يبقى السؤال الذي يمثل الإشكالية الكبرى في حياة المسلمين اليوم والأكثر مركزية عند حركات الإصلاح والتغيير: «لماذا صرنا إلى ما نحن فيه؟!» أو «لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟» معلقا إلى اليوم دون إجابات شافية وواضحة. ومجرد الجواب بأن سبب ذلك هو البعد عن الإسلام، على الرغم من صحته، فيه الكثير من التبسيط والتهوين وحتى السذاجة أحيانا؛ لأن هذه الإجابة سوف تسلمنا إلى سؤال آخر كبير محير، وهو: لماذا بعدنا عن الإسلام وانسلخنا عن الالتزام بقيمه، وعجزنا عن التعامل مع مصادره الكتاب والسنة لتربية النماذج المأمولة وصناعة الأمة الشاهدة؟!

وفى هذا المقال سألقي بعض الضوء حول دعوات الإصلاح وأحد جوانب الأزمة وخاصة في مجال الفكر والثقافة محاولة لفهم أسبابها في سبيل معالجتها من خلال العمل على تحديد الكيفيات، ووضع الأوعية والآليات لهذا الحل؛ للتخلص من استمرار حالة العجز وتقديم الحل (في شعار) دون القدرة على تنزيله على الواقع وتحويله إلى ممارسة وفعل.

فمنذ أن تم طرح هذا السؤال على الأمة نشأت العديد من دعوات الإصلاح منها ما سلك طريق الفردية المطلقة الباحثة عن خلاص الذات الفردية والبعد عن طريق صناعة المجتمع والفاعلية الحضارية؛ كالصوفية المغالية في التحلل من الضوابط والمعايير الاجتماعية في الشريعة وترك السعى نحو خيرية الأمة وحضارتها لتكون رائدة شاهدة على الناس..

ومنها ما سلك سبيل الشوكة الفكرية ومجابهة الأفكار الهادمة لهذا الدين؛ كحجة الإسلام الإمام الغزالي..

ومنها ما ركز على تنقية العقيدة مما شابها وطرأ عليها؛ كجهد شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام محمد بن عبدالوهاب..

ومنها ما عالج جانب الشريعة وضرورة سلامة الفهم لها بإبراز مقاصدها كالإمام الشاطبي والشيخ الطاهر بن عاشور..

ومنها ما ركز على معالجة الجانب السياسى من جوانب الخلل كالشيخ جمال الدين الأفغاني والشيخ عبدالرحمن الكواكبي..

ومنها ما لفت النظر إلى ضرورة تجديد المناهج التربوية والفكرية والثقافية كالشيخ محمد عبده..

ثم كان العصر الحاضر والذي شهد ثمرات واضحة لكل هذه الدعوات السابقة ورغم ذلك بقى الخلل!

فللأسف الشديد بقيت مشكلة الكثير من الإسلاميين أو العاملين في الحقل الإسلامي عدم الربط بين القيم والمبادئ الإسلامية الثابتة والمحفوظة بحفظ الله وبين الاجتهادات الفكرية للمسلمين أو الإنتاج الفكري الساعي لتنزيل هذه القيم والمبادئ على واقع الناس المعاصر! ومن ثم كان أي توقف أو تأزم أو إصابة في القضية الفكرية التي تسعى أن تكون هذه القيم والمبادئ واقعا ملموسا يحل مشاكل الأمة ويساعد في التناول الحضاري لقضاياها، مؤديا بالضرورة إلى انعزال القيم والمبادئ عن واقع الحياة ونقلها من ساحة الواقع العملي والفاعل إلى ساحة التبرك والقدسية بعيدا عن حل أية مشكلة.

ولعل من أسباب ذلك سيادة فترة الاضطهاد وظروف التشريد والفتنة والتضييق بكل أنواعها على الحركة الإسلامية مما أدى إلى انتقال مواقع القيادة الفكرية لبعض هذه الحركات إلى عناصر لم تستطع تجاوز تلك الظروف واكتساب قدر من الخبرات والتجارب وطرق العمل الفكري والسياسي خارج أطر الصراع وطبيعته يمكنها من إدراك أهمية قضية «الفكر والثقافة» والتناول الحضاري لقضايا الأمة كمنطلق رئيس ومهم لها..

فإنك ترى الطبيعة الفكرية لهذه القيادات: سيادة فكر التحصين والصمود والمواجهة وسيادة الفكر التعبوي الحماسي؛ وإنتاجها الفكري في الغالب رد فعل لما تعاني منه نتيجة فكر «الأزمة» الذي أدى اعتماده وبقي إلى نشوء أزمة الفكر؛ التي سببت عدم القدرة على تجاوز الظروف الاضطهادية والصراعية إلى طريقة من التشبث بالماضي واستدعاء وطرح بعض القضايا العقيدية والفقهية التي يغلب موضوعها على حوار تلك القيادات أو التوجه صوب الماضي والتشبث به دون الاجتهاد في معالجة قضايا الحاضر واستشراف مستقبله باجتهاد جديد يتصل بالأصل ويتواصل مع العصر.

فسيادة هذه المفاهيم وبروز هذه الاتجاهات الإسلامية المعاصرة أدى كما ذكرنا إلى ضعف الاهتمام بالقضية الفكرية أو إحساس الكثيرين من أبناء الحركة الإسلامية بعدم الحاجة إلى الاجتهاد والإبداع وأنه ما ترك السابق للاحق شيئا؛ مما أدى إلى تضاؤل دور الكسب الفكري في توجه هذه الحركات وفي البناء الثقافي لها.. وكأن القضية المطروحة نوع من الترف الفكري أو خطأ في تشخيص أزمة الحركة أو تجاوز لوسائلها التنظيمية ونظمها الحركية أو محاولة عقلانية في مقابل النص والوحي والموروث أو تقديم بديل عنه، أو حالة جديدة هدفها إضعاف ثقة الأفراد بقيادتهم وتغيير ولائهم وأفكارهم تجاه الحركة وفاعليتها!

ومن الجدير بالذكر في هذا المقام أن المتتبع لحضارة الغرب المادية العملاقة اليوم والمتلمس لخيوطها التاريخية في العصر الحديث يجد هذه النهضة الشاملة العملاقة ما كانت لتحدث لو لم تتشكل النخبة المثقفة أو القيادة الفكرية الرائدة المنتجة للفكر والقيم والعاملة على تحويله إلى سلوك ونمط للعيش في كل مجالات الحياة العامة والخاصة عند الفرد الغربي الحديث؛ نخبة عرف أصحابها بفلاسفة الأنوار أمثال روسو و مونيتسكيو و هولباخ و هلفييوس و كانط وقبله ديكارت وبعده هيجل و فيورباخ و جون لوك و ماركس وغيرهم.

هكذا أحدثت هذه النخبة المثقفة والمفكرة الحداثية ثورة ثقافية عميقة فى كل أنظمة الحياة العامة والخاصة بالغرب الحديث فكانت النتيجة نهوضا حضاريا عملاقا في مجالات كثيرة في الحياة العامة والخاصة. وعرض مثل هذا المثال ليس من باب المدح للتجربة الغربية أو الإيهام بأن «طريقتهم» هي سبيل النهوض الذي نسعى إليه ولكن من باب الاستدلال والتأكيد على ضرورة الإصلاح الثقافي والفكري وإيجاد نخبة مثقفة ومفكرة قادرة على تنزيل القيم والمبادئ على واقع الناس وتشكيله وإنهاضه. فكما كان ذلك عند الغرب كان عند المسلمين وحضارتهم الزاهرة، فكما تشكل في الغرب نخبة مثقفة عضوية للحضارة الغربية مثلها المثقف الليبرالي والاشتراكي، تشكل عند المسلمين في عصر النبوة وعصر التابعين ولقرون، صفوة مثقفة عالمة برسالة الإسلام وعاملة بها ومنتجة للفكر والقيم الإسلامية الرافعة للنهضة الإسلامية الشاملة.

وفي مفاهيمنا الإسلامية كلمتان مشتقتان من مادة واحدة لهما أكبر الآثر في الحياة الإسلامية وفي مسيرة الأمة على امتداد التاريخ.. هاتان الكلمتان هما: الاجتهاد و الجهاد، وقد اشتقتا من مادة «جهد» بمعنى بذل الجهد أو تحمل الجهد، بفتح الجيم، أي: المشقة. فالكلمة الأولى هدفها معرفة الهدى ودين الحق الذي أرسل الله به رسوله وتنزيله ليغير واقع الفرد والأمة، ومجاله الفكر والنظر والكلمة الأخرى هدفها حمايته والدفاع عنه ومجالها الممارسة والسلوك. وثمرات الاجتهاد يمكن أن تضيع إذا لم تجد من أهل القوة من يتبنى تنفيذها كما أن مكاسب الجهاد يمكن أن تضيع إذا لم تجد من أهل العلم من يضيء لها الطريق. وفي عصورنا الإسلامية الزاهرة مضى هذان الأمران جنبا إلى جنب: الاجتهاد والجهاد٬ فسعدت الأمة بوفرة المجتهدين من حملة القلم٬ ووفرة المجاهدين من حملة السيف٬ الأولون لفهم ما أنزل الله من الكتاب والميزان٬ والآخرون لحمايته بالحديد ذي البأس الشديد٬ وهو ما تشير إليه الآية الكريمة: «لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ٬ وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ٬ وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب».
الشيخ يوسف القرضاوي

وفي بعض العصور وجد الجهاد ولكن لم يصحبه الاجتهاد فجمدت الحياة الإسلامية وتحجرت في حين بدأت المجتمعات الأخرى في اليقظة والنهوض. ثم تلت عصور أخرى فقد فيها المسلمون الجهاد والاجتهاد معا فغزوا في عقر دارهم وفقدوا سيادتهم واستقلالهم وهويتهم!

وكما أن أدوات إنتاج الحضارة خمس وهي: الدولة و الأمة و الوطن و اللسان و الرسالة.. فالرسالة هي المشروع الثقافي للنهضة والصناعة الثقافية صناعة ثقيلة التي هي إنتاج القيم والأفكار والمفاهيم الكبرى الرافعة للتنمية الشاملة والمجيبة على الأسئلة الكبرى والإشكاليات الكثيرة التي تعترض مسيرة الأمة في سبيل تحقيق شهودها الحضاري. وهذه الصناعة هي من اختصاص المثقفين والمفكرين الذين هم دائما قلة فى المجتمع لكنهم يمثلون أمة: فهم الرواحل في المائة من الإبل.

ومن ثم فإن الإعلان عن مركزية مشكلة الثقافة وأزمة الفكر ومركزية إصلاح ذلك وتطويره لا يعني إهمال طرائق الإصلاح الأخرى ولكن يعني أن أحد أهم الأولويات المنطقية تبقى دائما لإصلاح هذه القضية ومعالجتها؛ حيث أن الثقافة والفكر هما المجال الأقرب إلى الإنسان والأكثر استعصاء واستقلالا عن الأنظمة الاقتصادية والسياسية وحتى على الأنظمة الاجتماعية في حالات متعددة كما هو ملاحظ داخل الأقليات الإثنية التي تستعصي على الذوبان الثقافي داخل أنظمة ثقافية مهيمنة، أو كمقاومة الأنظمة الثقافية للشعوب المستضعفة في مواجهة العولمة، وكضرورة للبداية والمنطلق في تأسيس النظام الثقافي الذي يبنى عليه مشروع نهضة الأمة وحضارتها!

والأمة الإسلامية اليوم وهي تتآكل وتتفرق وتتبعثر بأشد الحاجة إلى المواثيق الفكرية والدساتير الوحدوية الثقافية؛ كمشروع الإمام حسن البنا أو كتاب الشيخ محمد الغزالي «دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين»، أو مشروع الأستاذ مالك بن نبي وغيرها، والتي تؤكد على القواسم المشتركة وتتجنب إثارة الخلاف والفرقة بل قد تكون الطروحات الفكرية المتوازنة سبيلا إلى تضييق ساحات الخلاف وتحويله إلى مجال إيجابي يغني الرؤية ويخصب الرأي وينوع أوعية الشورى بعيدا عن مزالق التكفير والاتهام والتنقيب عن النوايا.

بحيث تركز هذه المشاريع على إعادة قراءة الكتاب والسنة كمصدرين للمعرفة والثقافة والحضارة والفكر، والانطلاق من السيرة النبوية الصحيحة كفترة تمثل ضوابط الاجتهاد التنزيلي والمصون والمسدد بالوحي للاهتداء بها في التعامل مع الواقع و قضاياه المختلفة. وتركز أيضا على قراءة الميراث الثقافي والحضاري الإسلامي وإخضاعه لمعايير الغايات والمقاصد الإسلامية وقراءة الكسب البشري والإنساني في المجال الثقافي والحضاري مع التنبه لخلفياته وأطره المرجعية ودراسة الواقع الإسلامي واستقراء حاجاته وتحديد أسباب الإصابات التي لحقت به، واستشراف آفاق المستقبل الإسلامي في ضوء ذلك وتحريك الأمة باتجاه تحقيقه.

المراجع
  1. دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين، الشيخ محمد الغزالي.
  2. في نظرية الإصلاح الثقافي، الأستاذ محمد يتيم.
  3. الأعمال الكاملة للأستاذ عمر عبيد حسنة.
  4. الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، الشيخ يوسف القرضاوي.
  5. إصلاح الفكر الإسلامي بين القدرات و العقبات، ورقة عمل للمعهد العالمي للفكر الإسلامي