نشاهد الأفلام السينمائية لأنها تروي قصصاً، قد ترصد السينما واقعاً، وقد تقدم حلولاً، أو توثق تاريخاً فتجعله مُحصّناً ضد النسيان، أو قد تعرض زوايا جديدة لم نتطرق إليها من قبل، ولكن تظل الأقرب إلى القلب هي السينما التي نرى أنفسنا فيها ونتواجه معها.

ثمة مشاعر مختلفة انتابتني أنا وكثيرين ممّن شاهدوا فيلم «السباحتان» للمخرجة «سالي الحسيني»، فقد اتفقت مع كل من تناقشت معهم حول الفيلم على أنه مُتفرّد، تنتهي منه إنسان مختلف عمّا بدأته، لعل أحد الأسباب التي جعلت تأثري أنا ومنْ حولي بالفيلم مختلفاً عن غيرنا هو تجربة الهجرة، ثمة شعور جمعي بأننا نرى مقتطفات عاطفية من أنفسنا بشكل ما في القصص الواردة، فهذه الوحشة مألوفة، وهذه الأحلام الموروثة مرّت من قبل، وثمة قوة ما امتصت روحك ببطء في يوم من الأيام وتركتك شبه مُتيّبس القلب.

أحاول هنا أن أقف على عناصر وأسباب جعلت هذا الفيلم من أعمق الأفلام التي ناقشت الأزمة السورية -على وجه التحديد- وأكثرها تميزاً.

قبل الحرب

نور الشمس يفيض من النوافذ، الزينة التي تعود إلى تسعينيات القرن الماضي وأوائل الألفية تُزيِّن أركان المنزل تماماً كالموسيقى، وحضن الأب يتسع تماماً لابنتيه ويفيض، هكذا كانت الحياة في بِلداننا، أو على الأقل في الأسر المشابهة لأسرة «مارديني». رأينا في احتفال عيد الميلاد أباً وأماً وضعا صندوق أحلامهما في بناتهما وساعدهن على إنبات أجنحة تُحلِّق بهن نحو الأحلام. يمكنني القول إني لم أعرف مدى اشتياقي لهذه الرؤية السينمائية، إلا عندما شاهدتها في هذا الفيلم.

منذ أن بدأت متابعة التقارير والأخبار المحلية في هولندا، اعتدت مشاهدة صورة نمطية واحدة غالبة على تناول قصص المهاجرين السوريين بخصوص الاندماج في المجتمع الهولندي، تضمنت هذه الصورة -في أغلب الأوقات- الشفقة.

لم أشعر بهذه اللمحة من الجانب السوري مُطلقاً، وإنما هي دائماً رؤية المخرج أو القناة أو الجريدة التي تتولى صناعة الصورة وتضمين قصة اللجوء فيها، وكأن الرأي العام الهولندي بحاجة إلى وسيط إعلامي يستدر عطفهم ويثبت حسن نوايا الآخر، أن تقترب الكاميرا من الوجه لترصد الدموع في عين إنسان يسترجع ذكرياته المقحمة على موضوع التقرير.

إن كنت تَمُرّ بتقرير أو اثنين يحملان هذا التناول، قد لا تتوقف أمامهما، ولكن أن تأتي غالبية التقارير بهذا التوجه، فهو أمر مُثير للحنق، وكأنها الوسيلة التي يحصد بها التقرير التعاطف والمشاهدات على حساب أوجاع المهاجرين السوريين، الذين لم تكن الهجرة في حسبانهم حينما كانت الأوضاع مستقرة.

أمّا كيف كانوا والأوضاع مستقرة في بلادهم، فهذا أمر لا يتطرق إليه أحد، لا أحد يتحدث إعلامياً عمّا قبل الهجرة لأنه لا أحد اهتم بأن يسأل، وهذا ما ثارت عليه المخرجة «سالي الحسيني» في فيلم «السباحتان».

رصدت الحسيني سوريا قبل الحرب بعيون أهلها، مشاهد مُضيئة ومُشرقة، تجمعات عائلية دافئة، وسهرات راقصة، أمسيات على مقاهٍ ذات الطابع العربي المعروف بألعاب الطاولة ودخان الأرجيلة. كانوا سعداء ورأوها أجمل البلاد، فقد كانت بلادهم تكفيهم وتتسع لأحلامهم. تلك الرؤية السينمائية ملأت قلبي دفئاً وعزةً.

الإنسان هو القصة والبطل

أتذكر صديقتي التي تبكي كلما ورد ذكر البحر والإبحار، وأتذكر صديقة أخرى حرصت على أن يلتحق ابنها بمدرسة سباحة في سن مبكرة اتقاء لصدمة مشابهة لما تعرضت هي لها، وأتذكر صديقة ثالثة تنتابها نوبة هلع كلما مرّت طائرة هليكوبتر بارتفاع قريب، كما أتذكر أيضاً أصدقاء آخرين يجتمعون فقط ليستجمعوا ذكريات مفارش الأمهات المُطرزة يدوياً ورائحة ورود وأعشاب الحديقة المنزلية، «وبحكوا سوري مع بعضن» ليتخيّلوا لو أنهم لم يغادروا قط، فلم يكن الأمر -بالنسبة لمن أعرفهم على الأقل- بحثاً عن بلد أكثر رغداً أو رغبة في الهجرة إلى الشمال، بقدر ما كان تجنب للمكاره، واقتناص حياة ليست كالتي فُرضت على الوطن الأم، لا أحد فيمن أعرف يتحدث عن الأسباب السياسية والتوجهات، فقط نتحدث عن الإنسانيات.

تعمدت الرؤية المطروحة في الفيلم تهميش الثورة السورية كحدث سياسي وما تبعها من حرب وأحداث، فقد اكتفى الفيلم بإقصاء تفاصيلها في خلفية الأحداث واكتفى بعرض نتائجها ومحاولة الشخصيات التكيف مع هذه النتائج. نجد الإشارات للحرب تظهر في مشهد ترقص فيه الشخصيات بينما السماء تمطر بالقنابل على مدينة مجاورة وسط تجاهل ظاهري من الشخصيات.

يتناثر الجنود المسلحون في لقطات المشاهد المعنية بسوريا بينما الحدث الأساسي يسير في خط آخر، يلقون بالتعليقات ولا يعيرهم أحد اهتماماً. حتى في مشهد تحرش الجندي بالفتاتين جنسياً كان الاشتباك الكلامي بين الشخصيات في أضيق الحدود.

صورة بشار الأسد تواجدت في خلفية بعض مشاهد الداخل السوري دون توجه من شخصيات الفيلم إليها، ولم يتم ذكر لأي اتجاه أو حدث سياسي إلا عن طريق شريط الأخبار أو بذكر أسماء المدن المقصوفة أو أسماء القتلى.

حاولت الحسيني في كل مشهد إبراز كيفية تعامل الشخصيات الفردية -كلٌ بطريقته- مع الظروف المحيطة دون مناقشة هذه الظروف، هذا الأسلوب في الإخراج يُبرهن على أولوية قصة الإنسان وقراراته الفردية عند الحسيني، وهذه ميزة أخرى من مميزات الفيلم، شخصيات الفيلم المستوحاة من شخصيات حقيقية لا تكترث تماماً لأسباب الحرب أو أحداثها السياسية، بقدر ما تكترث لما سبّبته من مأساة إنسانية وفقدان.

اختيارات الموسيقى الفردية

باستثناء أغنية «شام» للينا شماميان (ضيفة الشرف السورية في الفيلم) و«يوسف كيخيا» المطرب السوري المقيم في برلين، فإن الأغاني التي تخلّلت مشاهد الفيلم غير سورية، بل وغير عربية في بعض الأحيان.

اختيار الأغاني في الفيلم عرّضه للانتقاد حيث اتهمه البعض بأنه غربي الطابع، وباختياره لهذه الأغاني فهو لا يعبأ بالقضية التي يتناولها بل ويُهمِّشها.

استعانت «سالي الحسيني» في اختيار بعض الأغاني بـ«يسرا وسارة مارديني» الحقيقيتين. وضعت الأغاني التي كانت تستمعان إليها في أوقات بعينها، وقرّرت أن تكون الاختيارات والتفضيلات الفردية للموسيقى أولّى من الهوية الموسيقية العامة، أرادت أن تكون يسرا وسارة مارديني هما أنفسهما وليستا ما نريدهما أن تكونا.

قد يتخيل المشاهد موسيقاه الفردية بشكل لا إرادي كخلفية للمشاهد التي يتلامس معها أثناء مشاهدة الفيلم، فتكون الحسيني قد أخرجت قصة فردية عامة التأثير على مشاهديها.

أرادت «سالي الحسيني» كذلك ربط الجيل السابق من المهاجرين بالحالي، عن طريق اختيار أغان حديثة للفيلم صدرت بعد أحداث الهجرة بسنوات. تعمّدت الحسيني بهذا الاختيار مدّ خط موسيقي عاطفي بين الأجيال المهاجرة، لا سيما أنها أيضاً من المهاجرين، فنجحت في التعبير عن المهاجر -أياً كانت أسباب هجرته- الذي قد يرى نفسه في هذا الفيلم دون مزايدة على مقدار المعاناة والألم.

دعي سوريا تذهب

بالمضي في مشاهدة الفيلم نجد يسرا وسارة مارديني تُكيِّفان أهدافهما وفقاً لما تحتاجانه وليس وفق ما أراده والدهما، فتترك سارة السباحة، بينما تصبغ يسرا حلمها بصبغة شخصية بمساعدة أختها، تتنازل عن حلم السباحة من أجل سوريا كما أراد والدها وتنضم لفريق اللاجئين في الألعاب الأولمبية.

التحول في شخصية يسرا نجده في ثلاثة مشاهد، الأول حينما جمع الأب الميداليات التي حازت عليها ابنته في بطولات السباحة المحلية في صندوق وأعطاه لها، أراد منها أن تحمل هذه الميداليات كبطاقة تعريف لها في برلين، فهو كل تاريخها الرياضي وحلم أبيها ومثابرته على تدريبها.

تقرر يسرا في المشهد الثاني إفلات ميدالياتها المحلية إلى قاع البحر لتخفيف القارب وإنقاذ حياة رفاقها على القارب المطاطي، يتضمن هذا المشهد عدة إشارات مجازية، فسوريا باتت من الماضي، تغرق تحت الماء، يجب أن تدعها تذهب لتُنقِّذ الحاضر المتمثل في نفسها وكل منْ على القارب، أفلتت يسرا الميداليات رغماً عنها وشعرنا بقلبها يسقط في الماء معهم، ما زالت ترفض الواقع بقلبها بالرغم من انصياعها للقرار، وكانت هذه هي بداية التحول.

فكرة أن تدع الوطن يذهب أو ما نعبر عنه بالإنجليزية «Letting Go» هي فكرة قد تشعر بها ولكن لا تشير إليها، هي فكرة جريئة ومُخيفة، قد نخاف أن نواجه بها أنفسنا قبل أن نواجه الآخرين، وقد نخشى أن نجرح -بإفلات الوطن- أنفسنا قبل الآخرين. فيلم «السباحتان» يضعنا أمام أنفسنا في هذه المواجهة المخيفة حول الهجرة والانتماء، لا سيما أنه فيلم عن المهاجرين وبصناعة المهاجرين.

معركة يسرا النفسية في اتخاذ القرار بخصوص الاشتراك في دورة الألعاب الأولمبية تحت راية اللاجئين تجلت في مواجهة أختها لها، فالسباحة من أجل سوريا هي حلم الأب المستحيل تحقيقه، بينما السباحة لأجل يسرا نفسها وكل من آمن بها أبقى وأقدر على التكيف، أدركت يسرا أن عليها أن تفلت سوريا من أحلامها وتدعها تذهب، وأن تنظر إلى الأمام، وهذا هو المشهد الذي اكتمل فيه التحول.

منْ يمعن النظر في الفيلم يلاحظ بداية المشهد الأول بالماء، وختام المشهد الأخير الماء، فحتى موقفنا من البحر هو موقف شخصي تماماً.

ذكّرني هذا بجدارية ضخمة رأيتها أثناء عامي الأول في هولندا بإحدى المكتبات العامة، لفت نظري لها وجود نصوص بالعربية بجانب الهولندية، كانت هذه النصوص تجارب مُجمّعة لمهاجرين سوريين، نصوص يبطنها الجمال رغم الألم، لم تفارق هذه النصوص ذاكرتي، وما زالت تلازمني كلما استدعاها موقف، وكلما تعثّر صديق في أمنياته، حينما قرأتها لأول مرة فكرت في أن البحر المخيف قد يبتلع الأمنيات، ولكن بعد سنوات صرت أفكر في عدد المرات التي نحاول فيها أن نتعلم كيف يكون امتطاء الأمواج.

– كيف وصلت إلى هنا؟
– في نعش.
– أعتقد أنك تعني شيئاً آخر، يمكنك أن تطلب مُترجماً لمساعدتك.
– لا، أعني بالضبط ما أقول، أخذت نعشاً. ورتّب لي المُهرِّب شهادة وفاة أوروبية، وحبسني في التابوت حتى عبرنا الحدود. ولا داعي لأن أضيف إلى إعلاني أنني توفيت قبل وصولي إلى هنا. مهما كانت الامتيازات التي ستمنح لي.
– وأنت كيف أتيت إلى هنا؟
– في نعش.
– نفس المُهرِّب؟
– لا، نعشي كان كبير، كبيراً جداً، وأزرق.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.