امتنعت قريش عن دعوة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، وظنوا أنه يُغيِّر دين آبائهم، وقالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا، لكن أليست قريش من نسل النبي إسماعيل، فكيف رجعوا بعده لعبادة الأوثان؟ وكيف عبد العرب من بعدهم أصنام قوم نوح؟ ومن وضع قوانين الكهانة وابتدع فكرة الوسيلة والسائبة والحامي؟

أول ساكني مكة

كانت قبيلة «جرهم» (يمنية الأصل) أول من سكن مكة، وجاور السيدة هاجر وولدها النبي إسماعيل (عليهما السلام) بعد أن تفجرت بئر زمزم في الوادي، وظهرت استجابة الله لدعاء خليله إبراهيم (عليه السلام) بعد أن أسكن ذريته بوادٍ غير ذي زرع، فهوت إليهم أفئدة الناس، وكان هؤلاء الناس هم قبيلة جرهم، الذين صاروا بعد ذلك أخوال العرب كلهم، بعد أن تزوج النبي إسماعيل (عليه السلام) منهم مرتين، وطلق امرأته الأولى بوصية من أبيه إبراهيم، وكانت زوجته الثانية السيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي، وهي التي ولدت له أولاده الاثني عشر، وأكبرهم نابت الذي تولى حكم مكة ورعاية البيت بعد أبيه إسماعيل.

لكن لم يدم الحكم لبني إسماعيل، حيث انتقل الحكم بعد موت نابت لقبيلة جرهم، وكان أول من تولى منهم مضاص بن عمرو بن سعد بن الرقيب بن هين بن نبت بن جرهم. [1]

اكتملت سيادة قبيلة جرهم على مكة بعد حربهم مع قبيلة قطوراء، وكانت كل قبيلة منهما تسيطر على مدخل لمكة، ويفرضون مقابلًا للدخول للبلد عبر المنطقة التي يحكمونها، غير أن بني جرهم كانت لهم ولاية البيت، ويواليهم بنو إسماعيل، ويُقال إن موقع خروج كل فرقة سُمي لوصف خروجهم للحرب ذلك اليوم، فخرجت جرهم من قيقعان بالرماح والسيوف، فأتى اسمها من «القعقعة»، وخرجت قطوراء على رأسهم السميدع بالخيول والرجال، ولذلك سميت أجياد باسمها لكثرة خيول السميدع، وانتهت الحرب بانتصار جرهم، وقَتَلَ سيد جرهم «مضاض بن عمرو» سيد قطوراء «السميدع»، ثم لجأت القبيلتان للصلح، وسلموا الأمر لمضاض، فانتهى إليه حكم مكة وولاية البيت. [2]

بداية عهد جديد

سرت عادة الحكم على قبيلة جرهم أيضًا، وعند وصولهم للجيل الثالث من الحكام، كانوا قد استحلوا الأموال المُهداة للبيت الحرام، واستأثروا بأغلبها لأنفسهم، وطال الانتهاك إلى حرمة البيت نفسه لا أمواله فقط، كانت وظيفتهم الأساسية هي الحفاظ على قدسية البيت، والقيام على شئونه وشئون زائريه، لكنهم تخلوا عن الوظيفتين، واتجه سعيهم للنفوذ والسيادة والثراء.

كانت ولاية البيت قد وصلت لعمرو بن الحارث بن مضاض، وكان بنو إسماعيل متفرقين في شبه الجزيرة العربية كلها، وكانت قبيلة خزاعة (وهي من القبائل المهاجرة للكعبة من اليمن) تنزل جوار الحرم، فلما رأوا من جرهم وسادتها التساهل في الحفاظ على حرمة البيت، واستحلال أمواله، حاربوهم، ولما تأكد لعمرو بن الحارث سيد جرهم خسارته الحرب، وصدر الأمر بحقه وكل قبيلته بالنفي من مكة، وكانتقام أخير دفن كنوز قبيلته (ويقال إن منها غزالتين من ذهب)، ولم يكتفِ بمجرد دفن أمواله للحفاظ عليها من أن تُسلب، بل كان انتقامه الأساسي أن طمس بئر زمزم، فلم يهتدِ لمكان البئر أحد، حتى زمن عبد المطلب جد الرسول، الذي رأى مكان البئر في رؤيا، وأعاد حفرها، ليسقي منها أهل مكة والحُجَّاج لها.

بانتصار خزاعة بدأ عهد جديد، لم يقتصر التغيير فيه على اسم القبيلة الحاكمة، بل امتد لتغيير دين الحنيفية كله بظهور عمرو بن لحي.

هُبَل في مكة

السيد المطاع، قوله أمر، وفعله قانون لا يخالفه فيه أحد، عمرو بن لحي سيد خزاعة، كان أغنى قومه، وأعلاهم مقامًا، وأكثرهم إنفاقًا وكرمًا، يذبح للحجيج من البدن ما يصل لعشرة آلاف، لذلك لم يجد من يراجعه عندما نشر دينه الجديد.

أتي عمرو بن لحي بهُبَل من إحدى رحلاته للشام، وجدهم يسجدون لصنمٍ من العقيق الأحمر، ولما سألهم قالوا إنه يجلب لهم المطر والرزق وينصرهم على أعدائهم، فرجع به لقومه يعبدونه ويقدسونه ليقربهم إلى الله زلفى.

وكان مما ابتدعه عمرو بن لحي وضع سبعة أقداح عند هبل، يستعين بها الناس قبل أخذ قرارات السفر أو التجارة أو الزواج، ويظهر لهم إما «أمرني ربي» أو «نهاني ربي»، كما غيَّر التلبية المتواترة من عهد النبي إبراهيم إلى «لبيك اللهم لبيك! لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك». [3]

وكان بنص الحديث النبوي أول من بحَّر البحيرة، وسيَّب السائبة، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي. والبحيرة هي الناقة تلد خمسة أبطن، فإن كان الخامس أنثى شقُّوا أذنها وحُرِّمت على النساء، والسائبة من الأنعام كانوا يسيبونها ولا يركبون لها ظهرًا، ولا يحلبون لها لبنًا. والوصيلة هي الشاة تلد سبعة أبطن، فإن كان السابع ذكرًا أو أنثى قالوا وصلت أخاها، فلا تُذبح، وتكون منافعها للرجال دون النساء، فإذا ماتت اشترك فيها الرجال والنساء. والحامي الفحل ينتج من ظهره عشرة أبطن فيقولون قد حمى ظهره فيسيبونه لأصنامهم ولا يُحمل عليه.

استغل عمرو بن لحي قدوم القبائل العربية على مكة لنشر دينه الجديد، ولم يكتفِ بعبادة هبل فقط، بل بعث مع القبائل الأصنام التي عبدها قوم نوح قديمًا، ود وسواع ويغوث ويعوق ونسرى، ويروى أنه لم يعرفها بمجهود ذاتي، وإنما كان له شريك من الجن أوحى إليه بمكان دفن أصنام قوم نوح، وأشار عليه بإرسالها مع قبائل العرب ليعبدوها.

استمرت سيطرة خزاعة على مكة ما يقرب خمسة قرون، استقر فيها دين عمرو بن لحي، بدون استجواب أو مناقشة. وكان آخر من حكم من خزاعة هو حليل بن حبشية بن سلول بن كعب، وكان له ابنة هي حبى التي تزوجت من قصي بن كلاب، وهو الذي جمع قريش وأسس نظام حكمها، وأعاد ولاية البيت من خزاعة لبني إسماعيل، وهو أبو عبد مناف جد جد الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم).

المراجع
  1. ابن كثير، البداية والنهاية، باب ذكر بني إسماعيل.
  2. سيرة ابن هشام.
  3. محمد لطفي جمعة، ثورة الإسلام وبطل الأنبياء: أبو القاسم محمد بن عبد الله.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.