لم يقتصر تأثير محاولة الانقلاب العسكري في تركيا على الرأي العام التركي فقط، ولكنه انتقل كموجات كهرومغناطيسية إلى المحيط الاقليمي والدولي، وقد نجح الحدث في جذب جماهير عريضة بين مؤيدة له وما بين معارضة من مختلف التيارات الفكرية والانتماءات السياسية. الرأي العام العربي كان الأكثر متابعة وذلك لعدة مسببات؛ أهمها ما يكتسبه الرئيس أردوغان من كاريزما سياسية ومواقف سياسية إسلامية وعربية لدى كثير من أبناء الوطن العربي، اعتبار التجربة التركية مقياسًا للدولة الإسلامية المتقدمة القوية لدى كثير من أبناء الصحوة الإسلامية، إعجاب الكثير من العرب بصراع أردوغان مع المؤسسة العسكرية، وأخيرًا موقف أردوغان من نظام الحكم في مصر وتصريحاته الدائمة للانقلاب في مصر.

لكن لم يكن تأييد أردوغان ذا حظ وفير؛ فبالرغم من تأييد وإعجاب قطاعات عديدة من التيارات الإسلامية والعلمانية الرافضة للانقلابات العسكرية كوسيلة للحكم، حظي أردوغان أيضًا برفض قطاعات أخرى من أنصار نظام الحكم وأذرعه الإعلامية التي تسارعت نحو التهليل بنجاح الانقلاب في ساعاته الأولى، فيما لاقى أردوغان ونظامه نوعًا آخر من رد الفعل جمع بين تأييده وانتقاده وهو الموقف الحقوقي، فما هو مضمون موقف الحركة الحقوقية من الانقلاب العسكري؟، وهل يمثل هذا خطًا ثابتًا فكريًا لديها؟، وما هو موقفها من الإسلاميين؟.

بني الموقف الحقوقي على آراء نشطاء الحركة الحقوقية الفردية في تغريدات على مواقع التواصل الاجتماعي، في حين غابت البيانات الرسمية أو الجماعية من كيانات الحركة، وقد حمل الخطاب الحقوقي عدة مضامين أهمها:

1. ضد الانقلاب، ضد ديكتاتورية أردوغان

حماية حقوق وحريات الإنسان الأساسية في ظل رعاية مظلة الدستور والقانون هو الأساس المكون للمنطلق الفكري للتيارات الحقوقية التي نشأت كرد فعل على الانتهاكات الصارخة من قبل الأنظمة السياسية المستبدة ضد الفئات الغفيرة والمهمشة والمستضعفة، ومن هنا مثّل حق المحاكمة العادلة والناجزة أساسًا قانونيًا ودستوريًا في إصدار الأحكام القضائية في جميع الظروف فلا توجد محاكمات استثنائية.

وبناءً على هذا التوجه حمل الخطاب الحقوقي في أعقاب محاولة الانقلاب التركية نقدًا لما يمكن تسميته بالإجراءات اللاحقة للانقلاب من بين فصل عدد من القضاة والمعلمين والأئمة بدعوى دعم الانقلاب والتنكيل بالضباط وفي ظل غياب سيادة القانون، فيما اعتبر البعض هذه الإجراءات والسياسات ما هي إلا تصفية وانتقام من معارضي الرئيس، فيما انتقد البعض الإجراءات اللاحقة للانقلاب التي اتخذتها الحكومة التركية دون البحث في الأسباب التي أدت إلى مثل هذا التحرك.

الديكتاتور.

Gepostet von Negad El Borai am Montag, 18. Juli 2016

2. خوفًا على الديمقراطية

https://twitter.com/MohAboelgheit/status/754349037684416512

المبدأ الثاني الذي تأسس عليه الخطاب الحقوقي بشكل عام هو مسألة هندسة الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة واحترام إرادة الشعوب عبر انتخابات نزيهة، ومن هذا التوجه أبدى التيار الحقوقي تخوّفه من تحول أردوغان في أعقاب الانقلاب إلى ديكتاتور.

فقد اتهم التيار الحقوقي أردوغان بالديكتاتور ومعادٍ للحريات ومنها حرية الصحافة والإنترنت وحرية التعبير، فيما عارض البعض عرض صور ضرب الجنود المجندين العزّل بعد استسلامهم باعتبار أن مثل هذا التصرف يتناقض مع أخلاق وقيم الديمقراطية، فيما تخوّف البعض من مصير تركيا المجهول في ظل أجواء حرب أهلية وتراجع للديمقراطية وانتهاكات حقوق الإنسان.

3. سيادة القانون أقوى من الدبابة

تنطلق الرؤية الفكرية والأيديولوجية للتيار الحقوقي من ركيزة أساسية تقوم على فكرة الدولة المدنية حامية للحقوق والحريات لا يكون للقوة العسكرية دور سياسي فيها إلا لحماية الحدود والأمن، فموقعه في الثكنات لا قصور الحكم؛ ومن هنا مثّل رفض الانقلابات العسكرية كوسيلة للوصول إلى الحكم أحد الثوابت الفكرية، فيما تمثل الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة الوجه الآخر للحكم، كما أن الفعل الثوري الشعبي لإزاحة الاستبداد هو الوجه الثالث لشرعية الحكم لدى التيار الحقوقي.

من هذا المنطلق اتجه الخطاب الحقوقي على تغريدات نشطاء التيار على تويتر وفيسبوك بالتأكيد على رفض الانقلاب العسكري مع التحفظ على نظام أردوغان وشخصه؛ فهو معادٍ لحرية الصحافة والإنترنت والتعبير ولديه جنون العظمة والسلطة، ولكن يرى النشظاء بأن البديل العسكري أسوء بكثير، فيما يرى ناشطون بأن موقف الشعب التركي الواعي ونزوله للشارع لاعتقال الضباط الانقلابيين إنما يعبّر في الأساس عن أن سيادة القانون أقوى من الدبابة وأن مهمة الجيوش هي الحماية لا الحكم.


هل يعادي التيار الحقوقي الإسلاميين؟

الاتهمامات المتبادلة بين التيار الإسلامي والحقوقي يبدو أنها ستظل باقية مع ديمومة الخلافات الفكرية بين التيارين، فالتيار الإسلامي دومًا ما يتهم التيار الآخر بالتحيز ضد الإسلاميين والتعامل وفقًا لمتطلبات المصلحة الفردية للمنظمات أو الشخصية انطلاقًا من قيم العلمانية، فيما يذهب التيار الحقوقي إلى تبني خطابٍ معارضٍ للتيار الإسلامي من انطلاق تمسكه بفكرة الخلافة الإسلامية وتطبيق الشريعة الإسلامية.

الخلاف بين الفريقين ليس وليد الأمس، ولكنه تشكّل في ظل نظام مبارك والذي حاول بشكل منهجي أن يخترق التيارين بأجهزته الأمنية، وذلك بالرغم من أن مؤسسي الحركة الحقوقية في مصر في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي أمثال أحمد نبيل الهلالي وقفوا بجانب المعتقلين الإسلاميين الذين اتُهموا في اغتيال رفعت المحجوب فيما عُرِف بمرافعة القرن.

ظلت العلاقة بين التيارين مترنحة بين المد والجزر في ظل الالتقاءات الفكرية بين الاثنين في رفض الاستبداد والفساد والتعذيب، وقد جمعت ثورة يناير بين التيارين، ولكن الاختلاف تجدد مرة أخرى حينما وصل الإخوان المسلمون إلى سدة الحكم. وفي ظل الأزمات التي شهدتها تلك الفترة اتجه الخطاب الحقوقي حول نقد الرؤية الإسلامية للحكم ومنهجها الفكري، وندّد الحقوقيون آنذاك بالسياسات والممارسات التي دفعت بالشعب إلى الدعوة لإسقاط نظام محمد مرسي، ولكن قرارات 3 يوليو شكلت تحولاً فكريًا وأحدثت خللاً موقفيًا لدى البعض حول قبول حكم العسكر بدلاً من الحكم الديني وقبول الدم لفض اعتصام رابعة.

في أعقاب 3 يوليو ومع استصدار قانون التظاهر ومحاولة خنق مساحة المجال العام وكبت الحريات ومنها حرية المجتمع المدني وحرية الصحافة والإنترنت وتداول المعلومات، ومع تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، ومع تدهور الأوضاع الأمنية وعودة الدولة الشرطية لتقييد الحريات واعتماد الاختفاء القسري والتعذيب في السجون والاعتقالات العشوائية كأسس لتوجه الدولة نحو تحقيق دولتها القوية، وهو ما دفع إلى تنافر قوى المجتمع المدني في وقت مبكر بعد 3 يوليو عن النظام الجديد ودخول مرحلة جديدة من صراع الدولة مع المجتمع المدني ومخاصمة منظمات حقوق الإنسان.

في تلك الأثناء تزايد قمع الدولة للقوى الإسلامية واكتظت السجون بمعتقلي الرأي والتعبير، وهو ما دفع إلى طرح ثلاثة توجهات من قبل التيار الحقوقي حول الدفاع عن المعتقلين الإسلاميين، فالتوجه الأول كان رفض الدفاع عن التيار الإسلامي باعتبارهم إرهابيين، والتوجه الثاني كان يرى ضرورة الدفاع عنهم لتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان، والتوجه الأخير رأى ضرورة الدفاع عنهم من أجل ضمان محاكمات عادلة وناجزة لهم.