عقب تفكك الاتحاد السوفييتي في 26 ديسمبر/كانون الأول 1991م، أعلنت دول آسيا الوسطى استقلالها، وكانت في أعقاب الاستقلال في أمسّ الحاجة لإعادة الإعمار والبناء. ولأن تركيا تعتبرها امتدادًا تاريخيًا لحضارتها وثقافتها وقوميتها، فبحثت كافة السبل التي تقوي الروابط الثنائية مع هذه الدول المستقلة حديثًا. وباعتبار أن الحرب الباردة خلّفت نظامًا ناعمًا للتحالفات بعيدًا إلى حدٍ كبير عن العسكرة، كان لزامًا على تركيا أن تُوجِد لها يدًا ناعمة تلاطف بها هذه الدول، فكانت نشأة وكالة التنسيق والتعاون التركية «تيكا» في 24 يناير/ كانون الثاني لعام 1992م.

وكان الهدف الموكل إليها إبان تدشينها، مساعدة الدول التركية في آسيا الوسطى، لتنهض بنفسها وشعبها؛ وبالتالي جعلها أقرب لتركيا من أي دولة أخرى. وظلت بؤرة عمل الوكالة متمركزة في آسيا الوسطى حتى مجيء حكومة العدالة والتنمية عام 2002م؛ لتتوسع رقعة انتشارها وتشمل كافة المناطق محل اهتمام الحكومة التركية كالشرق الأوسط وأفريقيا والبلقان وجنوب القوقاز.


ما الذي تقدمه «تيكا»؟

كانت الأولوية إبان تأسيس الوكالة، هي العمل على تنظيم الجهود التركية المقدمة لدول آسيا الوسطى الناشئة، وذلك من خلال دعم ترميم هذه الدول لبنيتها الاجتماعية، وإتمام النقص في أمور البنية التحتية الفنية. فتركّزت المساعدات في شؤون الصحة والتعليم والزراعة والسياحة، وأنشأت المؤسسة مكتبها الأول بتركمانستان وتبعته خمسة مكاتب أخرى، ليكون إجمالي مكاتب المؤسسة في آسيا الوسطى (6) مكاتب.

اتساع نشاط الوكالة لا يفسر إلا في إطار توسع دائرة النفوذ والتأثير التركي إقليميًا ودوليًا

هذا الدور التنموي ما لبث أن تحددت ملامحه بشكل أدق في عام 1995م، إذ أولت الوكالة اهتمامًا كبيرًا بالتنمية الثقافية والاجتماعية والتعليمية، وأنشأت في هذا الإطار عشرات المدارس والجامعات، في محاولة تركية للتأثير في الطابع الثقافي لهذه البلدان، والمنفصلة حديثًا عن الاتحاد السوفييتي.عامًا بعد عام تنامى الدور الذي تلعبه «تيكا»، كأحد أدوات الساسة في أنقرة، بشكل مطرد؛ فمن «اثني عشر» مكتبًا هو عدد مكاتب المنظمة في عام 2002م، وهو العام الذي تقلدت فيه حكومة العدالة والتنمية زمام الأمور، إلى «25» في 2011م، ثم إلى «33» في 2012م، إلى «39» العام الماضي 2015م، موزعةً بين «38» دولة، وهي اليوم تمتلك «54» مكتبًا ينظمون فعالياتهم في «140» دولة. هذا التزايد الملحوظ في عدد مكاتب الوكالة بالإضافة إلى تنوع نشاطاتها؛ من المستشفيات والخدمات الصحية إلى رعاية الفقراء و الأيتام، ومن المدارس والجامعات إلى معاهد تعليم اللغة التركية، ومن مشاريع البنية التحتية إلى ترميم المساجد والآثار العثمانية والإسلامية، يُعد إشارةً واضحة لاتساع رقعة العمل وشمولية الدور السياسي والتعاوني الذي تمثله المنظمة في السياسة الخارجية التركية الآخذة في التوسع والانتشار؛ ضمن مساعيها للعب دور إقليمي ودولي يتسق مع تاريخها العريق.


القفاز الناعم في مواجهة الدب الروسي

http://gty.im/537673624

في أعقاب التفكك السوفييتي شهدت منطقة جنوب القوقاز حالة من السيولة، وكان لزامًا على الدول الفاعلة إقليميًا ودوليًا أن تعيد تموضعها على الخريطة هناك، وكانت تركيا أحد أهم هذه الدول الفاعلة.ورغم أن الدور الذي كان محددًا لتركيا في عالم ما بعد السوفييت، هو أن تكون مجرد منطقة عازلة في وجه روسيا الجديدة للحد من تدخلاتها غربًا، إلا أن هذا الدور لم يرق للساسة الأتراك فتعدّوه إلى ما هو أبعد منه، متسلحين بتجربتهم الديموقراطية الناشئة كنموذج جدير بالاتباع للدول المستقلة حديثًا من جراء التفكك السوفييتي 1991م.قدمت تركيا الحديثة نفسها لدول جنوب القوقاز، خاصة جورجيا وأذربيجان، كتجربة ديموقراطية ليبرالية جديرة بالاتباع، تُولي اهتمامًا لمصطلحات التعاون الاقتصادي والتكامل الإقليمي والاستقرار والسيادة. وكانت تركيا تبحث في حقيقة الأمر عن أسواق جديدة لمنتجاتها خلاف الأسواق الغربية، وكان يلزمها لذلك علاقات إقليمية ودولية جيدة بعيدة عن الصراعات المفتوحة واللا حوار.ومرة أخرى كانت وكالة التنسيق والتعاون التركية «تيكا» حاضرةً في المشهد. تقربت تركيا لدول جنوب القوقاز ابتداءً بتقديم المساعدات والمنح. فعلى سبيل المثال، خصصت الوكالة نسبة 44.4% من إجمالي المساعدات التي تقدمها لدول القوقاز ودول الشرق الأوسط، هذه المساعدات كانت في مجالات البنى التحتية والتعليم والصحة. وبهذا قويَ التحالف التركي الأذربيجاني -إذ أولت تركيا اهتمامًا كبيرًا بأذربيجان الثرية بالموارد الطبيعية والتي ينتمي سكانها للعرقية التركية-، وبدرجة قريبة قويت العلاقات التركية الجورجية. وكان الدخول الأول للوكالة للداخل الجورجي في أغسطس/آب من العام الماضي 2015م، بزيارة لرئيس الوكالة سردار تشام وقّع خلالها عدة اتفاقيات كان أهمها إنشاء مدرسة، ودعم البنى التحتية للقرى التي تقطنها الأقليات التركية، إلا أن الطريق لأرمينيا ثالث بلدان جنوب القوقاز لا يزال مغلقًا؛ لاعتبارات كثيرة تاريخية وجيوسياسية، ولا يوجد للوكالة أية مكاتب هناك. وعطفًا على ذلك تحركت مجموعات رجال الأعمال التركية لترسيخ أقدامها في هذه الأسواق الجديدة وتحولت تركيا من دولة تمثل مجرد معبر بين الشرق والغرب، كما أُريدَ لها أن تكون، إلى دولة مركزية تؤسس لمنطقة تجارة حرة أوروآسيوية تمتد بين البحر الأسود وبحر قزوين والبحر الأبيض المتوسط.لمعرفة المزيد: الصراع الروسي-التركي على حلبة القوقاز؛ من يفوز؟


صوت أفريقيا وقلبها

خصصت الوكالة لدول القوقاز والشرق الأوسط نسبة 44.4% من إجمالي المساعدات التي تقدمها سنويًا.
نسعى لأن نكون صوت أفريقيا في المحافل الدولية.

الرئيس التركي أردوغان، خلال كلمته في منتدى الأعمال التركي-الكيني مطلع يونيو/حزيران 2016

العلاقات التركية الأفريقية بدأت بتدشين الجانب التركي لما عُرف بـ«خطة الانفتاح على أفريقيا» عام 1998م، وتكرّست بوصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في 2002م، بإعلان تركيا إعدادها لإستراتيجية لتطوير علاقاتها بأفريقيا عام 2003م، ثم إعلان عام 2005م عامًا لأفريقيا، الأمر الذي تتوج بانضمام تركيا كعضو مراقب للاتحاد الأفريقي، وإقامة القمة الأولى للتعاون الأفريقي التركي عام 2008م، والثانية عام 2014م، ومن المنتظر أن تُعقد الثالثة عام 2019م.

تتميز علاقات تركيا مع أفريقيا عن غيرها من الدول الكبرى، بتركيز تركيا على فكرة التعاون المشترك المبنية على الأخذ والعطاء، والتنمية والاستفادة المتبادلة.

هذا التقارب الملحوظ، والذي تدعمه زيارات المسئولين الأتراك المتكررة إلى أفريقيا، يؤكد كيف باتت تمثل المصالح التركية في أفريقيا على خريطة السياسات التركية، فعين الزعيم التركي شاخصةً إلى أفريقيا في إطار عمله على رفع مستوى الانفتاح التركي وزيادة ثقلها بالمنطقة والعالم. وفي هذا الإطار أيضًا رفعت تركيا عدد سفاراتها في أفريقيا خلال السنوات العشر الماضية من 12 إلى 39 سفارة، من أصل 54 دولة أفريقية.ويعلق الرئيس أردوغان على زيادة الدبلومسيات التركية في أفريقيا بقوله: «هذا الأمر يُظهر الأهمية التي توليها تركيا للدول الأفريقية … إن العلاقات بين أفريقيا وتركيا مبنية على الشراكة المتكافئة والاحترام المتبادل، وستتطور وستتعزز يومًا بعد يوم»، وهنا يشير أردوغان إلى نقطة تتميز بها العلاقات التركية في أفريقيا عن غيرها من الدول، وهو أن تركيا تولي اهتمامًا لفكرة التعاون المشترك، المبنية على الأخذ والعطاء، والتنمية والاستفادة المتبادلة، فمثلًا مع ارتفاع معدل الصادرات التركية إلى أفريقيا من 2.1 مليار دولار لعام 2003م إلى 13.3 مليار دولار لعام 2012م، هناك أيضًا ارتفاع مقابل في الواردات التركية من أفريقيا، من 3.3 مليار لعام 2003م إلى 9.6 مليار دولار لعام 2012م؛ ما يجعل لدى الشركاء الأفارقة شعورًا بالندية والمنفعة المتبادلة من جراء علاقاتهم بتركيا. ناهيك عن أن تركيا ليس لديها ماض استعماري في أفريقيا كالذي لدى دول أوروبا، بل ربما تداعب ذكريات الدولة الإسلامية الكبرى التي حمت السواحل الأفريقية قرونا من هجمات المحتلين الأوروبيين خيال الأفارقة الوطنيين.

نأتي إلى دور وكالة التنسيق والتطوير التركية في هذا الميدان. افتتحت «تيكا» مكتبها الأول في أفريقيا، في العاصمة الأثيوبية آديس أبابا، عام 2005م، تبعه مكتب ثان في الخرطوم عام 2006م، وثالث في داكار عاصمة السنغال عام 2007م، ولها إلى اليوم مشاريع تنموية في 37 دولة أفريقية من أصل 54. هذا وقد بلغ حجم المساعدات التركية لأفريقيا في عام 2013م قرابة 781 مليون دولار؛ أي قرابة ربع ما قدمته تركيا من إجمالي المساعدات لهذا العام. وتتركز مساهمات الوكالة في أفريقيا على دعم الفقراء والمنكوبين، وفي مجالات الصحة والأعمال الخيرية.

وتجدر الإشارة في إطار تعريفنا بالدور الذي تود تركيا لعبه في العمق الأفريقي الفارغ سياسيًا، أن الرئيس غير الأفريقي الوحيد الذي زار الصومال كان هو الزعيم التركي؛ إذ جرت العادة أنْ يقضي المسئولون الغربيون اجتماعاتهم في مطار مقديشو دون دخول البلاد مخافة الحرب الأهلية الدائرة هناك.

المراجع
  1. تركيا والعمق الاستراتيجي بأفريقيا.. 10 سنوات من الانفتاح السياسي والاقتصادي
  2. المنصة الإلكترونية للوكالة
  3. تركيا وأفريقيا.. علاقات اقتصادية واعدة