عرض فيلم «السباحتان the swimmers 2022»  في مصر ضمن عروض مهرجان القاهرة السينمائي خارج المسابقة بعد عدة عروض في مهرجانات عالمية منها تورنتو، قبل أن يصل وجهته الأساسية وهي شركة إنتاجه منصة نتفلكس، قوبل العرض المصري باحتفاء جارف، قاعة محجوزة عن آخرها بحضور صناع العمل وبعض أبطاله، المخرجة سالي الحسيني والممثلة كندة علوش والممثل أحمد مالك، انتهى الفيلم بجولة تصفيق وصفير تليق بمباراة أوليمبية مثل التي صورها الفيلم أكثر منها فيلمًا سينمائيًّا، على الرغم من المعرفة المسبقة لبعض المشاهدين بنهاية القصة وذروتها، فإن هذا لم يمنع الحاضرين من الاندفاع وراء دفقاته الأدرينالينية التي  تليق بأهداف مباريات كرة القدم، ينتهي الفيلم بلحظة انتصار حقيقية  فعلًا، يلقي كل الهزيمة وراء ظهره ويحتفي بالأمل، أمل الناجين من الحروب، وأمل سكان مناطق النزاع عندما يصبحون خارجها، ينتهج الفيلم صيغة هوليوودية انتصارية، تتمهد بها كل الصعاب لكي يحصل الأبطال على نهايتهم السعيدة، لكن هل هذا يكفي لصناعة فيلم عن انتصار بعد معاناة حقيقية؟

«السباحتان» هو فيلم ذو إنتاج مشترك يصعب تحديد جنسيته، فهو يحكي قصة سباحتين من سوريا، لكن تقوم بأدوراهما الممثلتان الفرنسيتان  اللبنانيتان ناتالي عيسى ومنال عيسى، ويقوم بدور أبيهما الممثل علي سليمان من فلسطين، ويقوم بدور ابن عمهما أحمد مالك من مصر، وتتولى إخراج الفيلم المخرجة المصرية البريطانية سالي الحسيني، وتقع كل تلك الخيارات والجنسيات تحت مظلة واسعة وهي منصة نتفلكس، تظهر في الفيلم ممثلة سورية واحدة في دور رئيسي وهي كندة علوش بسبب نجوميتها داخل العالم العربي، وتظهر في لمحات قليلة لتأدية دور أم تقليدي، ثم نرى وجهها بقية الفيلم عبر شاشات الأجهزة الإلكترونية، تتحدث الشخصيات معظم فترة الفيلم بإنجليزية متقنة، حتى في أكثر لحظاتهم خطورة، تتحدث الشخصيات بلغة غير لغتها الأم بينما تهدد أمواج البحر حياتهم أثناء عبورهم حدود بلد آخر في قارب نجاة يوشك على الغرق، بجانب المشاهد المثيرة ولحظات الانتصارات الجارفة المرضية للجمهور فإن مشاهدة «السباحتان» تجربة تغريبية للمشاهد الذي مر بأحداث مقاربة لتلك أو للمشاهد الذي عاشها بالفعل، كما أنه تجربة توضح الانتقائية في التمثيل الثقافي عندما يتعلق الأمر بتعليب القصص الحقيقية للاستهلاك العالمي.

الصيغة الأمريكية لقصص النجاح

يسرد فيلم السباحتان قصة طازجة تاريخيًّا لم يمر عليها الزمن بعد لبطلة السباحة يسرى مارديني (ناتالي عيسى) التي شاركت في أولمبياد ريو 2016 بعد هجرة غير شرعية مريرة من سوريا، مرورًا بعدة وجهات حتى وصلت إلى ألمانيا، تدور أحداث الفيلم في إطار نوعين سينمائيين، وهما الفيلم رياضي والفيلم عائلي، ويمر داخله نوع فيلم النجاة بالطبع، ما يجعل الفيلم سهلًا تصنيفه نوعيًّا على الرغم أنه مبني على قصة حقيقية هي الخيارات السردية الواضحة والمحددة التي تقولب أي قصة لتجعلها رحلة من نبضات محفوظة عن العقبات وتخطيها والوصول إلى النجاح، تركز دراما الفيلم العائلية الرئيسية على الأختين يسرى وسارة مارديني السباحتين منذ الصغر بسبب اهتمام أبيهما السباح السابق بتدريبهما، مثل كل فيلم رياضي فإن الأب شخصية حاسمة ضاغطة، لكنه حنون ومشجع لا يقبل الخسارة، وشخصية الأم قلقة، مترددة وحنونة، بينما تم إضافة شخصية خيالية لابن العم الطريف الذي يكسر المأساة بالنكات والملاحظات الطفولية.

لا يستثمر الفيلم أي لحظة دون حدث محرك، تنتقل الأحداث من اضطرابات الحرب الأولى حتى القرار بالسفر حتى مأساة الهجرة بشكل لا يدع مجالًا للوقوف كثيرًا على أي عمق شعوري لتأثير تلك التغيرات إلا عن طريق السرديات الميلودرامية التقليدية، يتم رسم الشخصيات الرئيسية بشكل نمطي تمامًا وكأنهم غير موجودين في الحقيقية، أو لا يوجد ما يميزها كأشخاص خارج العوالم السينمائية المعروفة، هنالك الأخت المثابرة البطلة الحساسة ذات الوجه الحزين، والأخت الأخرى المترددة تجاه الحياة التي رسمت لها رغمًا عنها كسباحة، لكنها أكثر حماسًا لعيش حياة أكثر حرية، وفي رحلتهما لتحقيق مصائرهما يتم اختزال الدفق الشعوري المروع لعملية الهجرة لصالح رسم المزيد من الأنماط، أحد المهاجرين وظيفته هي إضفاء لمحة من الغزل والرومانسية على الفيلم لخلق علاقة ما بين إحدى البطلتين وشخصية من الجنس الآخر، ومهاجرة أخرى أفريقية دورها هو الانبهار من وجود فتيات لا يرتدين الحجاب ويستطعن السباحة، وأسرة معها رضيع لإثراء الدراما التي لا يوجد فيها ما هو على المحك على الرغم من خطورة الرحلة، الجميع ينجو، ومن لا ينجو لا نعلم تمامًا ما حدث له، طالما لا يخدم سردية الانتصار.

تتصاعد أحداث «السباحتان» عندما يوشك الأبطال على الوصول لحدود البر، عندها يكاد ينهار القارب، لكن وببطولة إعجازية تشارك يسرى وسارة في دفع القارب والركاب سباحة حتى الشاطئ، لحظة سحرية ومروعة كتلك تم تصويرها على أنغام إحدى أغنيات المطربة الأمريكية سيا، تتذكرها يسرى بينما تحاول أن تدفع نفسها للنجاة، لا يدعو أحد أي إله يصدق به أو يسترجع غرائزه الأولية مثل الكلام بالعربية أو السباب حتى على الأقل، بل يتم تصوير اللحظة باعتبارها نجاة هوليوودية على أنغام موسيقى يمكن سماعها في حفلات النوادي الليلية، مما يفقد تلك اللحظة كل ما يجعل لها خصوصية ثقافية، ومع نجاة الفتاتين ووصولهما بعد عناء إلى مخيمات آدمية ومثالية للاجئين في ألمانيا يصبح المنقذ والحامي هو دولة أوروبية لا تخادع أو تزعج اللاجئين، ولا تشكك لحظة في نواياهم، وانطلاقًا من ذلك الإنقاذ تصل يسرى إلى  المشاركة في الأوليمبياد بمشاركة مدرب بشوش ذي نوايا طيبة، وتفوز في لحظة ذروة تدفع فعلًا للتأثر لأنها حدثت فعلًا وليس لأن الفيلم سلعها في هيئة تصلح للاستهلاك السريع لقصص النجاح والوصول.

انتقائية التمثيل الثقافي

صدمت من الاستخدام المكثف للحوار باللغة الإنجليزية، وبمدى سطحية وابتذال الفيلم كأنه أحد تلك الأفلام الأمريكية التافهة المليئة بالكليشيهات الاستشراقية.

صرحت منال عيسى التي لعبت دور سارة مؤخرًا بشعورها بالندم على قبولها بمشروع فيلم The Swimmers، حسب قولها فقد قبلت لأنها شعرت أن لهجتها كلبنانية أقرب لشخصية سورية، وأن باقي المرشحات للدور كن من مصر والمغرب، فلم يكن لرفضها أن يحسن الخيارات أو التمثيل المنضبط لشخصية سورية، لتصريحات منال ثقلها لأنها شاركت بالفعل في العمل الذي نال استحسانًا جماهيريًّا حتى بين بعض المشاهدين العرب، فهي جزء من صناعة البروباجندا الاستشراقية حتى من دون قصدها، يذهب الفيلم مسافات بعيدة حتى يرسخ لأفكاره السطحية بداية من عدم التفريق بين العرب بعضهم وبعض، واختيار أي جنسية للعب أي جنسية أخرى وصولًا إلى جعل إحدى اللاجئات تخلع الحجاب كوسيلة للاندماج بين الغربيين وأن تصبح “أجنبية” بشكل أقل، لكن خيارًا سرديًّا مثل ذلك لا يذهب لأي مكان، لا نعرف ما إذا نفعها ذلك أم لا، تقتصر لمحات مثل تلك على التركيز على التخلص من كل ما يجعل للفيلم خصوصية ثقافية لكي يكون أكثر غموضًا عرقيًّا وثقافيًّا.

ناتالي ومنال عيسى من فيلم the swimmers
ناتالي ومنال عيسى من فيلم the swimmers

تتوجه صناعة المحتوى البصري السينمائي والتليفزيوني حاليًّا في العالم لإدراج المزيد من التمثيلات الثقافية، العرقية والدينية والجنسانية وغيرها، لكن تلك التمثيلات لم تتخلص حتى الآن من مفهومها عن الآخر، فهي في جوهرها تمثيلات متنوعة لثقافة واحدة، فالتنوع العرقي والجنساني يقع في الغالب في إطار أمريكي، لكن الآخر العربي في المحتوى المركزي الغربي يجب بشكل ما تعديله وقولبته لكي تتسع له الهيمنة البصرية والثقافية، في «السباحتان» لا يوجد أي أثر لاهتمام بالتمثيل الثقافي الصادق، بجانب عدم الاهتمام بتوظيف ممثلين من سوريا، فإن الخيارات اللغوية  تجعل الفيلم أكثر عالمية وملاءمة للمشاهد المتحدث بالإنجليزية، فالجميع في الفيلم يتحدث إنجليزية عامة مضافة على الشخصيات، وليست مزيجًا لغويًّا يشير إلى تنوع ثقافي ما متجذر في طبيعة الحياة في سوريا أو طبيعة الخلفية الثفافية والتعليمية للشخصيات، تظهر الملامح الثقافية العربية فقط لكي يتم الهرب منها، فعلى الجانب الآخر (العربي) يوجد كل ما هو مروع ومرعب، وعلى الجانب الغربي في  بلاد العالم الأول يقع الإنقاذ والأمل في البدء من جديد، في «السباحتان» لا توجد مساحة للتعقيد، كل عنصر تم تبسيطه عن آخره لكي يكون أسهل في الهضم سريعًا ثم  النسيان، وكل اهتمام بصدق التمثيل تم تجاهله لأنه سيصعب على الفيلم مهمة أن يكون أكثر عالمية، أو يوقعه في فخ تغريب المشاهد الغربي، فمن الأفضل أن يغرب العربي.

تصوير ألم الآخرين

طالما نشعر بالتعاطف، نشعر أنه لا دور لنا في مسببات المعاناة، تعاطفنا يعلن براءتنا كما يعلن عجزنا، إلى حد  ما يمكن اعتبار ذلك حتى مع كل نوايانا الطيبة نوعًا من الوقاحة إذا لم يكن رد فعل غير ملائم.

في مقالها الشهير فيما يخص ألم الآخرين Regarding The Pain of others، تناقش سوزان سونتاج أخلاقية وتأثير صور الحروب، ودور الواقعين على الجوانب الآمنة المشاهدين فقط لتلك الصور في التعاطف أو في إبداء الآراء فيما يرونه، ترى سونتاج أنه حتى التعاطف الأجوف يمكن أن يكون رد فعل وقحًا، فهو يفصلنا عن معاناة الآخرين ويضعنا في موقع المتلصصين، يعيد الفيلم صياغة صور حقيقية لأهوال الهجرة وفقدان الحياة في المحاولة، مثل مشهد مروع لسترات النجاة، المئات منها ملقاة على الشاطئ فيما يشبه مجزرة معاصرة، لكنه ينتقل سريعًا من تلك الصور قبل أن تترسخ في الذاكرة، يتعامل فيلم «السباحتان» مع قصص توابع حرب وهي لم تزل في طور الحدوث، يحولها إلى صور للاستهلاك والمشاهدة، لاستدرار التعاطف والشعور التطهيري بأن من يشاهد ذلك لم يمر به، وأن السيئ قد ولى أخيرًا، لكن في واقع الأمر هذا ليس حقيقيًّا حتى حسب سردية الفيلم نفسه. تنتهي أحداث فيلم «السباحتان» على لحظة انتصار إعجازية، سباحة سورية عبرت البحر لكي تصل إلى نهاية خط مسبح أوليمبي ضمن فريق للاجئين، لكن ذلك ليس هو مشهد النهاية.

وراء كواليس فيلم the swimmers
وراء كواليس فيلم the swimmers 

بعد مشهد الذروة تظلم الشاشة لتخبرنا أن سارة مارديني التي تعمل متطوعة لمساعدة لاجئين كانت من ضمنهم في يوم من الأيام محتجزة حتى الآن ومهددة بأحكام قد تصل لعشرين عامًا من السجن، تقوض تلك الحقيقة التي لا يظهرها الفيلم دراميًّا كونها حدثًا حقيقيًّا لم ينتهِ بعد كل مجهودات صناع الفيلم في صناعة فيلم عن الأمل وعن المجهودات الفردية في النجاة والنجاح بعد الكوارث الحربية، بل ترسخ لتوجيه التعاطف في المكان الخاطئ، إنتاج فيلم عن الناجين من الحروب بينما تحتجز أحد أبطاله الحقيقيين في وضع حرج يجعل من الفيلم وثيقة حية تصور سوء توجيه التعاطف بصناعة صور مقتطعة من منسوجة ضخمة، واقتطاع الحقائق التي تسهل بيع الفيلم دون حفظ المجهودات، ربما في مناشدة المجتمع الدولي بالإفراج عن الأخت مارديني، وكأن نجاح يسرى مارديني يصنع قصة تستحق السرد المشهدي، بينما لا تستحق معاناة سارة مارديني الحالية إلا بضع كلمات، ربما لن يلتفت لها المشاهد الذي سينتقل إلى محتوى آخر فور إظلام الشاشة.

يمثل فيلم «السباحتان» مشاهدة هروبية تتجاهل الألم لصالح الأمل وتخضع لكل ضغوط الأوضاع الحكائية الغربية دون اعتبار للخصوصية الثقافية، لكن مع مشاهدته يجب تذكر أن الفيلم لا يسرد تاريخًا قد ولى، بل تاريخًا في خضم الحدوث، فمن غير المسئول إساءة توجيه التعاطف والاحتفاء بالتربح من ألم الآخرين دون اهتمام حقيقي بتمثيل هؤلاء الآخرين كما يجب.