تختلف أساليب المعارضين في كل زمان ومكان، فمنهم من يخلط الأوراق بين معارضة الوطن والحكام، ومنهم من يفرق، في هذا المقال نتناول 3 نماذج مصرية عارضت الحكام دون أن تعارض الوطن أو تخونه، فكسبوا احترام الجميع.

يُقال إن معادن الأشخاص تبرز في الأزمات، ولا يعني ذلك فقط طرق تصرفهم حينما يقع الآخرون في الشدائد فحسب، لكنه يتضح أكثر وقتما يختارهم القدر ليختبرهم، حينها – وفقط – تستطيع أن تحكم على الشخص هل ينفذ ما كان يقوله أم لا؟ ويكون الاختبار أصعب إذا تعلق كربه بنظرة وطنه إليه.


الملك فاروق: اتركوا الحكم للتاريخ

لعل من أفضل ما قاله رئيس مصر الأسبق «محمد حسني مبارك» في حياته كلها جملة في أحد خطاباته التي أثرت في بعض ثوار 25 يناير، وكادت تنهي الثورة سريعًا لولا موقعة الجمل، وهي: «سيحكم التاريخ عليّ وعليكم بما لنا أو علينا».

لم يكن مبارك هو الأول في قرار ترك الحكم للتاريخ، فلو عدت بالزمان بضع عشرات من السنوات ستجد أنه كان في مصر رجل مطمئن لزمام الأمور، وإذ فجأة تطالبه مجموعة من ضباط الجيش بتخليه عن السلطة، فما ظنك بقراره حينها؟ الدخول في مفاوضات مكثفة والتشبث بمقعد الحكم ربما يكون أقل ردود الفعل قوة التي قد يفعلها أغلب الزعماء والقادة إذا تعرضوا لهذا الموقف، وربما يرى البعض أن الحل وقتها سيكون في المواجهة، حتى لو تطور الأمر لتنشب حرب أهلية، لكن فاروق ملك مصر والسودان آنذاك آثر أن يرحل بهدوء، وهو ذو ثقة كبيرة في أن التاريخ يومًا ما سينصفه.


أبو تريكة: بلادي وإن جارت عليّ عزيزة

أن تكون سببًا في إدخال الفرحة لقلوب الناس نعمة لا تُقدر بثمن، لكن ما سيجعلك تستمر في هذا الطريق هو شعورك بأن من تسعدهم يقدرونك، ويعطونك حقك بالمحبة والثناء، لكن أن تجد وطنك يقابل ما فعلته بوضعك في قائمة الإرهاب بسبب رأي سياسي ـ ثم رفعت إحدى المحاكم المصرية اسمه من هذه القائمة بعد ذلك، ويتسارع أشخاص في الهجوم عليك وتوجيه السُباب إليك بعدما كانت أقصى أحلامهم التقاط صورة معك أمر لا يتخيله أشد كارهي أبو تريكة.


حمزة نمرة واغتيال الحلم

يراه أغلب أبناء جيله صوتًا لهم وليس مجرد مطرب صوته عذب وأغانيه ناضجة، فهو لازمهم في كل خطواتهم من أول إيمانهم بالحلم عندما غنى «احلم معايا»، والتي ذاع صيتها أكثر في أعقاب ثورة 25 يناير، ثم محاولته إنقاذ ما تبقى من الأمل في ألبوم «اسمعني»، حتى الاستسلام الكامل في أغنيته الأخيرة «داري يا قلبي» عندما قال «بتودع حلم كل يوم»، حمزة لا يتخلى عن الشباب حتى في مصيره تعرض لمضايقات مثلهم أبرزها منع أغانيه من الإذاعة المصرية وشطب اسمه من نقابة المهن الموسيقية ـ لكن القرار الأخير تم التراجع فيه، وغيرها فآثر أن يكمل مشواره خارج مصر.


كيف تكون معارضًا نظيفًا؟

ما يميز النماذج الثلاث الذين ذكرتهم هو أنهم كانوا ذوي قدرة على المعارضة بطرق خبيثة لكنهم رفضوا، فاروق كان بوسعه أن يكون مصدر إزعاج لحكام مصر بشتى الطرق، ويحاول خلخلة أسس النظام في مصر، لكنه تيقن أن الخاسر الوحيد من هذه المعارك هو الوطن فلم يحب أن يقول التاريخ إن فاروق قاتل شعبه ليحكمهم، حتى لو كانت نتيجة رفضه هذا أن يتم «تسييس» التاريخ ليكتب أنه لا يفارق اثنين: الخمر والنساء.

الماچيكو ونمرة نفسهم لو أرادوا لأصبحوا ضيوفًا أساسيين في القنوات الخارجية يوجهون سهامهم ليس لمجرد أشخاص تزول لكن للوطن ككل الذي يبقى أمد الدهر، وأظن أنهم جاءتهم فرص كثيرة كمثل هذه لكنهم رفضوا، تريكة تجاهل كل ما يتعرض له من كروب ولم يعلق بكلمة قد يصفها البعض خيانة، حتى لو وصل الأمر إلى حرمانه من حضور عزاء أبيه والحجز على أمواله، أما حمزة فعندما قرر الظهور بالتلفزيون تمهيدًا لإطلاق ألبومه الجديد اختار إعلامي يشهد له خصومه بموضوعيته أولًا وأخيرًا حتى لو أنه يُحسب على المعارضين للنظام الحالي وهو يسري فودة، ربما لتأكده من أن فودة لن يصطاد في الماء العكر أو لأسباب أخرى في نفس نمرة.


هل المعارضة النظيفة چينات وراثية؟

قد تظن أن سلوك من ذكرتهم في تعاملهم مع نظرة أوطانهم لهم تنبع من خلال حب للوطن فحسب، لكنك لو تفحصت الأمر لوجدتها چينات يتم توريثها جيلًا بعد جيل، فهذا آخر ملوك مصر الفعليين أحمد فؤاد الثاني – نجل الملك فاروق، والذي يعيش في سويسرا مع أبنائه وأحفاده بعيدًا عن الحياة السياسية بمصر، لم يتعامل مع الأمر بطريقة أبعد عما كان يتعامل بها والده، بل على العكس دائمًا ما يبرهن على حبه للبلاد، فبالرغم من محاولة بعض المصريين دفعه للمعترك السياسي عن طريق مطالبته بالعودة لمصر والمطالبة بالحكم أو على الأقل الترشح لانتخابات الرئاسة، لكنه لم يستجب لهذا، وهو يعلم أن أمر حكمه لمصر قد تجاوزه التاريخ بمراحل.

هو دائمًا يتعامل مع الواقع باحترام له، يتصرف بحكمة الملوك التي ورثها عن جده الأكبر محمد علي باشا، لم ينعزل عن ماضيه الجميل فأبقى على علم البلاد القديم، لكنه مع ذلك يعلم أن الزمن لا يقف ولا يعود إلى الخلف فأضاف العلم الحالي في مكتبه أيضًا، ومن عجب الأمر أنه لم يكترث للدفاع عن والده الذي داوم التاريخ على تشويهه، لكنه رفض بشدة الإساءة لمن عزلوا والده؛ لأنه تعلم أن الحكم يتكفل به التاريخ وليس الأشخاص.

أعرب جلالة الملك فؤاد الثاني عن شديد انزعاجه من استخدام بعض المعلقين على صفحته للفظ «ابن الجنايني» و«ابن البوسطجى» في إشارة إلى شخصيات خيالية من فيلم سينمائي دعائي أو شخصيات حقيقية كان لها دور في تاريخ مصر بعد 1952.


هل المعارضة للأوطان أم للحكام؟

لعل الخلط بين المعارضة لسياسات الحكام والعداء للأوطان هو أبرز أسباب هجاء المعارضين لرفقائهم المعارضين، ويتخذ ذلك دافعًا لتخوين كل من يناهض سياسات أشخاص حتمًا سيزولون، الذين نسوا أنه ستبقى الخناجر التي طعن بها المعارضون أوطانهم حينما غفلوا حقيقة أن الأوطان لا تظلم لكنها قد تنجب ظالمين كما قد يُخلق من ظهر العالم فاسد.

هذه الشعرة الفاصلة بين المعارضة والخيانة حاول الرسول محمد – صلى الله عليه وسلم – توضيحها حينما هاجر من مكة للمدينة، فقال: «أَمَا وَاللَّهِ لأَخْرُجُ مِنْكِ، وَإِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّكِ أَحَبُّ بِلادِ اللَّهِ إِلَيَّ وَأَكْرَمُهُ عَلَى اللَّهِ، وَلَوْلا أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُونِي مَا خَرَجْتُ»، كذلك دائمًا ما حرص الشعراء على التأكيد على أن حب الوطن ليس تفضلًا من البعض لكنه واجب مثلما قال «أبي فراس الحمداني»: «بلادي وإن جارت عليّ عزيزة»، وكذلك كما جاء في أوبريت «الضمير العربي»: «حب الوطن إلزام حب الوطن إيمان»، فإذا كنت تبغض وطنك فلماذا تشغل بالك بمعارضة من يحكمونه؟

ختامًا.. ربما يتبدل الحال بين يوم وآخر، سيموت أناس ويولد آخرون، قد يتغير الحكام لكن لن تتغير الأرض، فإذا أردت فرقًا واضحًا بين المعارضة النظيفة وما سواها فابحث عن الذين رغم مآسيهم لم يبغضوا وطنهم، وفي كل ليلة يبكون وهم يسمعون حمزة نمرة يغني «بلدي.. بلدي.. وأنا نفسي أروح بلدي».

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.