في الحقيقة لست من عشاق الدراما التلفزيونية ولا السينمائية، لكنني من عشاق الإثارة بكل تأكيد، ولذلك كنت حريصًا في الفترة الماضية على متابعة الدراما التركية التاريخية. ولأنني أعلم أنه سيتم بث مسلسلين من أهم المسلسلات التي تتحدث عن التاريخ التركي؛ ألا وهما: مسلسل «قيامة أرطغرل»، ومسلسل «السلطانة كوسيم»، والمسلسلان مدعومان من تيارين متعارضين في تركيا، حيث يدعم التيار المحافظ الحاكم مسلسل «قيامة أرطغرل»، لدرجة زيارة رئيس الجمهورية موقع التصوير، وتحيته للفنانين، وذلك في حين يدعم المعارضون العلمانيون «سلسلة القرن العظيم»، والتي منها مسلسل «السلطانة كوسيم»، لمَ لا وصاحب شركة الإنتاج هو راعيهم «أضن دوغان» إمبراطور الإعلام التركي وأعدى أعداء حكومة العدالة والتنمية المحافظة؟!.

وفعلًا، كان الأمر كما توقعت في مسلسل «قيامة أرطغرل»، سواء بجزئه الأول، أو ما تم عرضه من الجزء الثاني، حيث كان محتوى المسلسل محافظًا جدًا، ركز على القبيلة التركية المهاجرة في بلاد الشام والتي تريد الاستيطان شمال سوريا وتصطدم بما تبقى من قلاع للصليبيين في القرن السابع الهجري، وركز المسلسل على إضفاء الطابع الديني للصراع مع الصليبيين الذين أسروا مسلمًا تركمانيًا من قبيلة كيالي (قبيلة أرطغرل بطل المسلسل ووالد عثمان الذي أسس الدولة العثمانية) اسمه تورغوت، ثم ضغطوا عليه ليتنصر، وعندما رفض، سحروه ونصروه. وكذلك ركز المسلسل على إبراز التسامح الإسلامي متجسدًا في ابن عربي الحاتمي الذي يعفو عن جندي صليبي حاول قتله وسرقته مما يجعله يدخل الإسلام، بل إنه يستشهد ويكون سببًا في فتح المسلمين لقلعة الصليبيين الحصينة؛ وذلك لأنه يراسل المسلمين الأتراك بالحمام الزاجل ويعلمهم عورات الصليبيين.

بالغ المسلسل في إظهار الطابع الصوفي للأتراك، فلا توجد حلقة إلا وفيها تذكرة أو موعظة من ابن عربي تدعو إلى المحبة و التسامح، بينما كان الصليبيون يستميتون في قتل وتعذيب الأسرى المسلمين ومحاولة تنصيرهم. وركز المسلسل بشكل عام على إبراز القبيلة التركية كحامية لحمى الإسلام والمسلمين وحائط صد ضد الصليبيين الذين كانوا يتآمرون أملًا في احتلال مدينة حلب وضمها للإمارات الصليبية كأنطاكية وعكا وطرابلس.

مسلسل «قيامة أرطغرل» مسلسل عنيف وقتالي، يمكن اعتباره من مسلسلات الأكشن، حيث لا تخلو أية حلقة من حلقاته من مشاهد العنف والقتال بالسيف والرمي بالنبال. وأكثر المخرج من إظهار بطل المسلسل أرطغرل مقاتلًا على صهوة جواده، فلم يحدثنا عن أرطغرل العاشق، ربما كان هذا بدوافع أيديولوجية و إرضاءً للجمهور المحافظ المتابع للمسلسل من القوميين الأتراك سواء كانوا في حزب الحركة القومية أو العدالة والتنمية أو حزب السعادة.

وعلى النقيض من هذا، كان مسلسل «السلطانة كوسيم» أو الجزء الخامس من «سلسلة القرن العظيم» الذي واصل خط مسلسل القرن العظيم في الأجزاء الماضية، والذي ينتجه ويخرجه مجموعة أضن دوغان الإعلامية ذات التوجه العلماني المتطرف، والتي لا تنظر إلى تاريخ الدولة العثمانية إلا بكل سوء، فتعتبر فترة الحكم العثماني هي فترة التخلف التي عانى منها الأتراك، وتنظر بإيجابية لفترة الأتراك ما قبل الإسلام وحتى فترة الأتراك التتار كجنكيز خان.

مسلسل القرن العظيم يركز أيضًا سلبًا على الفترة العثمانية، حيث أنه يختصر تاريخ دولة عظيمة مثل الدولة العلية في صراع الجواري على فراش السلطان أو تعلق السلطان بأحد الجواري، فلا يوجد تركيز على تاريخ الفتوح والمعارك والمواجهات مع الأعداء كـ الصليبيين أو الصفويين. بل يتم التركيز على قصص العشق الوهمية غير الثابتة تاريخيًا بين السلطانات وبين بعض الخدم والعبيد؛ مما يعطي انطباعًا خاطئًا للمتابع بأن مجتمع القصر العثماني كان مجتمعًا منحلًا يمكن لأي عابث أن يدخل إلى القصر و يلاقي من يشاء من حريمه، كما نرى في قصص الروائي اللبناني جورجي زيدان. وكذلك يركز المسلسل على بطولة نسائية كاملة على عكس «قيامة أرطغرل»، فالمسلسل يتمركز حول المرأة اللعوب الذكية القاسية والقاتلة كما سيظهر في الحلقات القادمة، حيث من الثابت تاريخيًا أن السلطانة كوسيم قتلت ولدها السلطان إبراهيم الأول الذي كان لا يطيعها بشكل كامل لكي يتولى الحكم السلطان الحفيد محمد الرابع.

واختيار قصة السلطانة كوسيم دون جميع القصص هو لذات الهدف؛ فكما استطاع أضن دوغان تشويه صورة السلطان سليمان القانوني في الأجزاء السابقة من القرن العظيم، أو حريم السلطان، عندما قتل ولده الأمير مصطفى بسبب خلاف معه على الحكم، ها هو يعود ليختار شخصية السلطانة كوسيم التي قتلت ولدها السلطان إبراهيم لتحتفظ بالملك والحكم أيضًا. وكذلك اختياره للسلطانة كوسيم سيوفر له الفرصة لعرض فترة السلطان مراد الرابع والذي كان جبارًا في الأرض، وكثيرا ما كان يستغل الدين في السياسة لإقناع الجنود الانكشاريين بالطاعة للخليفة. يقول المؤرخ التركي أحمد أق قندوز:

«في يوم 18 مايو 1632م قام بإعدام رجب باشا الذي أضر بالدولة العثمانية ضررًا بليغًا، فقد أمر بقتله وإلقاء جثته من شباك السراي، وعلى إثر هذا الإعدام تجمع الجنود العصاة في ميدان السلطان أحمد يريدون إشعال نار الفتنة من جديد وفوضى عارمة. ولكن السلطان مراد الرابع بادرهم بحركة ذكية بأن دعا لعقد ديوان مفتوح دعا إليه العلماء ورجال الدولة وقام بإلقاء خطبة تاريخية أمام الجنود والأهالي، وشرح في خطبته البلغية هذه كيف أن الفوضى أضرت الدولة وكادت أن تزعزع أركان دولة جيشها أصبح عاجزًا عن الحرب والقتال وأصبحت مهمته التدخل في السياسة ونسي وظيفته الأساسية التي قام من أجلها. كما وضح في خطبته أنه لن يدع الدولة بيد حفنة من الأشقياء واللصوص، وأنه سيعاقب بقوة كل من لا يطيع الشرع والسلطان كائنًا من كان، ثم قرأ آية: (وأطيعوا الله و الرسول وأولي الأمر منكم)، ثم ذكر حديث (اسمعوا وأطيعوا وإن ولي عليكم عبد حبشي كأن على رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله وسنة ورسوله) كما ختم حديثه بقوله: (إن إخلاصكم لا يكون صحيحًا وصادقًا إلا عندما لا تدعون للفرقة بينكم سبيلًا وعندما لا تفسحون بينكم مكانًا للمفسدين، وعندما لا تعاونون وتقاتلون الجلاليين الذي هم بمثابة الخوارج والعصابات والأشقياء)، فقام الأهالي ورجال الدولة بعد سماع هذه الخطبة البليغة والمقنعة بتظاهرات كبيرة تأييدًا للسلطان».

وكان كذلك السلطان مراد الرابع مع خلطه للدين بالسياسة مشهورًا عنه السُّكر والسَفه، فهو السلطان العثماني الوحيد الذي قُتل شيخ الإسلام مفتي السلطنة أخي حسين زادة أفندي بين يديه صبرًا؛ لأنه اعترض على سياسته، مخالفًا قوانين أجداده العثمانيين التي كانت تقول (يجوز العزل من الوظيفة أو النفي ولا يجوز القتل أبدًا لرجال الدين). ومن شدة انحراف هذا السلطان عن الطريق المستقيم، خرج كتاب من المحفل الماسوني التركي عام 2000م يتحدث عن تاريخ الماسونية في تركيا، وكان فيه أن السلطان مراد الرابع كان ماسونيًا. وبالإمكان مشاهدة هذا الكلام على موقع المحفل الماسوني التركي.

ما أريد أن أقوله أن مسلسل قيامة أرطغرل ومسلسل السلطان كوسيم ليسا سوى محاولة لاستدعاء التاريخ لمعركة الحاضر من قبل الفرقاء السياسيين سواء المحافظين أو العلمانيين المتطرفين.