لطالما هتف نابليون الأول مقولته الشهيرة «القسطنطينية! القسطنطينية! إنها إمبراطورية العالم!» في إشارة منه إلى أن العالم لو كان بلدة واحدة لكانت إستانبول عاصمتها، وفي هذا نظرة عميقة حول فكر هذا القائد العسكري الكبير، وإننا نفهم من هذا أنه صاحب مشروع عسكري واسع، ويدل ذلك على مركزية هذه المدينة، أو باللغة المعاصرة «الموقع الجيوستراتيجي» المهم للجمهورية التركية، وأن تكون الدولة مركزية، يعني أنها ستواجه الكثير من السياسات المعقدة!

فالمكانة المركزية سياسيًا التي تتمتع بها الجمهورية التركية، ساهمت في صنعها الاتفاقيات الكثيرة التي عُقدت في أواخر الدولة العثمانية، ساعدت على تكوين هذه الجغرافيا الأناضولية. وليس شرطًا أحدها، إنما كل اتفاقية، تخص البقعة التي احتوت على ما يقارب الأربعين دولة، لها علاقة في تشكيل هذه البؤرة التي سببت توترًا للدول الأوروبية على مدار قرون.

أريد لتركيا منذ القدم أن تكون حاجزًا اسمنتيًا بين الغرب وثورة القيصر الناشئة، ولم يكن مخططًا لها أن تلعب دورًا مهمًا في هذه المنطقة

عندما نشبت الثورة الشيوعية في أكتوبر/تشرين الأول الأحمر عام 1917 كانت قد سببت قلقًا في وقت غير مناسب للقيادات الأوروبية التي انتصرت في الحرب العالمية الأولى، فلم يعتقدوا حينما كانوا في نشوة انتصارهم على دولة «الرجل المريض»، أنْ تخرج لهم دولة تقضّ مضاجعهم لعقود تالية، وهذا هو السبب الرئيس لإبقاء دولة في الأناضول لتبقى حاجزًا طبيعيًا بينهم وبين الدب الشاب الذي دعمته ألمانيا آنذاك.

فيمكننا أن نقول أن تركيا الحالية قد تشكّلت بالجملة نتيجة القلق الإنكليزي الفرنسي من الثورة التي حصلت في روسيا القيصرية، وها نحن اليوم نشهد الذكر الـ25 لاتفاقية «بيلوفيجسكايا بوشا» في 8-12-1991م، التي قررت تغيير سياسة الاتحاد السوفييتي كحدث تاريخي شهد ضعف هذا الاتحاد أمام الغرب، وكأول حادثة كانت تؤرخ لانهيار الثورة البلشفية بعد 74 سنة من قيامها، لذلك ما هو موقف الغرب من تركيا تجاه زوال أهم مخاوفهم؟


لقد حاول الغرب أن يبقي تركيا لعقود طويلة كالأخرس الأصم تجاه قضايا الشرق الأوسط عمومًا، والعربية الإسلامية خصوصًا، وهذه المهمة التي حددتها لها دول الحلفاء التي انتصرت، وفرضت شروطًا قاسية عليها، وشكلت بذلك طبيعة السياسة الخارجية لتركيا، وبناءً عليه كانت تركيا كلما فتحت آذانها تجاه قضية معينة كان لزامًا عليها توخي ضربات مختلفة النسب بالقدر الذي تنفتح على قضايا الشرق الأوسط، والإسلامي منها بالتحديد، وأن تستعد لخطبٍ جلل قد يحصل! وهذا ما يفسر حصول محاولة الانقلاب في ليلة الـ 15 من يوليو/تموز.

فصراع القوى العالمية حول المنطقة لا ينتهي، وكما تقول الحكمة المنسوبة لأفلاطون «وحدهم الأموات من سيشهدون نهاية الحرب»! في إشارة منه إلى أبدية الحروب.

فهذه النزاعات هي سبب كل الفوضى التي ترونها، أي أن النوايا الدولية لا ترى تجاه بعضها الخير، وقد طفحت إلى السطح هذه النوايا وانكشفت، وإذا أردتم معرفة شكل الصراع الغربي الشرقي القبيح، فانظروا إلى ما يحصل في حلب اليوم، نعم إنها قباحة ليس لها مثيل.

ولهذا الصراع انعكاسات، أهمّها الهجرة الدولية من بؤر التوتر كسوريا والعراق إلى الغرب، ووجود دولة مثل تركيا تستقبل هذه الكميات الهائلة من اللاجئين سبب كشف العنصرية الغربية تجاه هؤلاء المساكين الذي كانوا سببًا لهذه السياسة اللئيمة تجاه سوريا والعراق – على سبيل المثال لا الحصر – فمبدأ السياسة التركية تجاه الأزمات الإنسانية هو أنها لا تغلق الأبواب تجاه من يهربون ويعانون من هذه المشاكل، كما أكّدت على ذلك المصادر الأمنية في تركيا، وهذا هو أهم الأسباب الذي يجعل الغربيين يقبلون بوجود تركيا، إنها الوسادة التي تقيهم بأسهم، وتحميهم من انعكاسات مؤامراتهم في الشرق الأوسط!

ضم تركيا للاتحاد من عدمه لا ينفي العلاقة الوثيقة لتركيا بالقارة العجوز، فتركيا تحتاج إلى أوروبا بذات القدر الذي تحتاجها به أوروبا

يمكننا أن نفهم من التصريحات المتباينة التي قد تصل إلى حد التعادل في القارة الأوروبية، بأن تركيا لا يمكن أن تكون دولة شرقية أو غربية، إنما هي مركزية، وقد تحوي دول كثيرة هذه الخاصية، ولكن ليس بالقدر الذي تحتمله تركيا، وذلك لعدة أسباب منها؛ الثقافة الجوامعية التي تشكلها بالتعايش لمختلف العرقيات والإثنيات وحتى الأديان، وعدم تدخل الدولة بإشعال الفتن من أي نوع بين تلك الثقافة. والمكانة السياسية والإستراتيجية التي كسبتها على طول القرون وطورتها، وحسن تعاملها مع مختلف الطرق الدولية التي تحوي الموارد الاقتصادية عبر الشرق والغرب، وأخيرًا أنها تشكل الحاجز للصراعات بين تلك المحاور؛ فهي قابلة لاستيعاب كمّ هائل من الخلق بلا أية مصاعب، ولعل النظرة الحكيمة لرئيس المفوضية الأوروبية «جان كلود يونكر» عادلة بعض الشيء حين قال: «أنّ تركيا تحتاج إلى أوروبا بالقدر نفسه الذي تحتاج فيه أوروبا إلى تركيا».

قد لا يتقبل الاتحاد الأوروبي ضمّ تركيا إليه، ولكنها شريك عسكري مهم في حلف الناتو، وقسيم لتنظيم العلاقات الشرق أوسطية مع هذه القارة، والعلاقات ستبقى مستمرة وقائمة، وإن لم تكن جزءًا من هذا الكيان، وهذا ما بيّنه وزير شؤون الاتحاد الأوروبي التركي عمر تشليك: أنّ «علينا التعاون أكثر مع الاتحاد الأوروبي في المستقبل». وهذا ما ينسجم مع تصريح مسؤولة العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي فريدريكا موغريني أنّ: «قنوات الإتصال بين الاتحاد وتركيا يجب أن تبقى مفتوحة»؛ وبناءً عليه يكون القرار الشكلي والمسايِس، وغير الملزم بشأن تركيا، والذي وصفه الوزير تشيلك بـ«الأعمى والهامشي»، يتمحور حول تلك العضوية، ولكنّه من المستحيل أن يعدم هذه العلاقات، والفائدة ستكون لأوروبا في القضايا الأمنية بالدرجة الأولى، وللأسباب آنفة الذكر، ولا يجب أن ننسى أن السيد عمر تشيلك اسمه «وزير شؤون الاتحاد الأوروبي»!

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.