بعد عامين من الخمول التجاري وبالتالي السينمائي أعطى الفرصة للأعمال الصغيرة أن تظهر وتزدهر، عادت للسينما وبخاصة الهوليوودية الجرأة لإصدار الإنتاجات الضخمة مجدداً، أخرج جيمس كاميرون أفاتاره الجديد للحياة أخيراً بعد 12 عاماً وهو واحد من أكثر الأفلام تكلفة وضخامة في التاريخ، وصدر جزء ثان من فيلم توب جان Top Gun بعنوان مافريك Top Gun: Maverick بعد أكثر من 36 عاماً على صدور الأول، يتميز أفاتار بالميزانية الخيالية المنفقة على المؤثرات البصرية الباذخة، فالفيلم كله تقريباً تم خلقه من أصغر نبتة إلى أكبر تنين خيالي، أما توب جان مافريك فوراؤه ميزانية ضخمة نسبياً بسبب عكسي تماماً وهو استخدام طائرات حقيقية ومؤثرات بصرية عملية وتصوير على خام فيلم، كذلك أعادت الشركة الأكبر والأكثر خلافية مارفل إنتاجاتها بالوتيرة السابقة فصدر الجزء المنتظر والمؤجل من الفهد الأسود Black Panther: Wakanda Forever، أثبت توب جان مافريك أن الجمهور السينمائي لم يزل حياً بتحقيقه إيرادات كبيرة وغير متوقعة وعرضه لفترة أطول نسبياً من المتوسط الذي ينتقل به الأفلام من الشاشة الكبيرة إلى الصغيرة تلك الأيام، وافتتح أفاتار بفضول كبير من رواد السينما لرؤية التكنولوجيا الجديدة.

لكن تلك القائمة ليست مخصصة للإنتاجات الضخمة مضمونة النجاح المادي ولا السلاسل الفيلمية المعتمدة على الرصيد النوستالجي لاجتذاب المشاهدات، بل هي قائمة للأعمال الأصغر حجماً وأقل تكلفة، تلك الإنتاجات المعروضة في بعض المهرجانات ودور العرض بشكل محدود، التي غالباً ما تمت صناعتها خارج مؤسسة هوليوود ومركزية أمريكا، منها من انتهج أساليب إنتاجية وسردية بديلة ومنها أفلام لمخرجين راسخين وحاصلين على جوائز كبرى لكن طبيعة الأفلام ليست ضخمة واستعراضية أو ذات قيمة ترفيهية بالشكل التقليدي بل هي أفلام ذات مقياس صغير تسرد قصصاً شخصية وحميمية دون حاجة لإنقاذ العالم، تربط بينها سرديات النضوج في عوالم قاسية أو استدعاءات سياسية لبقايا الاستعمار في العالم المعاصر، عرضت بعضاً من تلك الأفلام في فعاليات سينمائية مصرية مثل مهرجان القاهرة وبانوراما الفيلم الأوروبي وبعضها أصبح متاحاً للمشاهدة المنزلية بحسب الطلب أو على المنصات المدفوعة.

النضوج كذكرى في طور الحدوث

1. Alcarras

عرض «الكاراس» في مهرجان برلين السينمائي لعام 2022 وفاز بجائزة الدب الذهبي، وتم عرضه ضمن مهرجان القاهرة السينمائي، لم يكن فوز «الكاراس» بالدب الذهبي خياراً متوقعاً أو سهلاً بل قوبل ببعض الاستنكار فالفيلم ليس تطهيرياً أو مؤثراً بالشكل التقليدي، ليس من إخراج أحد الأسماء الكبيرة ولا يحكي حكاية جديدة أو متميزة، أخرجت الفيلم كارلا سيمون من واقع تجربتها الشخصية في بلدة كتالانية صغيرة تدعى الكاراس وقام ببطولة الفيلم مجموعة من سكان البلدة الأصليين، مزارعين في مزرعة للخوخ على وشك فقدان ملكيتها، قصة تم حكيها حتى الموت ربما تستدعي حتى فيلم الأرض، لكن القيمة البديلة في طبيعة الحكي والطابع الذي يتجنب الذروة العاطفية والقصصية هو ما جعل الفيلم جوهرة صغيرة هادئة وسط عام صاخب، كما أن اختيار فريق عمل من غير المحترفين أضفى على الفيلم صدقاً ودفئاً نادرين تفتقده كثير من الأفلام التي تدع ممثلين يقومون بأدوار ليست من طبقتهم ويربتون على ظهورهم شاعرين أنهم عبروا عن طبقات مهمشة.

في «الكاراس» لا يتم استغلال معاناة هذه الأسرة الصغيرة المنسية، لا أحداث ضخمة ولا دراما كبرى فقط يوميات بسيطة لأفراد على وشك خسارة الحياة التي لم يعرفوا غيرها، أفراد يعملون بأيديهم يومياً لإيصال الثمار للمدن الخارجية دون مقابل عادل، يضعنا الكاراس في أجواء تكاد تكون مطمئنة وجميلة على الرغم من الغليان الداخلي الذي يغلف المكان، الأطفال يعتبرون المزرعة جنة خاصة، والكبار يجاهدون ألا ينهاروا في أي لحظة، تبدو لحظات جمع الثمار طبيعية وأبدية على الرغم من كونها عابرة ومنتهية بشكل حتمي، يصور الفيلم الجمال المكاني للأشجار التي توشك على الاختفاء ، وانعكاس الشمس بين الوريقات، الإفطارات العائلية في الخارج والأغنيات المشتركة التي تجعل الأوقات الصعبة تمضي، تدمج سيمون النقد الاجتماعي والسياسي بقصة عن النضوج، نضوج المراهقين والأطفال وحتى الكبار الذين يواجهون بتغيير مفاجئ، يجعل «الكاراس» من قصة بالغة الشخصية والخصوصية مصغر للحياة بشكل عام، لفقدان المعنى والإنكار حتى وقوع الكارثة.

2. Close

حاز لوكاس دونت على كاميرا كان الذهبية عن فيلمه الأول فتاة Girl 2018، قوبل ذلك الفيلم بآراء متناقضة وخلافات وسط جمهور المهرجان والمهرجانات الأخرى التي عرض فيها، فعلى الرغم من النوايا الطيبة التي صنع بها دونت فيلمه فإنه كان فيلماً خالياً من الحساسية تجاه بطلته، على الرغم من تصوره أنه متفهم لمعاناتها، فيلم متطفل وقاس في نظرته للمأساة وفي طبيعة العيش في جسد تشعر أنه ليس جسدك، ربما كان السبب هو ابتعاد تجربة دونت الشخصية عن تجربة شخصية عابرة جنسياً، لكن في فيلمه الجديد «متقاربان» صرح دونت بأن القصة كانت قريبة منه وأنها مبنية على تجربة شخصية، حتى دون ذلك التصريح عندما تشاهد «متقاربان» سوف تشعر بذلك على الفور، كل الحساسية المفقودة من فتاة موجودة في «متقاربان»، فيلم تخفي كل لقطة به تفهماً وتعاطفاً لا نهائياً جعله تجربة مؤثرة لمعظم من شاهده حتى وإن لم يختبروا أحداثه قط.

فاز «متقاربان» بجائزة لجنة التحكيم الكبرى في كان وعرض في مصر عرضان امتلأت قاعتهما في مهرجان القاهرة السينمائي ثم في بانوراما الفيلم الأوروبي ، يحكي «متقاربان» حكاية بسيطة، ولدان في سن حرجة قبل المراهقة متقاربان للغاية، أصدقاء لا يمكن التفريق بينهما إذا حضر ليو وجد ريمي، علاقة ليو وريمي ليست علاقة صديقين ذكرين تقليدية فهما متقاربان نفسياً وجسدياً، يخففان عن بعضهما باللمسات الرقيقة، وينامان في سرير واحد، يحكي ليو لريمي قصصاً مطمئنة حتى يناما ويستيقظا وهما محتضنان، يثير تقاربهما فضول زملائهما في المدرسة بمعرفة ما إذا كانا على علاقة أم لا، يستنكر ليو الاتهام لأنه لم يفكر فيه قط، يستنكره ريمي كذلك لكنه لا يعتبره إهانة له ولا ينوي تغيير تعبيره عن القرب بسبب كلمة عابرة، أما ليو فيشعر بتهديد ما، بأن جنة الطفولة والبراءة الساذجة على وشك الانهيار وأن تعبيره عن ذكورته بشكل مقبول أصبح واجباً يجب عليه القيام به لكي يثبت لنفسه وللآخرين أنه ليس مختلفاً بأي شكل.

يتبع ذلك الخوف الجديد ابتعاد نسبي بين الصديقين لا يحتمله ريمي لحساسيته الشديدة واعتبار ليو امتداداً حتمياً له، يصور دونت تقارب ليو وريمي وانفصالهما دون مشاهد جرافيكية صعبة أو استدرار للمأساة، يعتمد بشكل رئيسي على الحركة والسكون وتلامس الأجساد في ضوء الشمس، لمحات بسيطة مثل التسابق في الحقول أو قطف الزهور تعرفنا على الولدين، عن رقتهما ونظرتهما البسيطة للقرب وللعالم، ولمحات أخرى من العنف الجسدي وتغيير في طاقة الكاميرا من الحركة الناعمة الأشبه بالأمواج إلى الحركة المضطربة غير المستقرة يعرفنا بقرب انهيار تلك البراءة البدائية، يتعامل متقاربان مع عديد من التيمات المتعلقة بالنضوج والهوية والرثاء والصدمة، وكيف أن أهم الأشياء ربما تكون أكثرها هشاشة وكيف تشكل لحظات قليلة في المراهقة ما نحن عليه إلى الأبد.

3. Beautiful Beings

تتسم معظم أفلام تلك القائمة بنزعة نحو التمهل والهدوء، لكن فيلم كائنات جميلة لجودومندر ارنار جودمندسون المعروض في بانوراما الفيلم الأوروبي ينضم إليهم مظهرياً لكنه فيلم نضوج عنيف، يمثل الذكورة الفتية بأكثر أشكالها تطرفاً، وفي الوقت نفسه في أكثر أشكالها حميمية وانفتاحاً، يسرد كائنات جميلة قصة متعددة الأصوات والشخصيات، قصة نضوج يسهل أن تكون تقليدية لأولاد في سن المدرسة الإعدادية يختبرون الفقر والإيذاء المنزلي والأسري، التنمر وممارسة العنف، البحث عن الذات والعيش كرجال مستقبليين، في كائنات جميلة لا يوجد خلاص من المصائر المأساوية ولا يتعلم أحد دروسه، ليست هناك ثنائية المتنمر والمتنمر عليه بل يقع الجميع في دوائر متشابكة يصعب تفكيكها، يبدأ الفيلم من وجهة نظر بالي الذي يتعرض لضربة قاتلة في الوجه تصيبه في عينه وعظم أنفه، بالي ولد خجول مثل أي شاب في الدور نفسه في أي فيلم نضوج.

بعد فترة ينضم بالي إلى مجموعة من الأصدقاء على الجانب الآخر، أكثر منه قوة وسطوة وقادرين على ممارسة العنف وفرض والسيطرة، لكنهم بشكل ما يصبحون أصدقاءه الوحيدين ثم تتحول وجهة النظر السردية إلى آدي ذي الأب الغائب والأم التي تصدق في السحر، كل ولد فيهم لديه مأساته الأسرية الخاصة، وكل منهم يستجيب إلى تلك الحياة بطابع ما من ممارسة العنف، تبدو من تلك الأوصاف أنه لا مساحة للرقة في كائنات جميلة أنه لا توجد كائنات يمكن وصفها بالجمال لكن بشكل سحري يستطيع جودمندسون أن يمرر لحظات من حميمية موجعة بين الأولاد وبعضهم، مشهد لأحدهم يغمر شعر الآخر بالمياه ويعلمه كيف يهتم بنظافته أو مشهد لآخر يحتضن صديقه وقت غروب الشمس، لا يعترف الفيلم بالشر في تلك المرحلة العمرية حتى ولو كان شراً يصل إلى حد ارتكاب الجرائم بل يعامل عناصره باعتبارهم ملائكة ساقطين إلى الجحيم من دون ملاذ للهروب.

4. Aftersun

فيلم «بعد الشمس» ليس فيلماً مغموراً وسط أفلام العام بل من أكثرها نجاحاً وشهرة لكنه ذو مقياس صغير وعدسة حميمية للحياة والعلاقات تجعله مناسباً لتلك القائمة، عرض الفيلم لصالة كاملة العدد في بانوراما الفيلم الأوروبي، بعد الشمس هو أول أفلام المخرجة الاسكتلندية شارلوت ويلز، تدور أحداثه كلها في عطلة صيفية خاملة في أحد المنتجعات التركية مستوحاة من ذكرى خاصة بها، «بعد الشمس» فيلم متمهل ليس به شيء على المحك، يتصور الطفولة والنضوج كذكريات أبدية لكنها عابرة، يأخذ وقته وليس في عجلة للذهاب لأي مكان، لا يهتم باستحضار الأسباب أو إجابة الاسئلة لكن يهتم بشكل رئيسي باستحضار شعور غائم، بشمس الصيف التركي وآخر مرة أمضت فتاة في الحادية عشرة وقتاً مع أبيها المضطرب.

ترسم ويلز علاقة الأبوة برقة نادرة، يتعامل الأب وابنته مع خلافاتهما بهدوء وتفهم وكأنهما في العمر نفسه، يختلفان ويتصالحان بالممارسات الرقيقة مثل توزيع واقي الشمس وإزالة آثاره في آخر اليوم، لا يذهب الفيلم لأبعد من ذلك في تصوير قصته التي نعلم جيداً أنها مأساوية بل يأخذ وقته في بناء لقطات من شريط ذاكرة حرفي ومجازي فهنالك استخدام واسع لكاميرات الـ8 مللي المنتشرة في الثمانينيات وبجانبها لمحات من ذكريات مقتطعة، يصبح الفيلم تمريناً في التذكر وأهميته، فيما يبقى للفرد بعد الفقد بأنواعه، في استحالة فهم الآخر إلا عن طريق الاسترجاع والنظر بتمهل لكل لحظة، بعد الشمس هو أحد أكثر أفلام السنة ضآلة فيما يسرده، لا سياقات اجتماعية أو سياسية، لا أحداث كبرى ولا نبضات درامية واضحة، فقط ذلك الشعور الغامض بالرغبة في أن تقابل من تحب وأنت في نفس عمره لتتفهمه وربما تكون بجانبه عندما أحتاجك أكثر من أي وقت.

5. Something You Said Last Night 

اعتادت السينما والتلفزيون مؤخراً منذ انتشار سرد قصص أفراد لا ينتمون إلى التقسيمات الجندرية الصارمة، العابرين جنسياً أو هؤلاء الذين لم يزالوا في طور العبور من عدسة المعاناة والمأساة الشخصية، التعرض للإيذاء الجسدي والجنسي والمعنوي، عادة ما تكون تلك القصص إثارية لا تخلو من واقعية لكنها لا تخلو من استغلال وتطفل على الأجسام المكتشفة حديثاً، في فيلمها الأول شيء قلته البارحة المعروض بشكل محدود ضمن أحداث مهرجان القاهرة السينمائي تتجاهل المخرجة لويس دو فيلبيس كل تلك السمات المعاد استخدامها، تختار أن تجعل أكبر مشاكل بطلتها رين (كارمين مادونيا) هو قلق أمها الشديد عليها أو غيرتها من أختها، مشاكل يتعرض لها الجميع.

 تجعل دو فيليبيس رين شخصاً مثل أي شخص دون تطفل أو استغلال للمعاناة، يمضي الفيلم وقته في إجازة صيفية رائقة ربما يكون أكثر أفلام القائمة هدوءاً وطمأنينة حيث لا يوجد شيء على المحك، تمضي الأسرة وقتها في شرب القهوة الايطالية وأكل الخوخ الطازج والطفو فوق مياه حمامات السباحة الزرقاء، تستكشف رين ذاتها وانجذابها إلى بعض الأفراد التي قابلتهم بشكل عابر خلال الإجازة، تستكشف علاقتها بأختها، بأبيها وأمها، بالطبيعة من حولها، يصور الفيلم لحظات دقيقة ورقيقة بين الأختين تجسد قربهما الجسدي المكتشف حديثاً، ويصور أسرة مرحة وضاغطة مثل أي أسرة أخرى لها لحظاتها الدرامية ولحظاتها الخفيفة، تطمح رين لأن تصبح كاتبة، وتم رفدها مؤخراً من وظيفتها الثابتة مما أحكم الضغط عليها من الأسرة لكي تقود حياة أكثر تقيلدية، لكن الفيلم لا يستكشف تلك الأبعاد بل يركز فقط على لحظة معينة في الزمن، الأسرة هنا في المنزل الصيفي في إجازة وجيزة سوف يبدأ بعدها العالم الحقيقي في العودة.

تراتبيات العالم التي لم تتغير قط 

6. The Dam

فيلم «السد» هو الفيلم الروائي الطويل الأول لمخرجه علي شري، شري هو فنان بصري لبناني مهتم بشكل خاص بالجغرافيا أو ما يسميه هو جغرافيا العنف، صنع شري فيلمه السد في السودان وأثناء تصويره قامت احتجاجات ثائرة على الأوضاع، تماهى معها شري ودمجها داخل فيلمه جاعلاً منها خلفية تغلف الأحداث الغرائبية وصوتاً خلفياً في فيلم تندر به الكلمات، يحكى الفيلم كله من أعين ماهر عامل البناء الذي يعمل في سد سوداني يمثل خطراً بيئياً، ماهر هو اسم الممثل الذي يلعب الدور وعامل بناء هي وظيفته الرئيسية، يصور شري بهدوء وروتينية أعمال رفع ورص الطوب والطين يومياً بأيدي العمال، تتحرك أيديهم بشكل إيقاعي ومتكرر مثل ماكينات صغيرة، يصنع هؤلاء أشياء ليست ملكهم على أرض شهدت عنفاً أصبح متأصلاً داخلها.

يذهب ماهر ليلاً إلى بقعة مهجورة، يبني بناء خاصاً به، وحدة ضخمة تبدو كوحش من الطين، يهتم بها ماهر يومياً يضيف إليها ويحذف منها، يعتبرها صديقاً، يصعب تحديد المجازات التي يتبناها شري من قصته لكن السد تجربة بصرية في الأساس وتضم تلك البصريات أعين ماهر النابضة بحياة طبيعية، يصور شري وجه ماهر الذي يتصرف على طبيعته يبتسم ويبكي ويغضب دون توجيه حقيقي أو خبرة تمثيلية مزيفة، ويجعله جزءاً من جغرافيا قاحلة ومستبدة، يعطي «السد» فرصة لسينما نادراً ما يسكنها الشعر أن تكون شعرية، لا يطغى عليها سمات المعاناة أو استغلال الفقر و استدرار التعاطف من المناطق الأكثر حظاً، عرض الفيلم لأول مرة في مهرجان كان ثم سافر إلى القاهرة ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائي حيث حاز ماهر الخير على جائزة أفضل ممثل بالمناصفة، وربما يكون وجود تمثيل حقيقي لشخصية ما على مسرح مهرجان دولي من أكثر لحظات تلك الدورة من المهرجان خفة وجمالاً.

7. Pacifiction

تندر رؤية قصص عن الكولونيالية/ الاستعمار في السينما التجارية وبخاصة الأمريكية بالطبع، يمثل الاستعمار موضوعاً شائكاً فعلى الرغم من كونه منتهياً ظاهرياً فإن العالم يختبره بشكل يومي سواء حرفياً أو مجازياً، في فيلمه الاخير «وهم التهدئة» وهو تلاعب لفظي من كلمة تهدئة التي تشير لإحداث السلام في منطقة نزاع، يتناول المخرج الكتالاني البيرت سيرا موضوع الاستعمار بشكل غير إثاري لا تجارياً، يختار سينما بطيئة مضنية تختبر صبر المشاهد لكي يضعه في حالة أشبه بالتنويم، تقع أحداث الفيلم على جزيرة تاهيتية ساحرة، يلتقط جمالها المصور أرتر تورت بفيلم «35 مللي» يظهر ألوان الغروب وخضار الأوراق الاستوائية وجمال السكان المحليين، نرى القصة من وجهة نظر مبعوث فرنسا داخل تاهيتي، وتدور أحداث الفيلم الذي تصل مدته إلى ثلاث ساعات إلا ربع في جو من نظريات المؤامرة والإثارة الوهمية، فليس هناك ما يحدث أمامنا حقاً بل تتابعات طويلة من النظر إلى حياة هؤلاء السكان الأصليين المتحدثين الفرنسية.

يتم استغلال أجساد سكان الجزيرة وأجواء مدينتهم، وببطء وخمول يتم استغلال ثقتهم وحسن نواياهم، يعتمد الفيلم على المشهدية الطويلة بشكل رئيسي، استعراض الأحداث دون التدخل فيها، في لحظات قليلة نرى اجتماعات بين المبعوث الفرنسي الكاريزماتي وكبار الجزيرة نلمح بها خططاً شيطانية لإعادة التجارب النووية على الجزيرة ومرة بعد أخرى يتم درء التهديد باعتباره وهماً في خيال السكان الذين لم يتعافوا من استعمار دام عقود، يمثل «وهم التهدئة» مشاهدة متطلبة بسبب طول المدة وقلة الأحداث لكنها مشاهدة تستعرض الجمال دون أن مقاطعة، ويجعل من المراقبة الحثيثة أداة للخداع الإستراتيجي، ويصور خوف وجودي من قوة تكاد تكون كونية دون أن يصبح فيلماً حربياً يستدعي الإثارة و تكرار سمات نوعية تقلل من أسلوبه الخاصة.

8. Saint Omer

عرض فيلم «سانت أومير» للمخرجة الفرنسية من أصول سنغالية أليس ديوب في مهرجان فينيسيا السينمائي حيث حاز على جائزة لجنة التحكيم وعرض في مهرجان القاهرة بحضور الممثلة الرئيسية جوسلاجي مالانجا (لورنس كولي)، سانت أومير فيلم مبني على قصة حقيقة ليست قديمة الحدوث، عن أم صغيرة مهاجرة إلى فرنسا تغرق ابنتها في البحر وهي بعمر الخمسة عشر شهراً، أصبحت محاكمة تلك الأم حدثاً شهيراً وقضيتها قضية مثيرة في فرنسا يسهل استخراج فيلم إثارة ذي نبضات درامية سهلة، يستجلب من المعاناة الشخصية مادة سينمائية تتطفل على القصة الحقيقية التي لم تزل في طور الحدوث، فالأم لم تزل في السجن وحسب كلام الممثلة فإن مدتها سوف تنتهي في شهر يناير العام القادم، لكن عوضاً عن ذلك تستخدم أليس ديوب صيغة أفلام المحاكم بعد أن تخرج منها طبيعتها الإثارية والانفعالية، تستخدم أقوال المتهمة والقضاة كما قيلت لتخدم سردية أيديولوجية خاصة تناقش إمكانية أن تكون الجانية ضحية، تدمج تيمات الهجرة والتفرقة العرقية والتاريخ الاستعماري الفرنسي وعدم التوازن في القوى بين الرجل الأبيض والنساء الملونات، وكذلك بين الأم صغيرة السن والأب المسن لكي تخلق صورة مصغرة عن المجتمع الفرنسي وكبريائه المعاصر.

تمد ديوب خيطاً جديداً لكي تخلق دراما موازية دون أن تقتحم حياة البطلة الحقيقية، وتستخدم شخصية أم مستقبلية خيالية شابة (راما) تحضر المحاكمة لاستلهام الأفكار لكتابة تصور معاصراً لأسطورة ميديا البطلة الإغريقية التي قتلت أطفالها، تلك الشخصية تمثل العالم الخارجي خارج المحكمة المغلقة، تتمثل وتتركز فيها المخاوف التي ربما راودت لورنس كولي فأودت بها إلى ما هي عليه الآن، راما كذلك فتاة من أصول أفريقية متزوجة من رجل فرنسي أبيض يكبرها سناً، وتشعر بخوف ضخم من إحضار طفل للحياة كما هي عليه خصوصاً مع تجربتها الخاصة مع والدتها التي لم تكن محبة بشكل كاف، يصنع «سانت أومير» منسوجة دقيقة وبطيئة للأمومة وطبيعتها غير البطولية من كونها خوفاً خاماً ومسئولية لا رجعة فيها، وتربط ذلك التوجه النسوي بتوجه ما بعد استعماري ودراسة صغيرة في التعدد الثقافي الوهمي في أوروبا المعاصرة.

9. Eo

مستدعياً كلاسيكة روبير بريسون «بالتزار فجأة» Au Hasard Balthazar الذي يسرد معاناة العالم من وجهة نظر حمار بريء يختبر الرعب والجمال، صنع المخرج البولندي جيرزي سكولومفسكي فيلمه الأخير إيو وعمره يتخطى الثمانين لكنه فيلم طازج وشاب بقدر أي فيلم لمخرج في أوائل مسيرته، يأخذ إيو مفهوم بريسون خطوة أبعد ويرينا العالم من أعين الحيوان البريء (إيو) ربما بشكل حرفي عن طريق استخدام المصور مايكل داميك لتقنيات بصرية وتكنولوجية تصور عالم مرئي من أعين غير آدمية، ألوان مشبعة تبدو وكأنها ألوان جديدية، وعدسات واسعة والتفافات مستحيلة، يكون مايكل دايمك صورة ليست من تلك الأرض تجعل السينما وعاء للتعاطف والرؤية من خلال الآخر حتى لو كان ذلك الآخر ليس شخصاً آخر.

ينقسم الفيلم إلى عدة فصول يتعرض بها إيو إلى شتى التجارب الحياتية، يعامل برقة ويعامل بعنف، يرى القتل واللطف والاستغلال، يشهد على كل شيء دون أن يصرح، يرنو إلى علاقة رقيقة بينه وبين مدربته القديمة في السيرك، علاقة تعاطف وحب متبادل تعكس ثنائي أشبه بكينج كونج ومحبوبته الأرضية لكن الفرق أن إيو ليست تهديداً، فهو لا يملك أهلية حقيقية تمكنه من ممارسة العنف أو الدفاع عن نفسه، هو ذات يفعل بها ولا تفعل، يمثل إيو واحدة من أكثر تجارب العام رقة وتفهماً، فيلم ينبذ السخرية بشكل كامل، ويستخدم التكنولوجيا لصالحه دون استعراض فارغ لكن باستعراض حقيقي لإمكانية الاستفادة من التطور في آليات التصوير لاستدعاء طرق جديدة للرؤية.

10. Godland

يفتتح المخرج الأيسلندي هيلنور بالماسون فيلمه أرض الإله الذي عرض في بانوراما الفيلم الأوروبي بنقاش طويل بين قس ومعلمه للاتفاق على توجه القس الدنماركي إلى أرض أيسلندا القاسية، يبشر بها ويبني كنيسة ويصور سكانها صور توثيقية فوتوغرافياً، بعد النقاش يلتقط القس لمعلمه صورة بتقنية الألواح المبللة وهي من أقدم تقنيات التصوير، يصور الفيلم التقاط الصورة في شكل صورة فعلاً وتستخدم المصورة ماريا فون هاوسولف إطار مربع منحني الزوايا لتميز الفيلم بشكل بصري عن أفلام أخرى دارت أحداثها في الفترة نفسها، بعد المشهد الافتتاحي يكتب عنوان الفيلم على الشاشة مرة بالدنماركية ومرة الآيسلندية، تلك الثنائية اللغوية والثقافية سوف تعرف الفيلم كله مع الوقت.

أرض الإله فيلم مدته طويلة متمهلاً فيما يحكيه على الرغم من نبضات العنف المتفرقة به، يسرد قصة قديمة قدم الأرض، غريب يستكشف أرض غريبة ويحاول فرص رؤيته عليها، لكن الفيلم لا يعطي أجوبة سهلة لأفكار مثل الاستعمار والهيمنة الدينية بل يتعامل مع الأمر باعتباره اختلافاً ثقافياً وطبقياً، ويمرر من خلال تلك القصة الكبيرة لحظات صغيرة وأفكار متعلقة بالذكورة والصداقة، يأخذ أرض الإله وقته بصرياً في تصوير الأماكن التي تقع بها الأحداث، مساحات بيضاء من الجليد تمر عليها الكاميرا بشكل سائل وكأنها تطفو، تدور في المكان كله مستغلة صغر حجم الإطار وتستعيض عن فساحة الصورة بالحركة والاستكشاف، تدور الكاميرا 360 درجة عدة مرات لتعود إلى نقطة البداية يتكرر ذلك التكنيك عدة مرات ربما مصوراً دائرة لا نهائية من العنف وسوء التفاهم، يستدعي بالماسون جمالاً لا نهائياً من وسط القبح، وينتقي أكثر اللحظات عادية ليتوقف عندها مثل رقصة غنائية طويلة أو رحلة خيول من اأض لأخرى، لذلك حينما تحدث انفجارات العنف تصبح أكثر تأثيراً وغرابة ويبدو أن من المستحيل وجودها في ظل السكون اللانهائي الذي تمثله أرض أيسلندا البيضاء التي وعلى الرغم من سكونها الظاهري تخبئ جبلاً بركانياً على وشك الفوران في أي لحظة.