فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض.

تحت هذا الشعار بدأ مخطط تفريغ الأرض الفلسطينية، واقتلاع الفلسطينيين من وطنهم، باستخدام القوة وكافة الأساليب والطرق الهمجية والوحشية، بناءً على مخططات وضعها روّاد الفكر الصهيوني، عُرفت بـ«الترانسفير».

فقد روّج المفكر الصهيوني البريطاني إسرائيل زانجويل للشعار الذي طرحه اللورد البريطاني شافتسبري، والقائل إن فلسطين «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، وأكّد في كتاباته الأولى عام 1917، على ضرورة طرد العرب وترحيلهم، حيث قال:

يجب ألّا يُسمَح للعرب أن يحولوا دون تحقيق المشروع الصهيوني، ولذا لا بد من إقناعهم بالهجرة الجماعية، أليست لهم بلاد العرب كلها، ليس ثمة من سبب يحمل العرب على التشبث بهذه الكيلومترات القليلة، فهم بدو رُحّل يطوون خيامهم في صمت وينتقلون من مكان لآخر.

وضع الفص في الخاتم

«الترانسفير» مصطلح يستخدم للإشارة إلى نقل سكان من منطقة سكنهم الأصلية إلى منطقة أخرى، بهدف إقامة منطقة بها انسجام سكاني من شعب أو عرق واحد. وقد جاءت الإشارة الأولى للترانسفير ضد العرب منذ «تيودور هرتزل» الذي طرح فكرة ترانسفير العرب واليهود داخل الإمبراطورية العثمانية، بهدف تحضير فلسطين لتكون وطناً للشعب اليهودي. حيث كَتَب هرتزل –مؤسس الحركة الصهيونية– في يومياته في 12 يونيو/حزيران عام 1895، حول موقف الحركة الصهيونية من الفلسطينيين:

عندما نحتل الأرض سنجلب منافع فورية إلى الدولة التي تستقبلنا، سنسعى لتهجير السكان المُعدَمين عبر الحدود من خلال تدبير الوظائف لهم في بلاد الانتقال، لكننا سنمنعهم من القيام بأي عمل في بلدنا. إن الأصحاب سيلتحقون بنا، وعمليتا الاستيلاء على الملكية وترحيل الفقراء ينبغي أن تجريا معاً بصورة مُتكتمة وحذرة.

كما أشار حاييم وايزمان الذي أصبح فيما بعد رئيساً للمؤتمر الصهيوني العالمي، إلى الفكرة ذاتها وتحدث عمّا يُعرَف بـ«الأرض الخالية»، حيث قال في خطاب ألقاه عام 1914:

في مراحلها المبكرة كانت الصهيونية، كما تصورها روّادها، حركة تعتمد كلياً على عوامل ميكانيكية، ثمة بلد صدف أن اسمه فلسطين، وهو بلد بلا شعب، وثمة من ناحية أخرى شعب يهودي، ولا يملك بلداً، إذاً، لا يبقى سوى وضع الفص في الخاتم، وجمع الشعب والأرض.

وعندما سُئِل وايزمان عن رأيه في عرب فلسطين، أجاب وايزمان: «قال لنا البريطانيون إن هناك بضع مئات الألوف من الزنج الكوشيم (أي العبيد)، وأنه لا قيمة لهم».

وهنا تأتي فكرة «الأرض الخالية»، ليس بمعنى أنها أرض خالية من السكان فعلاً، بل خالية من الحضارة، الأمر الذي يُبرِّر الاستيطان الصهيوني والتغافل عن مصير السكان الأصليين، ومن ثَمَّ ترحيلهم فيما بعد.

وقد اتفق قياديو الدولة العبرية والأكاديميون فيها، بعيداً عن انتماءاتهم الحزبية والسياسية، على أن «الخطر الديموغرافي» هو أحد العوامل التي تهدد وجود «إسرائيل» ذات الأغلبية اليهودية، ومستقبلها في منطقة الشرق الأوسط، ومن هنا طُرحت فكرة الترانسفير أو طرد الفلسطينيين من وطنهم، بوصفها حلاً للخطر الديموغرافي أو المشكلة السكانية منذ نشأة الحركة الصهيونية، ومن ثَمَّ وجدت طريقها إلى التطبيق في السلوك الإسرائيلي منذ عام 1948.

سياسة الجسور المفتوحة

بين عامي 1937 و1948، صيغت وقُدمت عدة خطط صهيونية لترحيل الفلسطينيين، منها: خطة «سوسكين» للترحيل القسري عام 1937، وخطة «يوسف وايتز» للترحيل في ديسمبر/كانون الأول 1937، وخطة «يوسف شختمان» للترحيل القسري 1948، وغيرها العديد من الخطط. وفي أثناء هذه الفترة أُلفت ثلاث «لجان ترحيل»، أُوكل إليها مهمة مناقشة وتصميم الطرق العملية لترويج خطط الترحيل، اللجنة الأولى والثانية ألفتهما الوكالة اليهودية (1937-1948)، أما اللجنة الثالثة، فقد ألفتها الحكومة الإسرائيلية عام 1948.

تنفيذاً للخطط والمقترحات والأفكار الصهيونية الرامية للاستيلاء على الأرض وترحيل سكانها، اتضحت صور الإرهاب الصهيوني في «الخطة-د» وهي خطة عسكرية على هيئة حرف «الدال» أو حدوة حصان، حيث تُحاصَر البلدة أو المنطقة من ثلاث جهات، وتبقي منطقة رابعة خالية من القوات الصهيونية، مما يتيح للمُحاصَرين الإفلات. وقد صُمِّمت هذه الخطة أول مرة عام 1942، واعتمدت رسمياً في العاشر من مارس/آذار عام 1948، كما اعتمدت استراتيجية هجومية ضد الفلسطينيين وحلفائهم العرب، تتلخص في الاستيلاء على النقاط والطرق الرئيسية في البلاد.

وكان من بين الأهداف الرئيسية لتلك الخطة توسيع رقعة الدولة اليهودية إلى أبعد من حدود التقسيم، وطرد العديد من الفلسطينيين، كما نصت على ضرورة احتلال قرى ومدن عربية والاحتفاظ بها أو مسحها من على وجه الأرض.

وقد نُفذت فعلياً هذه الخطة في أبريل/نيسان عام 1948، حيث شنّت الهاغاناه ضربات هجومية مُنسَّقة ومكثفة ضد المدنيين في المدن الرئيسية، وشنت غارات ليلية، وقامت بعمليات تفجير عشوائية، ودمرت المنازل والقرى، وقتلت المزارعين في الحقول، وغير ذلك من أساليب العنف والإرهاب العشوائية كالحرق والنسف، وكان نتيجة لذلك نزوح عشرات الآلاف الفلسطينيين عن ديارهم، وأضحوا بذلك لاجئين.

ونجد أنه في عام 1931 كان هناك 858 قرية وبلدة عربية في فلسطين، وما أن بدأت حرب عام 1948، ومباشرة العصابات الصهيونية تنفيذ خططها للتطهير العرقي؛ حتى دُمرت أكثر من 531 قرية، وتم تهجير أكثر من نصف الشعب الفلسطيني، أي ما يقارب 500 ألف نسمة، وبهذا فإن 85% من الفلسطينيين الذين كانوا يعيشون في المناطق التي أصحبت تُسمى «إسرائيل»، قد صاروا لاجئين.

وقد كشفت صحيفة هآرتس الإسرائيلية أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1967، مارست ما عُرِف بـ«الترانسفير الهادئ» بحق ربع مليون فلسطيني، وذكرت الصحيفة أن سلطات الاحتلال منعت منذ عام 1967، وحتى إقامة السلطة الفلسطينية عام 1994 أكثر من 100 ألف فلسطيني من قطاع غزة من العودة إلى بيوتهم، وحَرمتهم من حقهم الطبيعي في وطنهم، حيث كانوا قد سافروا إلى الخارج للتعليم والعمل.

وأضافت أن هذا الرقم يُضاف إلى 140 ألف فلسطيني من سكان الضفة الغربية المحتلة، الذين مُنعوا من العودة إلى الضفة بعد مكوثهم في الخارج لمدة تزيد على ثلاثة أعوام ونصف، مما يعني أن عملية الطرد الهادئة هذه على الحدود والمعابر الدولية شملت ربع مليون فلسطيني.

وقالت «هآرتس» إن سلطات الاحتلال استغلت ما سمته «سياسة الجسور المفتوحة» لتطبيق هذه الخطة، وطرد عشرات الآلاف من المقدسيين، الذين غادروا المدينة لأكثر من سبعة أعوام إلى الخارج. وقد وصل عدد الفلسطينيين الذين طُردوا من بلادهم عبر هذا الإجراء وبصورة هادئة- تحت ترتيبات بيروقراطية- إلى مئات الآلاف، وهو ما يُشكِّل انتهاكاً للمواثيق الدولية بحسب الصحيفة الإسرائيلية.

بين «الدعاية السوداء» و«الترانسفير الزاحف»

لقد أدرك الساسة الإسرائيليون أن الخروج الطوعي للسكان العرب أمر بعيد المنـال، ولذلك قاموا بعدة مجازر مروعة، قضوا بها على بعض الفلسطينيين، وكان ضمن خطة المجازر أنه سيفر حتماً القسم الآخر.

وبالفعل ارتكب اليهود 25 مذبحة، لم تكن دير ياسين أبشعها ولا أشرسها، إذ قُتل فـي قرية الدوايمة 350 عربياً بشكل بشع، حين هشموا رؤوسهم بالبلطات، كما قام الجيش بإخراج 413 ألف فلسطيني من ديارهم قبل انسحاب القوات البريطانية عام 1948، وطردوا أهالي 50 قرية تحت ذريعة أن هناك هجوماً مقبلاً، وفر أهالي 38 قرية بسبب الخوف من الهجمات الإسرائيلية.

تؤكد الوثائق الإسرائيلية ووثائق الأرشيف الأمريكي أن 70% من الفلسـطينيين غادروا ديارهم مُكرَهين بفعل الترويع والبطش والإرهاب النفسي، وهو الأسلوب الذي يُعرَف بـ«الدعاية السوداء»، وقد استخدمه «موشيه ديان» الذي خلف «إيغال آلون» في قيادة القطاع الجنوبي، وبخاصة عندما أراد الصهاينة إجلاء عرب «المجدل» ودفعهم باتجاه قطاع غزة.

ساعد وقوع الضفة الغربية وقطاع غزة ومناطق عربية أخرى تحت الاحتلال على فتح شهية التوسع والتهويد والضم لدى الإسرائيليين، وكان على الدولة الإسرائيلية بعد حرب 1967، التعامل مع منطقة آهلة كلياً بالفلسطينيين، ومع «مشكلة ديموغرافية» رئيسية.

ولذلك سعت الحكومة الإسرائيلية فور انتهاء الحرب (1967) لرسم سياستها وفق الواقع الجديد، وقد عملت منذ اليوم الأول لاحتلاها القدس على تنفيذ سياسة التهويد فيها من خلال ضم القدس الشرقية إلى القدس الغربية في يوليو/تموز 1967، ثم إعلانهما بقرار من الكنيست عاصمة موحدة وأبدية في يوليو/تموز 1980.

تغيّر نهج الترحيل بعد عام 1967، فقد انتهجت إسرائيل سياسة ترانسفير تدريجية وبطيئة، وهو ما سماه الأكاديمي الإسرائيلي أرنون بيتحايل «الترانسفير الزاحف»، حيث سعت بموجب هذه السياسة إلى تضييق الخناق على مئات الألوف من الفلسطينيين، وطردهم بالقوة من أماكن سَكنهم، عبر وسائل مختلفة، منها مصادرة الأراضي وهدم البيوت وتدمير البنية التحتية وتدمير الاقتصاد الفلسطيني… إلخ، وترافقت هذه العملية مع تعزيز المستوطنات وبناء المزيد من الوحدات الاستيطانية.

وقد شكّل استخدام القوة والإكراه عنصراً مهماً في سياسة إسرائيل تجاه الفلسطينيين في الأراضي المحتلة في تلك المرحلة، وخوّلت قواعد الحكم العسكري في تلك المناطق، للحكام العسكريين إغلاق المناطق العربية، وحصر الدخول والخروج فقط للذين يحملون تصاريح صادرة عن السلطات العسكرية. كما مكّنت هذه السياسات السلطات الإسرائيلية من طرد السكان وترحيلهم من قراهم ومدنهم، ووضع الأفراد في الاعتقال الإداري لفترات غير محدودة من دون محاكمة، وفرض غرامات وجزاءات وملاحقة قانونية.

التهجير القسري القانوني

لم تسقط أفكار ومشاريع الترانسفير والتطهير العرقي عن الأجندات الأمنية السياسية الاستراتيجية الإسرائيلية يوماً، فكانت تعود لتتجدد بين الحين والآخر.

فقد مارست قوات الاحتلال سياسة منهجية لطرد المواطنين الفلسطينيين من شرق القدس، وإفراغ المدينة من سكانها الأصليين، بواسطة قوانين جرى سنّها لتنفيذ هذه السياسية، والتي باتت تُعرف باسم «الترانسفير الصامت»، فبعد احتلال القدس سنّت قوات الاحتلال قانوناً يقضي بمنح المقدسيين «إقامة»، وبموجب هذا القانون فإن من يتغيب عن القدس لفترة تزيد على سبعة أعوام؛ يصبح بإمكان دولة الاحتلال سحب «الإقامة» منه. وقد واصلت قوات الاحتلال سحب الإقامة من المقدسيين بهدف تقليل أعداد السكان الفلسطينيين وزيادة أعداد اليهود الصهاينة.

كما أن هناك عائلات فلسطينية طُردت من منازلها بموجب قانون إسرائيلي يُعرف بـ«قانون أملاك الغائبين»، ويُخوِّل هذا القانون للاحتلال الإسرائيلي صلاحية الاستيلاء على عقارات تعود لفلسطينيين ممّن- هم في نظر إسرائيل- هجروا منازلهم أو هربوا خلال النزاع.

وقد تصاعدت أفكار ومشاريع وممارسات الترحيل والتهجير والتطهير العرقي ضد الفلسطينيين في ظل الانتفاضة الفلسطينية الكبرى الأولى 1987، لتصل إلى ذروتها في ظل انتفاضة الأقصى عام 2000. وفي إطار مؤتمر عقده «المركز متعدد المجالات» في هرتسليا عام 2000، عرض ذلك المؤتمر وثيقة أعدتها قيادات عسكرية وأمنية وسياسية إسرائيلية رفيعة المستوى، تُحذِّر من التكاثر السكاني العربي، وتوحي بأن «الترانسفير» هو الحل.

أُجبرت أعداد كبيرة تُقدَّر بمئات الآلاف على الهجرة والنزوح، وطوال سنوات الاحتلال صادرت إسرائيل أكثر من نصف الضفة والقدس، وحتى عام 2016 وصل عدد المستوطنات إلى أكثر من 150 مستوطنة، وعدد المستوطنين أكثر من 636 ألفاً، بنسبة تصل إلى 21.4% من سكان الضفة الغربية. وهذه السياسة تهدف إلى التغيير الديمغرافي في الضفة والقدس، وتضييق الخناق على الفلسطينيين؛ بهدف دفعهم إلى الهجرة.

وفي القدس وحدها وصل عدد المستوطنات إلى 26 مستوطنة ووصل عدد المستوطنين إلى 222 ألف مستوطن حتى عام 2016، وقد قامت إسرائيل بسلسلة من السياسات لإجبار المقدسيين على المغادرة والهجرة عن المدينة، ومن أبرز هذه السياسات: سياسة سحب الهويات وهدم البيوت، حيث جرى سحب أكثر من 14710 هويات فلسطينية من الشطر الشرقي للمدينة المقدسة بين الأعوام 1967-2020.

كما هُدم أكثر من 1859 منزلاً بين عام 1967 و2016، إضافةً لرفع الضرائب على المقدسيين لرفع التكلفة الاقتصادية لبقائهم في المدينة إلى أقصى حد ممكن، وتدمير المؤسسات الفلسطينية في القدس.

إجمالاً، يبدو جلياً أن «إسرائيل» ما زالت متشبثة بالأدبيات الصهيونية وخطط الروّاد فيما يتعلق بـ«الترانسفر» وترحيل الفلسطينيين، بهدف الاستيلاء على وطنهم وحقوقهم المشروعة، وهذا ما نشهده اليوم من خلال ما يحدث في حي «الشيخ جرّاح» في القدس، الذي ما تزال أحداثه مشتعلة حتى الآن، حتى بعد انتهاء التصعيد العسكري الأخير في قطاع غزة، والذي قد تُغيِّر تبعاته المعادلة على أرض الواقع، على أكثر من مستوى.