في الثامن من يونيو/حزيران 1930، نُصِّب «كارول الثاني» ملكًا على رومانيا، عقب انقلاب هندسه، «لوليو مانيو»، رئيس الوزراء. منذ لحظة اعتلائه للعرش، أراد كارول، المهووس بكرة القدم، أن يظهِر للعالم وجهًا مغايرًا لرومانيا المُضطربة. لذا، شجَّع اتحاد كرة القدم الروماني، الذي أشرف على رئاسته بالسابق، على تشكيل فريق قومي للمشاركة في كأس العالم 1930 المقامة في أوروجواي.

في ذلك الوقت، لم يكن لاعب كرة القدم سوى هاوٍ. لذلك، كان على كارول أن يُقايض لاعبي المنتخب الوطني الروماني الذين يخشون فقدان وظائفهم، بإصدار مرسومٍ ملكي يضمن منح جميع اللاعبين المختارين للمنتخب الوطني إجازة من قبل أرباب عملهم واستعادة مناصبهم عند عودتهم.

بموجب هذا المرسوم، شُحن لاعبو الفريق الوطني من مصانع بوخارست تيميشوارا إلى جنوة الإيطالية، ثم إلى رحلة بحرية عبر المحيط الأطلسي استغرقت نحو 3 أسابيع؛ للتنافس في البطولة التي أقيمت في مونتيفيديو.

لماذا نحن هنا؟

بالقرن الماضي، ساعدت منافسات كأس العالم بعض الدول في نشر هوّيتها، بل منح شعوبها معنى للحياة. لكن في عصر العولمة، وبعد أن تحوَّل الكوكب بأسره لقرية صغيرة، لم يعُد المنتخب الوطني بطاقة تعريف خاصة لشعب بأكمله، حيث أصبح أفراده مجرَّد استعراض لقدرة الدول على استيعاب الآخر؛ ذلك المواطن الذي يلعب لصالح فريق كرة القدم الوطني، بينما ينحدر أحيانًا من أصل مختلف.

طبقًا لبحث أجراه «جيس فان كامبنهوت»، الأستاذ المساعد في الجغرافيا والشباب والتعليم في كلية علوم الأرض بجامعة أوتريخت الهولندية، فإن تمثيل البلدان في كأس العالم من قبل لاعبين من جنسية مختلفة ظاهرة تاريخية، وليست حديثة العهد. ومع ذلك، فإن عدد اللاعبين أصحاب الأصول المختلفة آخذة في الازدياد منذ عام 1930 وصولًا إلى 2022.

كمثال، في كأس العالم بروسيا 2018 ، لعب 82 من اللاعبين المشاركين في البطولة لصالح 21 بلدًا مختلفًا عن البلد الذي ولدوا به. بينما ارتفع هذا الرقم في كأس العالم بقطر 2022، ليصل إلى انضمام 137 لاعبًا لقوائم 28 منتخبًا لبلاد لم يولدوا داخلها.

وولدت الشريحة الأكبر من اللاعبين مزدوجي الجنسية داخل البلدان ذات الماضي الاستعماري مثل: فرنسا وإنجلترا وهولندا. والسبب بسيط؛ هو تاريخ الهجرة إلى هذه الدول.

بالنسبة لي، تقدم الفرق المشاركة في كأس العالم لمحة عن التنوع الديموغرافي للبلد، وفي الوقت نفسه عن موقف وسائل الإعلام والجمهور من تنوع الفريق. والتطورات في مجالات الهجرة والمواطنة. وهذا بالضبط ما يجعل الرياضة الدولية مناسبة جدًا لاستكشاف القومية والهوية الوطنية.
جيس فان كومبنهاوت.

كرة القدم تضبط نفسها

حتى مطلع الألفية الثالثة، كانت نظرية الماضي الاستعماري لبعض الدول كافية لشرح خريطة قوى كرة القدم الدولية، حيث تستحوذ الدول ذات التاريخ الأسود مع قهر الشعوب الضعيفة على مُعظم المواهب الممتازة، التي نشأت بداخلها، واستفادت من التقدُّم الهائل في شتى المجالات، ومن ضمنها كرة القدم دون شك.

حتى نضعك في الصورة، قبل عام 2004، كانت قواعد الاتحاد الدولي لكرة القدم تمنع اللاعبين أصحاب الجنسيات المزدوجة من تمثيل منتخب آخر، إذا ما قاموا بتمثيل أحد المنتخبات في مراحل الفئات السنية المختلفة. بالتالي، تكدسَّت المواهب في مناطق جغرافية محددة، بينما حُرمت الدول النامية من الاستفادة ببعض من هذه المواهب.

قادت الجزائر والمغرب حملة لتغيير قواعد الأهلية بالاتحاد الدولي، ومع حلول عام 2009، أصبح من الممكن للّاعب صاحب الجنسية المزدوجة، الذي أتم عامه الـ21 بالفعل، أن يبدِّل جنسيته، ويلعب لصالح المنتخب الذي يريد. بشرط ألا يكون قد مثَّل المنتخب الأول للبلد الآخر.

يرى «كارل أنكا»، محرر «ذي أثليتيك»، أن مثل هذا التوجُّه قد يعيد الاتزان لخريطة قوى كرة القدم الدولية في المستقبل؛ لأنّه يمنح الدول التي فقدت مواهبها لأسباب اجتماعية، سياسية أو اقتصادية الحق في استعادة أبنائها والاستفادة منهم، كما يمنح اللاعبين أنفسهُم فرصة جديدة في عرض مواهبهم بالساحة الدولية، حتى ولو عن طريق تمثيل منتخبٍ أضعف نسبيًا.

مقايضة

ما الأفضل لمستقبلي، أين سأحصل على مزيد من فرص اللعب؟
جمال موسيالا، لاعب بايرن ميونخ الألماني.
كلاعب كرة قدم، تفكر دائمًا في المكان الذي قد يمنحك الفرصة، لا توجد وفرة من المهاجمين في ألمانيا في الوقت الحالي، ومع أدائي الجيد هذا العام آمل أن أنضم لمنتخب ألمانيا الأول.
لوكاس نميتشا، لاعب مانشستر سيتي السابق

وفقًا لأحد موظفي الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم، لم يعُد قرار اللاعبين الشباب بتمثيل أي منتخب على حساب الآخر مرهونًا بأصل اللاعب أو انتمائه للبلد الذي نشأ فيه، بل يتحول الأمر أحيانًا إلى التفكير في مستقبله كلاعب كرة قدم؛ عبر البحث عن مكان يضمن له مسيرة دولية أفضل.

في الواقع، تتنافس الدول على اللاعبين بنفس الطريقة التي تتنافس بها الأندية على ضم لاعبيها. وسعيًا لاقناعهم، تم إنشاء أقسام قائمة بذاتها داخل كل اتحاد لإقامة اجتماعات مع أولياء الأمور، وتقديم العروض، وإنتاج تقارير كشفية تظهر جدية اهتمامهم، والتحدث عن برامج وبطولات الألعاب، إضافة لشرح كيف يمكن للاتحاد تحسين مسيرة اللاعب وأحيانًا -حين تقتضي الحاجة- يتدخّل المدير الفني للفريق الأول بنفسه لمحاولة إقناع اللاعب وذويه.

يبدو هذا منطقيًا، على عكس أوقات سابقة، كان تمثيل المنتخب الوطني فيها شرف لا يُضاهى، ظهر جيل من اللاعبين مزدوجي الجنسية قد لا يهتم كثيرًا بأصول أجداده من جهة، ولا يكترث بفضل البلد التي تربى بداخلها من جهة أخرى، بقدر اهتمامه بمسيرته الكروية، التي لا يُمكن أن تصبح متكاملة دون اللعب على المستوى الدولي.

وحتى تُدرك إلى أين وصلنا، روى اثنان من الشخصيات ذات الخبرة بكرة القدم لـ«ذي أثلتيك» قصصًا عن «المكافآت المشكوك فيها»؛ وهي ما عرّفها المصدران على أنّها مبالغ مالية أو ممتلكات عقارية أو قطع من الأراضي التي تمنحها الاتحادات للّاعبين الموهوبين مقابل إقناعهم بتمثيل منتخب ما.

أشرار وأبطال

ضمّت منتخبات مثل إنجلترا، فرنسا وألمانيا عبر تاريخها عشرات اللاعبين ذوي الأصول المختلفة، الذين عادة ما يتم اتهامهم بانعدام الروح والولاء بداهة عند الخسارة. وهنا يجب أن نطرح سؤالًا منطقيًا: في عصر الفردانية وتضاؤل قيمة مصطلحات مثل القومية والانتماء، هل يمكن لشاب مراهق أن يدين بالولاء لبلدين في نفس الوقت؟

لدي قلب لألمانيا وآخر لإنجلترا، استمعت للتو إلى الشعور الذي ظل يخبرني لفترة طويلة أنه كان القرار الصحيح للعب مع ألمانيا، الأرض التي ولدت فيها. ومع ذلك، لم يكن قرارًا سهلًا.
جمال موسيالا.

في تقرير بعنوان: «ماذا يعني أن تلعب لبلد أجدادك؟»، تطرَّق بعض اللاعبين الذين قرّروا أن يمثّلوا منتخبات بلاد لم يعيشوا بها إلى الأحاسيس التي انتابتهم أثناء تمثيل هذه البلاد في مختلف المحافل الدولية.

من بين 75 لاعبًا تحت سن 15 عامًا على رادارنا، هناك 55 مؤهلون لأكثر من بلد. لا يمكننا أن نكون متعجرفين بما فيه الكفاية لنفترض أنه إذا كان الطفل يعيش هنا، فإنه يريد تلقائيًا اللعب لإنجلترا. الناس لديهم روابط عاطفية مختلفة، في حين أن الدول الأصغر قد تكون قادرة على تقديم مسار مختلف.
دان أشوورث، مدير قسم التطوير السابق بالاتحاد الإنجليزي لكرة القدم.

تباينت مشاعر هؤلاء اللاعبين، حيث أكَّد البعض أن هذه التجربة مثالية لأنّها جعلته يختبر شعور أن يصبح لاعبًا دوليًا بعدما فقد الأمل في ذلك، في حين رأى آخرون أنّه شعُر بالانتماء لبلد أجداده بشكل أكبر، حتى وإن لم تطأها قدمه منذ ولد.

هنا يمكننا أن نصِل لإجابة، اختيار اللعب لمنتخب دون آخر مسألة معقدة، تحكمها عديد العوامل، بدءًا من الخلفية الثقافية والاجتماعية للّاعب، وصولًا إلى حقيقة كونه إنسانًا يسعى في النهاية إلى أن يحظى بمستقبل مهني أفضل. لذا، ربما لا يوجد أبطال وأشرار في مثل تلك القصص.

العالم تغيَّر، ما يبدو خيارًا بسيطًا لرجل في منتصف العمر بتمثيل إنجلترا، قد لا يكون كذلك لمراهق حريص على تكريم عائلته وبلده الأصلي. هذا ليس خطأ أحد، وليس مؤشرًا على ضعف الانتماء.
بارني روناي، صحفي جارديان البريطانية.

كأس العالم بين القومية و«الكارير»

يعتقد ديفيد ماكينزي، الخبير الاقتصادي في مجموعة أبحاث التنمية التابعة للبنك الدولي، أنّ مسألة الجنسية ليست كالزواج الكاثوليكي، الذي لا طلاق فيه، بل على العكس، يمكن للإنسان أن يدين بالولاء لبلدين، تمامًا كما يُحب الرجل أبناءه بشكلٍ متساوٍ.

لهذا، إذا ما قررنا أن نتجرَّد من الانحيازات قدر المستطاع، ربما نتوصَّل إلى حقيقة أن القومية التي سعى لها الحكام أمثال «الملك كارول الثاني» وغيره، لم تعد صالحة للاستخدام على أرض الواقع.

حاليًا، تخبرنا الإحصائيات أن مشاركة اللاعب في كأس العالم، أيًا ما كان المنتخب الذي يدافع عن ألوانه، تضمن له أن تتم مشاهدته من مئات الملايين حول العالم. لذلك، قد يطرُق اللاعب كل باب متاح لتحقيق هذا الهدف. سواءً كانت بتمثيل بلد استعمر وطنه الأصلي قبل عشرات السنين أو عن طريق النحت في الصخر مع بلده الأصلي الصغير الذي يبحث عن مشاركة أولى في المحفل العالمي الأهم على الإطلاق.