزها بين المواطنين، في العطاءات والمنح والمناصب، مما يعني رفع الظلم بكافة أشكاله، وهذا لا شكّ داخل في الوعاء الفقهي.

ثمّ نظّر الشيخ لولاية الأمّة على نفسها وجعل الشورى مُلزمة، واستهجن أولئك النفر الذين يزعمون أنّ الشورى غير ملزمة للحاكم، ورأى أنّ هؤلاء يخدمون أعداء الإسلام بتصوراتهم عن الدين والدنيا، وأنهم يشرعنون الظلم باسم الدين.

فهذه من الهواجس التي سيطرت على الشيخ الغزالي وهي تقليم أظافر السلطة الحاكمة عبر القواعد الحاكمة والمؤسسات الرقابية المنتخبة من الشعب، لا المعينة من نفس الحاكم الذي يحكم.

وهاجم الشيخُ الذين يهاجمون الديموقراطية ويسخرون منها، ورأى أنّ الدولة المستبدة هي المستفيد الأول من مهاجمة الديموقراطية والتداول السلمي للسلطة.

ورأى أنّ الشعب هو الذي يحدّد نظام حكمه، وطبيعته، وماهية من يحكمه، وأنّ الشعب إذا خُيّر تخييرًا حقيقيًا مستقلاً بين حكم الله وحكم البشر سوف يُقدّم حكم الله؛ أيّ أن الشيخ فهم طبيعة الحاكمية، وفرق بين الدين والمعرفة الدينية، لأنّ القانون سيطبق بأيادي البشر، والنص الديني سيُفهم من البشر، فلابد من وضع قيود على هؤلاء البشر، لاستصحاب العوارض البشرية التي لا تنفكّ عن أي إنسانٍ كان.

الاستبداد كله مرفوض عند الشيخ الغزالي سواء أكان استبدادا تحت عباءة الدين، أو عباءة الدنيا، فيجب أن تعطى الجماهير حرية الاختيار وعدم الوصاية عليها

وهاجم الشيخ جماعات التطرف التي تختبئ تحت مسميات الجهاد وما أشبه، ورأى أنهم قاصرون عن فهم الدين، ويعرّضون الدين للتشويه المستمر بالفهم المغلوط، والثقافة الزائفة الهشّة التي لا تستند على علم أو فقه.

فالاستبداد كله مرفوض عند الشيخ سواء أكان استبدادًا تحت عباءة الدين، أو عباءة الدنيا، ورأى أنّ الجماهير يجب أن تُعطى حرية الاختيار وعدم فرض الوصاية عليها، لأنّ البديل هو استبدال مستبد بمستبد.

والصناديق عند الشيخ تحمي الدين نفسه من تغول المتحدثين باسمه، لأن الناس إذا رفضت انتخاب الإسلاميين فمعنى ذلك أنهم فشلوا في الملفات الاقتصادية والسياسية والدعوية.

فيجب أن ينزلوا مرة أخرى إلى الجماهير ليقنعوهم بدعوتهم ورؤيتهم، أمّا فرض رؤية معينة على الناس ولو كانت دينية، فهذا سيسمح لكلّ مستبد أن يلغي الصناديق باسم الدين والدعوة.

وهنا نجد مركزية الجماهير عند الشيخ الغزالي رحمه الله.

لأنّ الدين نزل للناس، ولإقناع الناس، فالأمة هي المقدس، ولها أن تنيب عنها من يطبق الدين والقانون.

تلك الرؤية التي رسخ لها الغزالي ومركزية الجماهير في الحكم، هي نفس رؤية جمال الدين الأفغاني، ورشيد رضا، والميرزا النائيني مُنظّر الثورة الدستورية في إيران –الذي تأثر بالكواكبي والأفغاني-، وهي المدرسة التي يُطلق عليها مدرسة الفقه الدستوري، التي تحترم الأمّة وخياراتها، وترفض كلّ استبداد ولو باسم الدين.

يُمكن أن نحدد شرعية الدولة عند الشيخ الغزالي بثلاثة أمور: 1. انتخابها من الشعب. 2. إمكانية انتقادها. 3. إمكانية عزلها.

إذا توفرت تلك الشروط يمكن أن نطلق على الدولة بأنها شرعية، لأن هذه المدخلات ستحتم على النظام القائم أن يمارس العدالة، والسلوك الأخلاقي داخل منظومة حكمه، وسيكون مرآة حقيقية لنبض المجتمع وخلفيته الثقافية والحضارية، وميراثه الأيدلوجي.

ورؤية الشيخ تلك هي التي قادته إلى خلاف مع جماعة الإخوان عندما طلب الشيخُ الغزالي منهم رفض إلغاء دستور 1923م حيث كان يرى فيه دستورًا يحترم الحريات والحقوق والتعايش السلمي، ورأى أن بعض التعديلات اليسيرة عليه من الممكن أن تحوّله إلى دستور متفق تمامًا مع الدين، وقال لهم بأنّ الإبقاء على دستور يحترم الحريات وقد مارستم الدعوة والسياسة في ظلّه أفضل من دولة بلا دستور.

لكن الإخوان رفضوا ذلك، وقرروا مع عبد الناصر إلغاء الدستور بالكلية؛ طمعًا في أن يكتبوا هم الدستور الجديد. وكان إلغاء الدستور سببًا في تعطيل الحياة الحزبية والسياسية في مصر، وتغول يد السلطات. وهاجس الرجل بمركزية الجماهير في الحكم وصناعة القرار هي التي أدت إلى فصله أيضًا من جماعة الإخوان، لكثرة اعتراضاته على القرارت الممررة بدون شورى أو استفتاء للهيئة التأسيسية.

إن المحددات التي قعّدها الشيخ الغزالي من معالم الدولة، وتلك الجهود الضخمة التي بذلها في بلورة نظرية الاقتصاد الإسلامي «نظرية الاقتصاد المسئول»، وجدت تطويرًا على يد الأستاذ سيد قطب رحمه الله، وقال الغزالي صراحة في أحد كتبه إنه أول من كتب عن الاقتصاد في الإسلام، وأن صديقه سيد قطب أخذها عنه، وطورها، ثمّ انتقلت إلى محمد باقر الصدر في النجف فصنف «اقتصادنا»، و«فلسفتنا»، و«مجتمعنا».

وهذا كان تأثرًا مباشرًا بمدرسة الشيخ الغزالي في مصر، وإن لم يُصرّح بذلك. كذلك فإنّ نظرية الشيخ في الفقه الدستوري وجدناها حديثا عند عبد الكريم سروش ومحسن كديور في إيران.

هنا ملحظ مهم أيضًا وهو التفاتة الشيخ الغزالي لنظرية الحتمية التاريخية؛بمعنى أنّ التاريخ يجب أن يؤخذ منه أدلة قطعية، فالأمم التي لا تتعلم من تاريخها لن تبني مستقبلها عند الشيخ، ومن ثمّ فوجب قراءة التاريخ قراءة متأنية وفاحصة لأنه الوسيلة الوحيدة التي تؤدي إلى بناء دولة العدل التي ينشدها، بتجنب عثرات السابقين، والتقاط مواطن نجاحهم.


الغزالي: الفذّ بين أقرانه

كان الغزاليّ رحمه الله فقيهًا موهوبًا كما وصفه الشيخ العلامة عبد الفتاح أبو غدة في كتابه «قيمة الزمن عند العلماء»، وهو الفقيه العلامة كما وصفه تلميذه الشيخ حسن الشافعي في مذكراته، وهو أستاذ الأساتيذ بلا منازع.

فكلّ من يتصدّر على الساحة اليوم باختلاف مشاربهم وألوانهم من تلامذة الرجل، بدءًا بالمفتي السابق علي جمعة الذي وصف الغزالي بالفقيه المحدّث، وشبهه بالدراقطني في فقهه بالحديث، ومرورًا بشيخ الأزهر أحمد الطيب، علاوة على علماء كبار في الأزهر كالشيخ سعد جاويش والدفتار ويحي إسماعيل، وشيخنا العلامة الأصولي المعمّر الدكتور محمد السيد الدسوقي (86 عامًا) أستاذ أصول الفقه في دار العلوم.

وشيخنا العلامة المحدّث الدكتور رفعت فوزي، وغيرهم كُثر. بل إنّ الألباني وصفه بالفقيه محمد الغزالي. وحكى لي شيخنا النسابة محمد رشيد أنّ الشيخ أبو غدة كان يُجلّ الشيخ الغزالي، وكان يرسل له كتبه ومؤلفاته، حتى إنه أرسل معه كتبًا للشيخ الغزالي سنة 1986م.

وكان شيخ الأزهر عبد الحليم محمود يقول: ليس عندنا إلا غزاليان، غزالي الإحياء، وغزالي الأحياء؛ لذا وقفت المؤسسة الدينية الرسمية خلف الرجل، وارتأت أن مشروعه في فقه الدولة أقرب المشاريع لعقل المؤسسة ومناهجها الفقهية والأصولية، أولاً لأن الغزالي ابن المؤسسة، وثانيًا لأنّه قفز قفزات على أقرانه في المؤسسة الذين كانوا لا يعتنون بجوانب الفقه السياسي في ذلك الوقت.

ومن هنا تتأتى أصالة وقوة مشروع الغزالي في فقه الدولة. أمّا الهواة الذين لم يتأسسوا جيدًا في علوم الفقه والشريعة والمقاصد والفلسفة والتاريخ، فمن الصعب أن يدركوا حقيقة السلوك السياسي فضلا عن مأسسة نظريات محكمة في الفقه الدستوري والسياسي، وإدراك مواقع النفوذ وأدوات وخرائط الصراع.

ولذا نجد فرقًا كبيرًا بين ما كتبه الغزالي مثلاً، وما كتبه غيره من الحركيين في الجماعات الإسلامية.


الغزالي والشيوعية

ولكي تترسخ صورة الدولة الإسلامية التي ينشدها الشيخ كان لابد من تفنيد الأيدلوجيات المغايرة وقتئذ خاصة الشيوعية. وكما قلنا: كان الشيخ -رحمه الله- أول من صاغ نظرية إسلامية في الاقتصاد، وحارب الإقطاع، فقد كتب الشيخ الغزالي رحمه الله كتابه: «الإسلام والأوضاع الاقتصادية» سنة 1947م وهو أول كتاب ألفه الشيخ الغزالي رحمه الله.

وظل الشيخ يهاجم الشيوعية في كتبه ومقالاته، وينتقدها بعلم ومنهجية، حتى قام الكاريكاتوري الساخر صلاح جاهين برسم صورة للشيخ في جريدة الأهرام، لسان الحكومة، صورة ساخرة، مستهزئًا بالشيخ وبعمامته الأزهرية.

فإذا بالجماهير فجأة تخرج مظاهرات تعلن فيها رفضها للشيوعية والإلحاد، وتطالبُ بالإسلام، وتحرّكت الجماهير بعد صلاة الجمعة –أول يونيو 1963م- صوب صحيفة الأهرام، وقامت الجماهير بتحطيم زجاج واجهة مبنى الجريدة، واضطرت الدولة لإرغام صلاح جاهين لتقديم اعتذار لامتصاص غضب الناس.

وإذا أردنا أن نعرف ما هذه الأحداث فيجب أن ننظر إلى السياقات والأبعاد، فإن خروج الجماهير في عهد عبد الناصر لم يكن بالأمر السهل اللين!، بل وألّف الشيخُ كتابًا كاملاً بعنوان: «الإسلام في وجه الزحفِ الأحمر» وطبعه سنة 1966م في أوج الحقبة الناصرية. ولنترك قلم الشيخ يعبر عن مكنونه، كي تتضح معالمه وتتبلور فكرته: يقول رحمه الله:

ثم أفرد الشيخ عددًا من الصفحات عن الويلات التي تعرّض لها المسلمون في ظلّ روسيا القيصرية وروسيا السوفيتية، وكيف كانت سيبيريا إسلامية خالصة حتى نهاية القرن السابع عشر الميلادي ثم صارت روسية خالصة بعد استشهاد آخر ملوكها، وبعد حربٍ دامت أكثر من خمسمئة سنة!.


موقفه من الحضارة الغربية

قد أفهم أن الوحي الإلهي مصدر يقين جازم عند الأنبياء وأتباعهم، ولكن الأمور المقطوع بها في الدين محدودة معدودة، وهي أمور ينتهي عندها الجدل؛ لأن الله قال كلمته الواضحة، أما أن بشرًا ما أو جملة أناس على رأيه، يعتنقون رأيًا في الإصلاح على زعمهم، ثمّ يحولون هذا الرأي الإنساني العادي إلى عقيدة فوق النقاش والاعتراض، فهذا ما لا يمكن قبوله أبدًا، خصوصًا إذا كان هذا الرأي يمسّ حاضر الناس وغدهم ويشتبك مع معايشهم وضمائرهم ظاهرًا وباطنًا. إنّ الشيوعية في أزهى صورها نظام يُيسر العمل والعدل لجماهير العمال والفلاحين، فإذا جرّب العمال هذا النظام فاكتووا به وقرروا الخلاص منه، فبأيّ حقّ يُفرض عليهم؟!، لماذا أقسر قسرًا على اتباع كارل ماركس وهو في نظري حائر ضل الطريق؟!، وما هذه الرغبة المجنونة لقلة من المفكرين أن تفرض فكرها على العالم أجمع؟ لا تُعقل. ولكن هكذا تريد الشيوعية أن تسير! إنّها تسير على أنقاض حريات مهدرة وحقوق مستباحة، وأنين مكتوم للضمائر المقتولة، والكرامات الضائعة!

قبِل الشيخ الغزالي آليات الحضارة الغربية، والنماذج الحداثية في مناهج الحكم وإدارة الدول، والقفزة التعليمية التي حقّقتها الحضارة الغربية، لكنه أخذ بعض المآخذ عليها داخلة أيضًا في صميم هاجس الرجل في الفقه الدستوري ومركزية الأمة. يقول الشيخ:

إذا قلنا: سيادة الشعب!، فلا يعني هذا شعوب مدغشقر أو أفريقيا الاستوائية، أو مسلمي مراكش!، إن حقوق الإنسان والمواطن لا تطبق ولا تراعى إلا لصالح الشعب الفرنسي بالقارة الأوربية!. فالوطني في مدغشقر أو الهند الصينية مهما بلغت مكانته الاجتماعية وثقافته وعلمه لا يعتبر مساويًا للفرنسي الأوروبي. هذه هي القاعدة التي نُعامَل بها، يسرّونها حينًا ويعلنونها حينًا، ودول الاستعمار مَثْنى وفرادى لا تتبع غيرها في سياستها معنا. إذا انتظر الظِّماء الريَّ من السراب انتظر المعذَّبون الراحة منها، وفي السراب بريق لا يزال يخدع ويخلق الأمانيَّ الكذاب، أما المجامع التي انتظمت هذه الدول فقد بدا وجهها الكالح، وانكشفت خبيئتها السيئة، وظهر أن الأمم الصغيرة والضعيفة أضْيَع فيها من الأيتام في مأدبة اللئام، بل إنها هي الطعام الذي يوضع على هذه المائدة الحرام. وإن ينسى أحد فلن ننسى أبداً أن هذه الدول الكبرى جمعت أذنابها بالرغبة والرهبة لتميت قضية الجزائر، وتدع عربها يتساقطون قبيلاً قبيلاً، بين أنياب الفرنسيين الوحوش، دون أن تسمع لهم شكاة. وإن ينسى أحد فلن ننسى أبدًا أن هذه الدول الكبرى قررت أن تبعثر عرب فلسطين لُقَىً في أرجاء الصحراء، وأن تستخرج اليهود استخراجًا من بلادٍ يعيشون فيها آمنين وافرين، لتقيم لهم بين أظهرنا دولة تقسم كياننا وتسوّد وجوهنا، وتذلّ ديننا ودنيانا. ثمّ إن الغربيين النازحين إلى أمريكا حملوا أحقادهم إليها، فإذا الدولة التي صُنعت في العصور الحديثة تسوس أمورنا معها، وكأن لها ثارات حفظتها القرون الطوال، وأكدتها آلاف السنين!. لمَ هذا الطمع فينا، والتهوين لشأننا يا معشر الأمريكان؟ لم هذا التحامل علينا والخذلان لقضايانا؟! إنّ مشروعاتكم لبلادنا لا تحمل أثارة من حقّ أو نبل، ولن نعوّل بعد اليوم إلا على أنفسنا في النجاة بأنفسنا. إننا لا نرجو من الولايات المتحدة إلا شيئًا واحدًا: أن تلزم الحياد الدقيق معنا، وأن تتركنا وشأننا، دون تأييد أو خصام، وذلك بعيد لأنها الأم الحنون لدولة إسرائيل!

ويقول في موضع آخر: «وهناك الصليبية التي اتخذت الديمقراطية شعارًا لها داخل بلادها!، أما خارج بلادها فهي تعلن على الإسلام حربًا شعواء!. في هذا الجوّ المربد لا يمكن قبول حكم باهت مذبذب يكره المصحف ويرتعش وهو ينظر إلى مواريث الإسلام ومقدساته».

وهذا ما قرره الشيخ الغزالي بفطرته السليمة، وفلسفته العميقة من رفض الغرب للديمقراطية وحقوق الإنسان في بلادنا، لاستفادته من وجود إمبراطوريات فساد واستبداد تتيح له تصدير السلاح والسلع، وفرض الشركات عابرة القارات على المنطقة، وتحكمها في اقتصاد الإقليم، هذا الذي قرره الشيخ ينطبق تمام الانطباق مع ما قرر الفلاسفة الكبار المهتمين بشأن البراجماتية الأمريكية خصوصًا والغربية عمومًا.

يقول الفيلسوف شوقي جلال في كتابه: «العقل الأمريكي يفكر»: «لهذا حريّ بنا ألا يجمح بنا الخيال، ونتصور أن مفكري التنوير قدموا فكرهم الداعي إلى الحرية بالأصالة عن الإنسان أو الإنسانية بعامة، وإنما بالأصالة عن الإنسان الأوربي، وكأن العقل الذي يشيرون إليه هو العقل الأوربي.

معنى هذا: أن فكرهم انطلق من نزعة ركيزتها المحورية الأوروبية؛ بل والعرقية الآرية؛ أي الانحياز إلى أوربا والإنسان الأوربي! وليس غريبًا أن يغدو هذا الفكر الداعي إلى الحرية ركيزة لأيدلوجية الهيمنة الأوروبية على شعوب العالم غير الغربي ماضيهم وحاضرهم، ورؤاهم المستقبلية. ولكنه مع هذا: كان أيضًا طرحًا جديدًا لمفهوم جديد عن الحرية الفردية ساحته الغرب، بحكم أسبقية الغرب إلى الحضارة الصناعية.

ومن ثمّ فإنه طرحٌ ينتظر حركة المجتمعات الأخرى؛ لترتقي بالمفهوم الجديد إلى مستوى أرقى شاملاً الإنسانية جميعًا باعتباره حقًا لها تنتزعه من قوى الهيمنة والتسلط محلية أو خارجية»، وهو نفس ما قرره غير فيلسوف غربي مثل روجيه جارودي، وتشومسكي وغيرهما.

الخلاصة: أنه يمكن القول: إن الشيخ الغزالي استولت عليه هواجس الدولة الدستورية، ومركزية الجماهير، وتخليص الأمة من الاستبداد، فراح يفند بعض مشكلات الأيدلوجيات القائمة كي يثبت في النهاية حتمية الإسلام كنظامٍ للحكم، لكنه في الوقت نفسه يدعو لمأسسة هذا النظام، بالمؤسسات الرقابية والدستورية المنتخبة من الشعب، منعًا لأي ديكتاتورية باسم الدين.

ربما كان الشيخ الغزالي رحمه الله من نوادر الفقهاء في عصره الذي أصّل للفقه السياسي والدستوري، حيث أدرك أن القواعد الفقهية والأصولية إن لم يُستخلص منها الحلول الحقيقية للمشكلات الحياتية والمجتمعية بقيت أسيرة الكتب قيد الحفظ لا فائدة منها سوى في جدالات طوباوية وسفسطائية لا مكان لها على أرض الواقع.