على الرغم من الأهمية البالغة لظاهرة الأنبياء الكذبة في الفترة الأخيرة من حياة الرسول، إلا أن الأغلبية الغالبة من المصادر التاريخية الإسلامية قد قدمت تلك الظاهرة بشكل سطحي ساذج، وذلك بعدما نسبت لهم – أي مدعي النبوة – الكثير من الأشعار السخيفة التي قيل إنهم قد أرادوا أن يحاكوا بها القرآن الكريم، كما بالغ المؤرخون في وصف الحماقات والفواحش التي دعا هؤلاء الأنبياء الكذبة إليها، ولم يهتموا بتقديم تفسير موضوعي للأسباب التي حدت بالعشرات من القبائل القوية لتصديق تلك الدعاوى الباطلة وتأييدها ومنح أصحابها الطاعة الكاملة.

القراءة المتأنية لأحداث الفترة المبكرة للإسلام – ولا سيما عصر الخلفاء الراشدين – من شأنها أن تؤكد على أن ظاهرة ادعاء النبوة كانت – في حقيقتها – الخطوة الأولى في الإعلان عن البعد القبلي – على نطاق واسع – في الإسلام، ذلك أن القبائل التي خرجت عن الإسلام كانت في حقيقة الأمر تحاول أن تثبت هويتها من خلال اتباع زعمائها القبليين.

لذلك لم تكد حروب الردة أن تضع أوزارها، إلا ونجد أن السواد الأعظم من تلك القبائل – ومن بينهم بعض مدعي النبوة – وقد انخرطت في الجيوش المسلمة التي استهدفت التوسع العسكري خارج شبه الجزيرة العربية، قُبيل أن تعود تلك القبائل مرة أخرى إلى منافستها المحمومة مع قبيلة قريش، وهي المنافسة التي أطلت برأسها في أحداث الثورة على الخليفة الثالث عثمان بن عفان في 35ه، وما تبع ذلك من أحداث الحرب الأهلية بين العراقيين والشاميين.

الردة وادعاء النبوة: قبائل العرب ضد قريش

في العام التاسع من الهجرة قَدِم ممثلون عن الكثير من القبائل العربية إلى المدينة المنورة، حيث أعلنوا عن إسلامهم وبايعوا الرسول، وقد تزايد عدد هؤلاء الممثلين حتى عُرف هذا العام بعام الوفود.

الأمور تغيرت كثيرًا بعد وفاة الرسول في العام الحادي عشر من الهجرة، إذ أعلنت الكثير من القبائل عن رفضها لسيطرة قريش على الحكم، وفي هذا السياق ظهرت العديد من الحركات القبلية التي تنادي باتباع مجموعة من أدعياء النبوة، وعلى رأس هؤلاء أتى كل من طليحة بن خويلد، ومسيلمة، والأسود العنسي، ولقيط بن مالك، فضلًا عن سجاح العامرية.

مراجعة تاريخ القبائل التي ارتدت وناصرت الأنبياء الكذبة من شأنه أن يكشف – بوضوح – عن دور العامل القبلي في تلك الحركات، وكيف أن التحول الديني لم يكن سوى تجلٍّ من التجليات القبلية.

على سبيل المثال، سنجد أن أغلبية قبائل بني تميم وتغلب قد اتبعت سجاح، ومن المعروف أن تلك القبائل كانت كثيفة العدد في القرن السادس الميلادي، حتى قالت العرب فيهم المثل المشهور «من ضيع أصله، قال: أنا تميمي»، وقد تحدث الباحث العراقي الدكتور جواد علي عنهم في كتابه «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام» قائلًا: «أما في القرن السادس، فقد كانت تميم قبيلة بارزة ظاهرة، بطونها منتشرة في العربية الشرقية، وفي نجد وفي العراق، وفي أنحاء مختلفة من جزيرة العرب …».

قبائل تغلب أيضًا كانت من القبائل القوية، ومما يوضح تلك القوة ما ورد في كتاب فتوح البلدان لأحمد بن يحيى البلاذري المتوفى 278ه، أن عمر بن الخطاب قد وافق على مصالحتهم رغم اعتناقهم المسيحية، وأنه قد قبل منهم الصدقة كباقي المسلمين، وذلك لما أنفوا أن يدفعوا الجزية.

أما فيما يخص حركة طليحة بن خويلد الذي ادَّعى النبوة، واتبعته قبائل أسد وطيئ وغطفان، فسوف نجد الكثير من الأخبار المفسرة لها، ومنها على سبيل المثال ما ورد في تاريخ الرسل والملوك لأبي جعفر الطبري المتوفى 310ه، والذي جاء فيه الحديث عن معركة ذي قار التي نشبت بين بني شيبان وطيئ من جهة والفرس من جهة أخرى، وكيف أن تلك القبائل التي اتبعت طليحة فيما بعد، قد حققت انتصارًا هائلًا على الإمبراطورية الفارسية.

من هنا يمكن أن نتفهم ما ذكره جواد علي عن قبيلة طيئ، إذ يقول: «… وفي استطاعتنا أن نقول عن طيئ – وإن كنا لا نعرف شيئًا يُذكر من تاريخها في الجاهلية – إنها كانت ذات مكانة خطيرة في تلك الأيام، بدليل إطلاق اسمها عند بعض الكتبة الكلاسيكيين وعند الفرس والسريان وعند يهود بابل، على جميع العرب …».

الأمر نفسه ينطبق على قبائل مذحج اليمنية، والتي اتبعت مدعي النبوة المعروف باسم الأسود العنسي، والذي تمكن – في فترة وجيزة – من فرض سيطرته الكاملة على اليمن، وطرد البقية الباقية من الفرس، ولنا أن نتخيل قوة قبائل مذحج في هذا الوقت إذا قرأنا ما كتبه ابن حجر العسقلاني المتوفى 852ه في كتابه فتح الباري بشرح صحيح البخاري، إذ يقول إن ألف رجل من مذحج كانوا يقفون على باب العنسي لحراسته.

أما في عمان، فقد اتبعت قبائل الأزد مدعي النبوة المعروف باسم لقيط بن مالك، ولنا أن نتخيل قوة الأزد إذا رجعنا للقول المنسوب للرسول: «الأزد جرثومة العرب»، والذي يعني أن تلك القبائل هي أصل العرب ومعدنهم ومادة قوتهم، وبالإضافة إلى ذلك يمكن أن نفهم المركز المهم الذي تمتعت به تلك القبائل في شبه الجزيرة العربية، إذا ما طالعنا ما كُتب عن واحدة من أعظم المدن التي سكنوها، وهي مدينة دبا، والتي تحدث عنها جواد علي فقال: «وكان يقصد سوق (دبا) تجار السند والهند والصين ومواضع أخرى، فهي سوق عظيمة كبيرة، ذات تجارة مع العالم الخارجي …».

على الدرب نفسه، سار مسيلمة بن حبيب – الذي اشتهر بالكذاب – إذ نجده قد أعلن عن نبوته وسط قبائل بني حنيفة القوية، تلك التي انتشرت على مساحات واسعة في نجد واليمامة، وما لبثت دعوته أن حققت نجاحًا مدويًا وسط تلك القبائل المتطلعة للسلطة، ومما يشهد على ذلك القول المشهور الذي جاء فيه أن بعض الأفراد من تلك القبائل قد بايع مسيلمة رغم تأكده من كذبه، ولما سُئل عن سبب ذلك، قال: «كاذب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر» يقصد النبي محمد عليه السلام.

من هنا، يمكن القول إن حركات ادعاء النبوة قد اندلعت بسبب رغبة بعض القبائل العربية القوية في الاستحواذ على السلطة، الأمر الذي تم إفشاله تمامًا في فترة خلافة أبي بكر الصديق.

التوسعات العسكرية: الدولة تدجن الروح القبلية

 في كتابه «الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر»، ربط الباحث التونسي هشام جعيط بين البعد القبلي والتوسعات العسكرية التي بدأت بعد القضاء على حركات الردة والقضاء على الأنبياء الكذبة، فقال: «إنه ما من شيء وحَّد العرب كالفتح».

في الواقع، بدأ هذا التوحد بالتزامن مع خلافة عمر بن الخطاب، وكان السبب في ذلك أن الجيوش الإسلامية المقاتلة على جبهات العراق والشام، قد احتاجت لقوات إضافية لتعزيز قدراتها العسكرية، الأمر الذي حدا بالخليفة الثاني ليسمح بمشاركة القبائل التي سبق أن أعلنت عن ردتها في الحروب والمغانم، بل شجعه أيضًا على تقديم بعض المرتدين السابقين، دون تعيينهم في مناصب قيادية، ومن ذلك أن عمر  قد أرسل بكل من طليحة بن خويلد وعمرو بن معد يكرب إلى سعد بن أبي وقاص على الجبهة العراقية، قُبيل معركة القادسية في السنة الخامسة عشرة من الهجرة، وكتب إليه «قد وجهت إليك – أو أمددتك – بألفي رجل؛ عمرو بن معد يكرب وطليحة بن خويلد فشاورهما في الحرب ولا تولهما شيئًا»، وذلك بحسب ما يذكر نور الدين الهيثمي المتوفى 807ه في كتابه مجمع الزوائد ومنبع الفوائد.

هذه القبائل ستسهم بنصيب وافر في الانتصارات العسكرية التي تحققت في ميادين المعارك، فعلى سبيل المثال يذكر الواقدي المتوفى 207ه في كتابه «فتوح الشام» أن بعض القبائل اليمنية مثل حمير ومذحج قد لعبت دورًا مهمًّا في التوسعات العسكرية في بلاد الشام. أما الطبري فقد تحدث عن الأدوار التي اضطلعت بها قبائل تميم وتغلب وربيعة في التوسعات العسكرية التي تحققت على الجبهة الفارسية، وفي السياق نفسه، ذكر ابن عبد الحكم المتوفى في 257ه في كتابه «فتوح مصر والمغرب» أن القوام الأساسي للجيش العربي الذي استولى على مصر، كان من القبائل اليمنية التي سبق لها اتباع الأسود العنسي.

الثورة على عثمان: الروح القبلية تبعث من جديد

في نهايات 35ه اندلعت الثورة ضد عثمان بن عفان، وسرعان ما قُتل الخليفة الثالث على يد المعارضين، لينقسم العالم الإسلامي في هذا الوقت إلى معسكرين – العراقيين والشاميين – ولتشتعل الحرب فيما بينهما.

إذا ما بحثنا في أسماء وأصول كبار قادة الثورة – ومنهم على سبيل المثال كل من صعصعة بن صوحان وأخيه زيد وهما من قبيلة عبد القيس، وعمير بن ضابئ من قبيلة بني تميم، والأشعث بن قيس من قبيلة كندة، والأشتر النخعي من قبيلة مذحج – سنجد أن أصول الأغلبية الغالبة منهم تعود إلى القبائل التي شاركت من قبل في حركة الردة.

دور العصبية القبلية في الثورة يظهر في الكثير من المحادثات التي تمت بين الثوار ورجال السلطة من القريشيين، على سبيل المثال ذكرت المصادر التاريخية أن جماعة من أهل العراق الذين رفضوا سياسات عثمان بن عفان، قد تم نفيهم إلى بلاد الشام بأمر من الخليفة.

فلما حضروا عند الوالي معاوية بن أبي سفيان، دار بينهم وبينه حديث طويل، وظهر البعد القبلي في ذلك الحوار بشكل واضح، ومن ذلك أن معاوية قد قال لهم فيما قال: «قد بلغني أنكم نقمتم قريشًا؛ لو لم تكن قريش كنتم أذلة، إن أئمتكم لكم جُنة، فلا تفترقوا عن جنتكم …»، فرد أحدهم عندها وقال له: «كم تكثر علينا من الإمرة وبقريش، فما زالت العرب تأكل من قوائم سيوفها، وقريش تجار».

معاوية ضاق ذرعًا بهؤلاء العراقيين، وأرسل بهم إلى حمص، فلما وصلوا إلى مجلس الوالي عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، أراد أن يخوفهم، فأغلظ لهم القول، وذكرهم بماضيهم القريب، وبما قاموا به زمن الردة، وكيف أن والده خالد بن الوليد قد نجح وقتها في الانتصار على قبائلهم، فكان مما ذكره: «لا مرحبًا بكم ولا أهلًا … أنا ابن خالد بن الوليد، انا ابن من عجمته العاجمات، أنا ابن فاقي الردة …»، وذلك بحسب ما يذكر أبو بكر ابن العربي المتوفى 543ه في كتابه العواصم من القواصم.

هذه الظاهرة القبلية ستعبر عن نفسها مرة أخرى بعد اعتلاء علي بن أبي طالب لكرسي الخلافة، فرغم أن الأغلبية الغالبة من الثوار – الذين تعود أصولهم للقبائل المرتدة – قد انضموا لصف الخليفة الرابع، فوقفوا معه وساعدوه في حروبه ضد أعدائه، إلا أنهم قد أبدوا غضبهم من كونه قد سار على خطى الخلفاء الثلاثة الذين تولوا الأمر قبله، وذلك عندما قام بتعيين أكثر الولاة والعمال من قبيلة قريش على وجه التحديد، الأمر الذي حدا بواحد من كبار هؤلاء الثوار – وهو الأشتر النخعي – للتساؤل: «على ماذا قتلنا الشيخ – يقصد عثمان بن عفانو- أمس إذن؟» وذلك بحسب ما يذكر محمد باقر المجلسي المتوفى 1111ه في كتابه بحار الأنوار.

ختامًا، يمكن القول إن حركة الردة وادعاء النبوة التي سادت أغلب مناطق شبه الجزيرة العربية بعد وفاة الرسول مباشرة، كانت حركة قبلية سياسية بالمقام الأول، وإن حاولت أن تتلبس بالثوب الديني المقدس، وبالمنطق نفسه يمكن وصف الثورة التي قامت ضد حكم الخليفة عثمان بن عفان، بأنها حركة قبلية مناهضة لتسلط قبيلة قريش، وأنها – أي تلك الثورة – لم تكن إلا تجلٍّ جديد من تجليات الظاهرة القبلية في بلاد العرب.