حتى عام 2014 وطوال تاريخ جوائز الأوسكار لم يفز أي مخرج مكسيكي بالجائزة التي تمنحها أكاديمية العلوم والفنون ويعتبرها الكثيرون أهم وأعرق الجوائز السينمائية على وجه الأرض. يبدو الأمر مغايرًا تمامًا اليوم ونحن في عام 2018، فأربع جوائز أوسكار من بين آخر خمسة في فئة أفضل مخرج قد ذهبوا لمخرجين مكسيكيين، ثلاثة مخرجين بالتحديد، ثلاثة أصدقاء ولدوا جميعًا في بداية الستينات وساعدوا بعضهم البعض حتى غيروا من وجه هوليوود.

يضاف للأربع جوائز في فئة الإخراج أربع جوائز أوسكار أخرى في فئات أفضل فيلم، وأفضل سيناريو، وأفضل مونتاج، لتصبح الحصيلة الإجمالية للأصدقاء المكسيكيين 8 جوائز أوسكار في آخر خمس سنوات.

اليوم نتحدث معكم عن قصة الصعود المذهلة للأصدقاء المكسيكيين الثلاثة: «أليخاندرو جونزاليس ايناريتو»، و«ألفونسو كوارون»، و«جييرمو ديل تورو». أو كما يطيب لمحبي السينما تسميتهم The Three Amigos.


كوارون: رجل الخيال، والعلم، والفلسفة

ولد ألفونسو لأب عالم في الفيزياء النووية، هكذا ومن البداية يمكننا الاستدلال على أصل شغفه الكبير بالخيال العلمي. درس الفتى الفلسفة إلى جانب صناعة السينما أثناء دراسته الجامعية في المكسيك، يظهر هذا الخليط بأكمله في رؤية كوارون للأفلام التي يصنعها.

إذا نظرنا لمسيرة كوارون الإخراجية سنجد فيها نقطتين لامعتين بشدة، فبعد الانطلاقة الأولى في المكسيك بأفلام من أبرزها «And Your Mother Too» في عام 2001، ثم رحلته السريعة في عالم هاري بوتر بفيلم «Harry Potter And The Prisoner of Azkaban» في عام 2004، سنجد أن النقطة البارزة الأولى لاسمه كمخرج على المستوى العالمي ظهرت في عام 2006 حينما صنع فيلم Children Of Men.

في هذا الفيلم الذي ينتمي لفئة الخيال العلمي الفلسفي نشاهد كوكب الأرض في المستقبل، حيث يتوقف البشر عن الإنجاب وتصبح المعجزة الوحيدة في استعادة أي سيدة لقدرتها على الحمل، ويظهر الحل من خلال فتاة من المهاجرين غير الشرعيين، هذه الفتاة الوحيدة والمطاردة هي الوحيدة القادرة على إنجاب أمل جديد للبشرية. ترشح كوارون للأوسكار عن هذا الفيلم في فئتي أفضل سيناريو وأفضل مونتاج.

النقطة المضيئة الثانية وبلا شك ستكون فيلم «Gravity» في عام 2013، الفيلم الذي ترشح لعشر جوائز أوسكار وفاز كوارون من خلاله بجائزتي الإخراج والمونتاج، ليصبح أول مكسيكي بل وأول أمريكي لاتيني يحصد جائزة الإخراج في تاريخ جوائز الأكاديمية.

ينتمي Gravity أيضًا لفئة الخيال العلمي الفلسفي، ولكن تدور أحداثه هذه المرة في الفضاء، وإلى جانب التفاصيل المبهرة عن عمل رواد الفضاء عالم ناسا، يمكننا اعتبار الفيلم كتأمل في حياة البشر على الأرض، وعواطفهم، وأولوياتهم، ووحدتهم.


ديل تورو: وحوش محببة في عوالم مضادة للسلطة

عاش جييرمو ديل تورو طفولته داخل أسرة كاثوليكية محافظة، يظهر هذا جليًا الآن في مشروعه السينمائي، الكثير من الرموز الدينية والحكايات الأسطورية ولكن في معالجة معاكسة أو مغايرة تمامًا لما تربى عليه في أسرته المحافظة.

حكايات ديل تورو يمكن أن تصنف في فئة الرعب إذا ما نظرنا إليها بشكل سطحي، ولكننا إذا ما دققنا النظر فسنجد أنه مقابل كل ما اعتادنا عليه في حكايات الرعب الأسطورية، يقول ديل تورو عن هذا أن هناك وجهين للرعب في هذه الحكايات، الأول هو رعب مؤيد للنسخة المحافظة التي تريدها الدولة والمجتمع والتي تخبرك ببساطة أنك يجب ألا تتجول في الأدغال وأنك يجب أن تطيع والديك. أما الوجه الآخر، فهو أناركي ومضاد للسلطة بشكل مكتمل. وهذا ما يفضله ديل تورو.

في عام 2006، وفي نفس عام نقطة كوارون المضيئة الأولى بفيلم Children Of Men، قدم ديل تورو نقطته المضيئة الأولى أيضًا على المستوى العالمي، وذلك من خلال فيلم «متاهة بان Pan’s Labyrinth»، والذي تدور أحداثه في أثناء فترة الحرب الأهلية الأسبانية تحت حكم فرانسيسكو فرانكو، حيث تظهر الوحوش ككائنات طيبة تساعد أبطال الفيلم فيما يأتي الرعب الحقيقي من سلطة مستبدة ودموية.

اقرأ أيضا:فيلم «The Shape Of Water»: وحوش ديل تورو بانتظار الأوسكار

كان الصديقان كوارون وايناريتو حاضرين في هذه اللحظة، فقد عمل كوارون كمنتج في هذا الفيلم، بينما ساعد ايناريتو صديقه ديل تورو في أعمال المونتاج. فاز فيلم «متاهة بان» في نهاية العام السينمائي بثلاث جوائز أوسكار في فئات التصوير السينمائي والأزياء والمكياج، ولكن لم يذهب أي منها لديل تورو. انتقل عقب ذلك ديل تورو لتقديم عدد من الأفلام الأمريكية التي تدور في نفس فلك تقديم وحوش في أدوار البطولة، أبرزها «Hell Boy»، و«Blade 2».

لكن النقطة المضيئة الثانية أتت أخيرًا في العام الماضي 2017 حينما قدم ديل تورو قصة حب غير اعتيادية لفتاة ووحش مائي في عصر الحرب الباردة، مرة أخرى وحوش محببة في عالم مضاد للسلطة، ليحصد ديل تورو في نهاية العام السينمائي جائزتي أفضل مخرج وأفضل فيلم.


إيناريتو: عدسة الواقع وروح الطبيعة

على عكس صديقيه كوارون وديل تورو فقد تميز أسلوب إيناريتو بالواقعية الشديدة، إيناريتو هو الابن الأصغر بين سبعة أطفال رزق بهم أبواه، عمل صغيرًا وسافر على متن سفن تجارية مكسيكية في أوروبا وأفريقيا، شاهد العالم ورأى ما فيه من حكايات ولهذا عادة ما تأثرت أفلامه بما عاشه في هذه الفترة.

بدأ إيناريتو مشروعه السينمائي بأفلام واقعية تتميز بأسلوب الفصول المتداخلة على مستوى السرد، تدور الأحداث مرة في المكسيك في فيلمه Amores Perros ومرة أخرى في أمريكا في فيلمه 21 Grams. لينضج أسلوبه بشده في فيلمه الثالث Babel الذي فاز عنه بجائزة أفضل مخرج من مهرجان كان في عام 2006. وليترشح في نهاية العام السينمائي لجائزة الأوسكار. ليصبح هذا العام نقطة إيناريتو المضيئة الأولى كما كان الأمر بالنسبة لصديقيه كوارون وديل تورو.

يقول كوارون عن هذا في حوار أجرى معه في نهاية عام 2016 لمجلة Hollywood Reporter أنه كان فخورًا للغاية بهذه الثلاثية التي صنعها ثلاثة أصدقاء مكسيكيين، ورغم اختلاف أجوائها فإنها تدور كلها عن قيمة واحدة وهي فقدان البشر لقدرتهم على التواصل مع بعضهم البعض.

انتقل ايناريتو بعد ذلك في عام 2014 لأرض جديدة، مستوحاة هذه المرة من أدب أمريكا اللاتينية، عالم الواقعية السحرية، خليط بين الواقع الخيال، كل هذا في قالب كوميدي ساخر وبتكنيك إخراجي يتميز بقطعات طويلة توحي للمشاهد وكأنه يشاهد الأحداث بشكل واقعي مستمر دون مونتاج. هكذا صنع إيناريتو فيلمه Birdman وفي نهاية العام فاز بثلاث جوائز أوسكار دفعة واحدة، في فئات الكتابة، وأفضل فيلم، وأفضل مخرج.

عاد إيناريتو في العام التالي بفيلم The Revenant عن قصة رجل عائد من الموت في زمن اجتياح الرجل الأبيض للأمريكتين، عاد إيناريتو في هذا الفيلم لإخلاصه الشديد للواقع، ليستخدم برفقة مدير التصوير المكسيكي الموهوب «إيمانويل لوبزكي» الضوء الطبيعي في تصوير كافة أحداث الفيلم، في أماكن طبيعية وأجواء طبيعية للغاية، حتى لو دفعه هذا لتصوير بعض أحداث الفيلم في نصف الكرة الشمالي وبعضها الآخر في نصف الكرة الجنوبي بحثًا عن الجليد مع اختلاف فصول السنة. وفي نهاية العام حصد إيناريتو جائزة الأوسكار في فئة أفضل مخرج للمرة الثانية على التوالي.


من أين أتى المكسيكيون؟

المثير للتأمل في رحلة صعود هذا الثلاثي أنهم لم يكونوا جزءًا من أي حركة اجتماعية أو سياسية، لم يكونوا متظاهرين ضد سطوة الدولة المحافظة كما كان الأمر مع جودار، وتروفو في فرنسا في نهاية الستينات، ولم يكونوا ثائرين ضد نظام أستوديوهات هوليوود كما كان سبيلبيرج، وكوبولا، وجورج لوكاس في أمريكا في السبعينات، لا يمتلكون أسلوبًا مشتركًا كما كان الأمر مع مخرجي الواقعية الجديدة في إيطاليا، ولا يحيون في ظروف متشابهة كما هو الأمر مع مخرجي السينما الإيرانية في أعقاب الثورة الإسلامية.

هذا الثلاثي ما هو إلا ثلاث طفرات على المستوى الفني والفكري والثقافي تصادف ظهورهم في زمن واحد في بلد واحد، وفي مجموعة أصدقاء واحدة، هذا هو الأمر المذهل بحق في هذه الحكاية، هل تتخيل أن يظهر ثلاث عباقرة في مجموعة أصدقاء واحدة ليحصدوا 4 من أصل خمس جوائز أوسكار في فئة أفضل مخرج في أخر 5 سنوات؟!

هذا ما حدث، وهذا ما سنرى بقيته في المستقبل، مع أصدقاء السينما الثلاثة، الفونسو كوارون، جواليرمو ديل تورو، واليخاندروا جونزاليس اليناريتو.