يخوض بنا هذا الفيلم لعبة الطبيعة مع البشرية، بدءًا من أعلى سلم الاحتياجات في هرم (ماسلو) إلى قاعدته، ومن قمة هرم الطبقات الهيراركي المتدرج إلى قاعدته، مع تبادل أماكن وأدوار يبدو مكشوفًا لكنه عميق يثير الفوضى بذكاء، هو أحدث أفلام المخرج السويدي روبين أوستلوند (مثلث التعاسة Triangle of sadness)، بعد فيلمه السابق (المربع)، ليربط بين الفيلمين استخدام شكل هندسي للتعبير عن رؤية درامية فلسفية.

نظرة على مربع أوستلوند

في (المربع) كان الفيلم يعري متهكمًا الطبقة المثقفة المتعالية ليبرز تناقضاتها وزيفها، من خلال أزمة وجودية وضع فيها البطل (كريستيان) مدير متحف الفن المعاصر في السويد، ذلك الراقي المتأنق المعتد بذاته، الذي يروج لمعرض تشكيلي يستضيفه المتحف بعنوان (المربع)، ليتولى شرح مفهوم المربع بشكل فلسفي حضاري كرمز للملاذ الآمن والحقوق المتساوية للجميع دون تراتبية أو طبقية، لتبدو رمزية المربع مزدوجة، مرة بوصفه السابق الذي يتبناه البطل ظاهريًّا، ومرة من زاوية اتصافه بالصرامة والجمود ما يشبه حقيقة البطل الرجعية المتعالية، كوجهين متناقضين للشكل نفسه والبطل نفسه، ما يشير التناقض بين الظاهر المثالي والحقيقة، يعرى البطل فيبدو بدائيًّا في حقيقته، تمامًا كإنسان الغابة الذي استخدمه كفقرة لإمتاع الضيوف حتى تحول إلى كابوس حقيقي، فذاك عارض فقرة، وكريستيان عارض أفكار فقط.

ثلاثيات التعاسة

 يأتي فيلم «مثلث التعاسة» مكملًا لهذه التعرية الاجتماعية بشكل أراده أوستلوند أقل غموضًا من المربع وأقرب للجماهيرية، فيه ما زال أوستلوند مشغولًا بفكرة الهدم كأداة تعرية وتفكيك لما تحت الظاهر، فيستخدم بذكاء شكل المثلث الهرمي بأضلاعه الثلاثة بمعانٍ وتقسيمات مختلفة ومتزامنة معًا، فالفيلم مقسم لثلاثة فصول متسلسلة معنونة، تشكل في ظاهرها ثلاث مراحل سردية ودرامية، توازي ثلاثة تدرجات في هرم الاحتياجات الإنسانية، تتزامن مع ثلاثة تدرجات طبقية، تمثلها ثلاثة أماكن أيضًا لكل جزء؛ البر، البحر، والجزيرة، تمثل بدورها ثلاث حالات حركية؛ الأرض (المدينة) ما قبل الإبحار، الإبحار، الغرق واللجوء للجزيرة، كل ذلك يسير ويتصاعد معًا في رمزية تتداخل بذكاء.

كارل ويايا والمدينة

الجميع يبحرون على يخت

   يأتي الفصل الثاني (على اليخت) برحلة بحرية على يخت فاخر، وقد بدأ التوتر الحركي بالإبحار، والتورط المكاني بالوجود في وسط البحر، لنعود للتقسيم الثلاثي بوجود ثلاثة طوابق لليخت؛ الدور الأعلى وبه نزلاء اليخت كطبقة مخملية شديدة الثراء والرفاهية، وقد استطاع كارل ويايا الالتحاق بهم بشكل ما، والدور الأوسط ويضم طاقم الموظفين أو الطبقة الوسطى ثم الطابق الأرضي تحت السطح وبه عاملو اليخت، نرى مظاهر الرفاهية الشديدة والتدليل لطبقة الأثرياء، في المعاملة وفي جودة الطعام والشراب وطرق التقديم وتلبية كل الطلبات مهما كانت، كمرحلة أخرى في هرم الاحتياجات تمثل مرحلة الحاجات الكمالية والرفاهية، نرى «ملك الغائط» تاجر الأسمدة كما يسمي نفسه وزوجته، وزوجين كبيري السن يتاجران في صنع القنابل، يأسفان لتخفيض قانون الألغام لأرباحهما، لتكون نهايتهما بانفجار أحدها فيهما، وتأمر زوجة تاجر الأسمدة طاقم المركب بأكمله بالسباحة معها باسم التعاطف معهم، مخلة بنظام اليخت، بينما طاقم اليخت الموظفون مجندون تمامًا لخدمة الأثرياء، كصيد ثمين للحصول على مكافأة مجزية.

   تبدأ مع هذا الفصل حالة من الكوميديا السوداء، بجانب بروز النزعة الطبيعية التي تجرد الأشخاص لمجرد تكوين طبيعي، فينزع شرفيتهم ومكانتهم، ويبني مشاهد مبهرة بطريقة الباروديا (المحاكاة التهكمية) بشكل صارخ، ففي حفل على شرف القبطان يبدأ تمايل اليخت بأثر الرياح الشديدة (كطبيعة خارجية)، مع وضوح الحالة الحسية من الشراب والطعام، فيحتسي الأثرياء كئوس الخمر الفاخرة، كسائل يدخل أجسادهم ممزوجًا بالمتعة، لتعاني خاصة أسوأ شخصياتهم من دوار البحر، فيتقيئون ما دخل جوفهم (طبيعة داخلية)، في مشهد تطهيري عقابي، يطيح بما اكتسبوه بجوفهم من خمر وبكبريائهم، فيختلط السائل الأصفر للخمر الفاخر بالسائل الأصفر المقزز للقيء بشكل سوداوي صارخ، في حالة من الهدم والفوضى، ليستمر التعبير الطبيعي بإخراج فضلاتهم الجسدية بكل الطرق، في مشهد يحط منهم ويتضاءلون فيه، خاصة مشهد قيء وإخراج المرأة الثرية صاحبة وقعة حمام السباحة، التي تمتهن في حمامها الشخصي بمشاهد إخراجها وإطاحتها أرضًا بفعل تطاوح اليخت، فقد رُدوا للطبيعة فهاجمتهم خارجيًّا وداخليًّا، حتى طفحت هذه السوائل الطبيعية المنفرة تتدفق كالسيل من كل أركان اليخت ومن تحت أبوابه، تجرف كل مظاهر الترف والأناقة، وتحولها لحالة مثيرة للغثيان، في مشهد سوداوي عبثي حاد السخرية ومبهر تنفيذيًّا وإخراجيًّا.

 تزداد سخرية المشهد بتبادل تراشق العبارات الأيديولوجية عبر الميكروفون؛ بين القبطان الأمريكي الاشتراكي والثري الروسي الرأسمالي وهما مخموران، كعبارة ماركس «جشعكم ليس سوى نتيجة لموقعكم في التسلسل الهرمي للاحتياجات المالية ولثرائكم الفاحش»، كخلفية مسرحية كرنفالية، تحرض ذهن المشاهد فتجعله قاضيًا وناقدًا إزاء ما يرى، كقضية مجتمع لا أفراد.

الجزيرة ورحلة الخليقة العكسية

  يأتي الفصل الثالث كنتيجة عقابية للنظم الموجودة، تحقيقًا للعدالة الشعرية، خاصة بتفجير اليخت بالصدفة بإحدى قنابل الثري صانعها، وكهبوط جديد في السلم الطبقي للمجتمع، لتصبح الحاجات الأساسية هي الهم الأكبر للجميع، وهو الجزء الذي جاء أكثر ضعفًا في تقديمه من الجزأين السابقين، فيبدو أميل لحالة تقريرية بعكس ما سبق، نرى فيه الأبطال الناجين على جزيرة ينقلب فيها المثلث الطبقي تمامًا، لتصبح عاملة الحمامات (أبيجال) سيدة الجزيرة، باعتبارها من تستطيع الصيد والطهو وتملك غواصة نجاة تمثل مسكنًا ومبيتًا آمنًا، تمتلك بذلك حاجاتهم الطبيعية الأولية من غذاء وأمن، وهي فكرة جيدة بالتأكيد لكن عدم مقاومتهم ورضوخهم السريع كان حلقة ضعف وتسطيح، صار الأثرياء عبيدًا لها ذليلي الكبرياء ببساطة مقابل الغذاء والبقاء، بينما ظل الموظفون كما هم أعلى قليلًا من الطبقة الدنيا وفي خدمة المالك مهما تغير.

تقدم قصة كارل ويايا وكأنها قصة الخلق بشكل عكسي؛ آدم وحواء من قمة التطور ارتدادًا لجزيرة وحياة بدائية، لنرى كارل من كان يعطي محاضرة طويلة ليايا عن عدم الاستغلال المادي باسم النوع الجنسي، فهو يبيع الجنس لأبيجال مقابل سمكة، فالمبادئ تسقط إزاء الحاجات الأولية، وينكشف زيف القيم والكبرياء، بينما تكتسب أبيجال أمراض الطبقة المتحكمة التي اعتادت السلطة والرفاهية، حين ارتفع سلم أولوياتها وحاجاتها، حتى تتوحش بصدام أخلاقي إزاء ما يهددها كمركز قوة جديد، كمسلسل لا متناهٍ في لعبة صراع البقاء وسلم الاحتياجات، نراها في مشهد مصيري يستدعي مشهد بدء الخليقة بين الأخوين قابيل وهابيل، لم نرَ مساره لكن نستدل عليه من تشابهه مع موقف سابق رأيناه كاملًا، اصطاد فيه أحد الناجين حمارة وقتلها بصخرة من أجل الطعام، ليكون أثر دمائها عليه مشابهًا لأثر دماء نراها على كارل لم تفسر في المشهد الأخير، ما يفتح قوس الاحتمالات أن يكون كارل قد شارك أبيجال جريمتها، أو ربما قتل أبيجال إثر جريمتها، لتنقلب الكوميديا السوداء لسوداوية خالصة، في بنية دائرية عبثية، وكأن هذا المثلث وإن قلب سيظل مصدر خلل وتعاسة يربط الجميع بشكل أو بآخر، ويدفع ثمنه الجميع.