في الحادي عشر من مارس/آذار الماضي، ووسط تغطية إعلامية عربية ودولية محدودة، قضت محكمة نيويورك الفيدرالية بتغريم إيران 10.7 مليار دولار، بدعوى «تورطها» في أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، لتصرف كتعويضات لصالح أسر الضحايا، وشركات التأمين المتضررة من تلك الهجمات، وقد كان هذا حدثًا لافتًا بلا جدال.

أدي افتقار ذلك الحدث شديد الأهمية للسياق الكلي والعام الذي يمكن أن يُفهم من خلاله في الأخير، إلى تخطيه و تجاوزه سريعًا وعدم التوقف عنده بذلك الشكل الذي جرى، حيث ظل من المستبعد حتى الآن وفق المنظور السائد لدى الكثيرين في العالم العربي والإسلامي، أن تقوم علاقات بين الجمهورية الإسلامية في إيران وتنظيم القاعدة المنفذ المباشر للهجمات، في ضوء التباينات المذهبية بين كلا الطرفين.

إلا أنه وعلى خلاف تلك التصورات المستقرة والسائدة، لا يرتبط تبلور الظاهرة الجهادية المعاصرة وعولمتها، بعد نشأتها المحلية خلال فترة الستينات في العالم العربي، بحرب أفغانستان التي اندلعت عام 1979، بقدر ما يرتبط ذلك وللمفارقة بالثورة الإسلامية في إيران التي اندلعت في العام نفسه الذي بدأت فيه تلك الحرب، رغم كل المفارقات الظاهرة في هذا الأمر.

سنقوم هنا، وعبر سلسلة متتالية من المقالات، بجمع نثار من الحقائق التاريخية المطوية والمتفرقة التي لم ينظمها سياق تاريخي ومعرفي واحد، عبر رحلة من التحليل والاقتفاء للخيوط الأولى لنشأة تلك العلاقة التي جمعت كلا الطرفين بدايةً، مرورًا بتطورها خلال عقدي الثمانينات والتسعينات، وصولًا للحظة ما قبل عمليات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، لنستطيع بالنهاية من خلال كل ذلك، إعادة سرد تاريخ الحركات الجهادية في العالم العربي، بناء على إيلاء ذلك المعطى شديد الأهمية، والمسكوت عنه عادةً في التحليلات السائدة للسياسات الإقليمية، المكانة التي يستحقها.


الدور المجهول لإيران في التخطيط لاغتيال السادات

كانت الثورة الإسلامية في إيران مصدراً للإلهام للكثير من الإسلاميين في العالم العربي،منذ نهاية سبعينات القرن الماضي، وإلى وقت ليس بالبعيد، حيث يستطيع أي مطلع على أدبيات الحركات الإسلامية خلال فترة الثمانينات وإلى نهاية التسعينات في هذا الإطار أن يلاحظ عملياً مدى الإعجاب والاحتفاء الذي لا يخفى بتلك الثورة، وهو الإعجاب الذي استمر إلى أن تبدلت الصورة الذهنية لإيران تدريجياً لدى معظم الإسلاميين بنهاية المطاف، بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، وبروز ملامح المشروع الإيراني في المنطقة خلال العقد الأول من القرن الحالي.

إيران، شيعة، الثورة الإسلامية، الخميني
height=”720″/> الثورة الإسلامية الإيرانية، 1979

كان أشد المتأثرين بنموذج الثورة الإسلامية الإيرانية من الأوساط السنية في العالم العربي إثر اندلاعها، هم الجماعات والأحزاب الإسلامية الأكثر راديكالية في هذا الإطار، كجماعة الجهاد الإسلامي في مصر وحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، وكان من أبرز مظاهر هذا التأثير في ذلك الوقت على سبيل المثال، قيام الراحل فتحي الشقاقي مؤسس حركة الجهاد الفلسطينية، بتأليف كتاب حمل عنوان «الخميني، الحل الإسلامي والبديل» تم نشره خلال العام نفسه الذي قامت خلاله الثورة الإيرانية.

ولسنا بحاجة في هذا السياق إلى أن نشير إلى مدى عمق العلاقات التي جمعت بعد ذلك حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية التي كانت تسمى في مراحلها المبكرة بـ«أنصار الثورة الإسلامية في فلسطين

style=”color: #034ea2″>[1]

وبين الجمهورية الإسلامية في إيران والمستمرة إلى اليوم، حيث تبنت حركة الجهاد كما هو معروف خطاً أيديولوجيا استثنائياً في العالم العربي فهي من جهة حركة سنية في الانتماء المذهبي لأعضائها، بينما تتبنى في المقابل منذ نشأتها خطاً شيعياً على المستوى السياسي.

[2]

وقد غيرت الحركة اسمها بعد ذلك من أنصار الثورة الإسلامية في فلسطين إلى حركة الجهاد الإسلامي، تيمناً باسم تنظيم الجهاد المصري، الذي كان ينتمي عدد كبير من قيادته إلى محافظة الشرقية بدلتا مصر، حيث كان يقيم ويدرس فتحي الشقاقي. والذي تجاوز تأثره – أي تنظيم الجهاد – بنموذج الثورة الإيرانية، التي كان ينادي قائدها روح الله الخميني المصريين في ذلك الوقت إلى الثورة على السادات «الخائن والكافر والعميل» على حد تعبيره، حد الاستلهام، إلى مستوى التواصل المباشر مع قياداتها.

تشير إحدى الشهادات القديمة نسبياً والنادرة في هذا السياق إلى أن أول اتصال بين تنظيم «الجهاد المصري» وإيران الثورة بدأ عام 1980 بواسطة السفير الإيراني السابق لدى الفاتيكان حجة الإسلام هادي خسرو شاهي عندما عرض “تنظيم الجهاد” – على خسرو شاهي الذي كان يحضر ملتقى الفكر الإسلامي في الجزائر تنفيذ عملية اغتيال زوجة شاه إيران فرح ديبا التي كانت تقيم في القاهرة، إلا أن الإيرانيين رفضوا آنذاك هذا الاقتراح.

[3]

ويفيد المصدر السابق بأن تنظيم الجهاد الإسلامي عاد مرة أخرى أيضاً وأرسل عام 1981 إلى قم وفداً من قيادييه بينهم طبيب عرّف نفسه باسم الدكتور إبراهيم حديد، والتقى الوفد آية الله حسين علي منتظري وعرض عليه خطة ترمي إلى قيام ثورة إسلامية في مصر تطيح بالحكومة. وتقوم الخطة على اغتيال السادات وخروج الجماعات الإسلامية «المسلحة» إلى الشوارع في أسيوط ومن ثم في باقي المدن المصرية للسيطرة على الأوضاع.

وقد أعجبت الخطة منتظري وسأل وفد «الجهاد» الإسلامي عن المطلوب من إيران، فأجاب الدكتور إبراهيم حديد: «نريد نصف مليون دولار ندفعها للعسكريين المسئولين عن مخازن السلاح لتزويد المتظاهرين الذين سينزلون إلى الشوارع بالسلاح المطلوب للانقضاض على النظام بعد مقتل السادات مباشرة».

وهنا يشير المصدر إلى أن منتظري أوعز إلى أحد الذين يجلسون إلى جانبه، وهو سيد مهدي هاشمي المسئول حينذاك عن قيادة «حركات التحرر الإسلامية والعالمية» في قيادة الحرس الثوري، بأن يتفق مع الجماعة على طريقة التحويل التي أراد “تنظيم الجهاد” أن تتم عبر أحد الوسطاء في دولة عربية.

[4]


الخطة الأصلية .. ثورة إسلامية على غرار النموذج الإيراني

جدير بالذكر في سياق متصل بتلك الشهادة السابقة أن حادث مقتل السادات الذي خطط له تنظيم الجهاد المصري، على خلاف الانطباعات السائدة، لم يكن مجرد عملية اغتيال فحسب، بل كان جزءاً من خطة كاملة لقلب نظام الحكم بأكمله في مصر، وفقاً للتصور الذي وضعه عبود الزمر الضابط السابق بجهاز المخابرات الحربية والعضو القيادي بتنظيم الجهاد.

حيث كان من المخطط أن تعقب عملية الاغتيال، مظاهرات إسلامية تجوب الشوارع لإسقاط النظام، وفقاً للعديد من الشهادات التاريخية التي روتها بعض المصادر الأمنية المصرية المعنية بهذا الملف، والتي تم تعزيزها بشواهد وقرائن عديدة بعد ذلك، ويروي هنا في هذا السياق الضابط «محمد إدريس» رئيس مكتب مباحث أمن الدولة في منطقة شبرا الخيمة في شهادته عن حادث اغتيال السادات :

فى صباح يوم السادس من أكتوبر/ تشرين الأول 1981 فوجئت بحضور أحد مصادري، وهو من أخطر العناصر التي اخترقت تنظيم الجهاد وكنت أقابله في أماكن سرية للغاية بعيداً عن المكاتب أو أي مكان رسمي، ولذلك عندما وجدته في انتظاري

أمام مكتبي بالساحل -حي في شمال القاهرة- تملكني الغضب.

وقبل أن ألومه أبلغني أن مندوباً بالقيادة العليا للتنظيم مر عليه وأبلغه أنه سيتم اليوم اغتيال الرئيس السادات وكبار المسئولين أثناء العرض العسكري، وسلمه مجموعه من الرايات السوداء عليها شعار الدولة الإسلامية وأمره بالخروج بعد انتهاء العرض العسكري

بكوادره إلى الشارع للتظاهر والسيطرة عليه وإعلان قيام الدولة الإسلامية.

ولما كانت هذه المعلومات خطيرة وهو فى نفس الوقت يمكن أن تكون مناورة أو معلومات غير صحيحة ومدسوسة، ولكن طبقا لما قدمه المصدر من معلومات سابقة عن عملية حصول جماعة الجهاد الإسلامية على الأسلحة ومعلومات عن عبود الزمر القيادي المعروف فقام اللواء إدريس

بإخطار اللواء رضوان مطاوع -مفتش الفرع بالإنابة- حيث كان المفتش اللواء «فتحي قته» مفتش فرع القاهرة بالمنصة بأرض العرض.

وفزع اللواء مطاوع وخشي من إجلاء كبار المسئولين قبل انتهاء العرض، وإن كان البلاغ كاذبا فستكون العواقب وخيمة، فأكد له اللواء فؤاد علام الخبر وقال إن المصدر موثوق « 1/ أ »، وهذا يعنى أن معلوماته موثوق فيها حسب لغة الأمن، وطلبت منه سرعة اتخاذ

الإجراءات اللازمة لحماية الرئيس.

ولم أنهي حديثي معه إلا بعد أن تأكدت من أنه اقتنع وجلست على مكتبي على كورنيش النيل بشبرا لأتابع العرض العسكري، وكان الإرسال لم ينتقل بعد لإذاعة العرض – وبعد فترة بدأ العرض وشاهدت المنصة مكتملة الصفوف والجميع هناك ضاحكين مبتهجين، ولا يوجد ما يدل

على أي إخلال بالأمن وتوترت أعصابي وخشيت من احتمال كذب البلاغ.

ثم عدت لقراءة ملف المصدر أراجع تاريخه ومدى اختراقه للجماعة ثم أتابع العرض على شاشة التلفزيون الوجوه الضاحكة تشعر بالأمن والأمان بالمنصة، وكانت يدي ترتعش وهي ممسكه بأوراق الملف، ثم دوت أصوات طلقات الرصاص واضطراب الإرسال والإعلان أن الرئيس غادر

العرض سالماً.[5]

ويذكر أيضاً اللواء فؤاد علام الوكيل السابق لجهاز مباحث أمن الدولة في شهادته عن حادث مقتل السادات كذلك:

أن في الوقت الذي اتجه فيه ركب السادات إلى العرض العسكري بمدينة نصر، كان عبود الزمر قد تسلل متخفياً إلى ميدان التحرير، وجاء أحد الجنود يحمل كمية من «الجاتوه» تحتوي على مواد مخدرة إلي مبنى كتيبة وزارة الدفاع وكانت

الخطة المقررة بعد اغتيال السادات هو قيام الجندي بتقديم «الجاتوه» لطاقم حراسة وزارة الدفاع مدعيا أنه قد رزق بطفل ويتم تخديرهم، في نفس توقيت تحرك مجموعة أخرى من الجماعة الإسلامية تستولي على أسلحتهم ومدرعاتهم.

وشاء القدر كما يذكر علام أن تكون كمية المخدر كبيرة فجعلت مذاق «الجاتوه» مرا ولم يستطع طاقم الحراسة أكله وبصقوه من فمهم إلا جندي واحد قد لقي حتفه على الفور وعندما ذهبت المجموعة الأخرى المكلفة بالاستيلاء على الأسلحة فوجئت بجنود الحراسة في أماكنهم

ولم يجدوا الجندي الذي كان يحمل «الجاتوه» والمكلف بتخديرهم لأنه خاف وهرب بعدما فشلت العملية فلم تتم عملية الاستيلاء على الأسلحة.

و يضيف علام بأن عبود الزمر كان ينتظر في ذلك الوقت بقلق بميدان التحرير وصول المجموعة التي من المفترض أن تأتي بالأسلحة المسروقة ثم إذاعة بيان في الإذاعة والتلفزيون في مظاهرات شعبية تحرض الناس على الخروج في الشوارع تأييدا للثورة الإسلامية، وعندما

تأخر وصول الأسلحة والمدرعات قرر عبود الزمر الذهاب إلى مبني الإذاعة والتلفزيون والاستيلاء عليه بمعاونة بعض أتباعه لكنه فوجئ باللواء أحمد رشدي وزير الداخلية الأسبق يقود مصفحة متجها بها إلى الإذاعة والتلفزيون فأدرك أن محاولة الانقلاب على الحكم

و«الثورة الإسلامية» قد فشلت.[6]

عائلة الإمام الراحل الخميني وعلى يمينه "حسن الخميني"

رغم فشل محاولة تنظيم الجهاد المصري وقتها، في إحداث الثورة والإطاحة بنظام الحكم، خرج روح الله الخميني في اليوم التالي لاغتيال السادات ووجه على الفور نداء للشعب المصري يحرض فيه على انتهاز الفرصة لقلب نظام الحكم، قال فيه :

«اليوم الذي قتل فيه (السادات) عمت السعادة كل مصر. أما هذا الرئيس المفروض الثاني (مبارك) فقد وضع سلطاته كافة تحت تصرف أمريكا قبل أن يصل إلى الرئاسة… يجب على الشعب المصري أن يعلم أنه لو اقتنص الفرصة مثلما انتفضت إيران على المؤامرات فسوف ينتصر».

style=”color: #034ea2″>[7]

وكرر الخميني خلال ذلك الخطاب أن هذا التوقيت هو الأنسب لقيام الشعب المصري بالثورة.

ولكن بالرغم من إخفاق مشروع تنظيم الجهاد المصري في صنع الشرارة الأولى للثورة الإسلامية بمصر خلال تلك المرحلة بالنهاية، احتفت الجمهورية الإيرانية رسمياً بعد ذلك بعملية اغتيال السادات من خلال تكريم منفذها الرئيسي الضابط «خالد الإسلامبولي» وتسميه أحد الشوارع الرئيسية بعاصمتها طهران باسمه.

المراجع
  1. كمال القصير، الحركات الإسلامية البارزة في الوطن العربي, الجزيرة نت, تقرير منشور بتاريخ الخميس 28/3/1427 هـ – الموافق 27/4/2006 م
  2. المصدر نفسه
  3. حامد حيدر – رفسنجاني ومصر, دور ايران في الخليج هو العقبة الحقيقية أمام قيام علاقات طبيعية جيدة بين القاهرة وطهران – جريدة الوسط البحرينية- العدد رقم 45 المنشور بتاريخ 12/6/1413 (هـ) الموافق 7/12/1992 (م)
  4. موضوع حادث المنصة, اللواء / محمد أدريس ,مجلة روزاليوسف المصرية ,عدد رقم 3509 الصادر فى 11/ 9/ 1995
  5. فؤاد علام, الأخوان وأنا, طبعة أخبار اليوم , ص 279
  6. سعيد الصباغ, العلاقات المصرية الإيرانية بين الوصال والقطيعة (1970 ـ 1981), دار الشروق, القاهرة ,الطبعة الأولي ,2007