محتوى مترجم
المصدر
war on rocks
التاريخ
2016/03/29
الكاتب
سليم كورو

في الجزء الأول من هذه الدراسة ذات الجزأين، يصف الباحث التركي سليم كورو إستراتيجية بلاده والتغيرات التي طرأت عليها من خلال تفاعلها مع الحرب الأهلية السورية.

إذا ما تسنت لكَ فرصة لقراءة تغريدات خبراء السياسية الخارجية الإيرانية على تويتر، فستصادفك وفرة من صور الجنرال قاسم سليماني، بشعره الفضي وبابتسامته المعروفة، محاطًا بعدد من رجال الميليشيات الشيعية في العراق أو بمقاتلي حزب الله في سورية أو بكوماندوز إيرانيين عائدين من مهمات خاصة.

هذا ما يُطلِق عليه منظِّرو العلاقات الدولية «إسقاط القوة»، وهو ما تعد إيران بارعةً فيه. في عام 1979 ولدت الجمهورية الإسلامية من رحم الثورة ضد أقوى قوة في العالم، وخاضت بعدها بعام حربَ الثماني سنوات مع جارتها العراق. ولقد خدم القادة الإيرانيون كسليماني والرئيس الحالي روحاني في تلك الحرب. لايبالي هؤلاء القادة بالإدلاء بأحاديث فخمة حول مدى قوتهم في المنطقة لأنهم لم يتوقفوا يومًا عن الحرب. نحن نعلم أن قواتهم على الأرض في العراق وسورية، وأن سفنهم تجوب مضيق هرمز، وأن أشباحهم حية في كل مكان، من أنقرة إلى العاصمة واشنطن دي سي ومن غزة إلى ساو باولو.

إنه تباين مفيد لصالح تركيا التي تملك نهجًا إستراتيجيًا مغايرًا بالكلية، ذلك أنه نادرًا ما قامت القوات المسلحة التركية بعمليات خارج حدود أراضيها، كما أنه يستحيل أن تجد صورًا لجنرالات أتراك مشهورين يؤدون مهمات سرية بصحبة مجموعات رثة ومختلطة من السنة في القوقاز أو العراق أو أفغانستان. وأيضًا لا توجد قصص عن جواسيس أتراك خطفوا دبلوماسيين حول العالم كما هو شأن محاولة الإسرائيليين الفاشلة لاغتيال خالد مشعل أو سعي الجواسيس الإيرانيين الدؤوب طيلة عقود لسرقة التكنولوجيا النووية. كان التدخل في قبرص عام 1974 هو العمل العسكري الوحيد الذي قامت به القوات التركية خلال تاريخها الجمهوري خارج أراضيها، وذلك عندما وقع المجتمع التركي بالجزيرة تحت خطر التهديد الجدّي، أما داخل أراضيها فلطالما نشطت القوات العسكرية التركية ضد الأخطار، وعلى رأسها حزب العمال الكردستاني. صحيح أن الجيش التركي وفي بعض الأحيان ومنذ عام 1990 عبر الحدود متوغلاً داخل العراق، إلا أنه نُظِر إلى هذه الحالات على أنها امتداد للصراع الدائر داخل تركيا نفسها، لا على أنها توغل في أراضي الغير. لكن الصراع في سورية غيّر هذه النظرة. ولفهم كيف حصل هذا التغير لابد لنا من التعمق بتاريخ تركيا الحديث.

ما إن انتهت حرب الاستقلال حتى انكفأت تركيا على نفسها؛ إذ خلّفتْ عقودٌ من الحروب رُهابًا عميقًا -داخل القيادة التركية- من الحرب عامةً، وشعورًا بعدم الثقة حيال الجيران.

أبرزت حروب البلقان التي بدأت عام 1912 واتصلت بالحرب العالمية الأولى، نهج تركيا الحديث. رأى الجيل الأخير من العثمانيين الذين خسروا هذه الحروب كيف أصبحت كامل إمبراطوريتهم تنزلق من بين أيديهم، بالكاد استطاعوا جمع أنفسهم رغم كل الخلافات، وبشق الأنفس نظّموا جيشهم وحافظوا على الأناضول، ولقد اختزلت -على نحو واعٍ- الجمهوريةُ التي أسسوها هناك عام 1923 كل مظاهر الإمبراطورية.

شهدت السنوات الأولى من عمر الجمهورية بعضَ العدوانية الدبلوماسية كما تجلت في الاستحواذ على إقليم هاتاي وفي المحاولة الفاشلة للاستيلاء على الموصل، لكن ما إن تم إرساءُ حدودِ الأمة الجديدة حتى انكفأت تركيا على نفسها. خلفتْ عقودٌ من الحروب رُهابًا عميقًا -داخل القيادة التركية- من الحرب عامةً، كما ونتج عنها شعور بعدم الثقة حيال الجيران.

أطلق المؤرخون لاحقًا على هذه الفوبيا اسم «متلازمة سيفر» (نسبةً إلى معاهدة سيفر عام 1920 التي قسمت الإمبراطورية العثمانية بين الكرد وأرمينيا واليونان وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا، تاركةً مساحة صغيرة حول أنقرة تحت الحكم التركي بقيادة الجنرال /الرمز مصطفى كمال أتاتورك الذي أفشل هذه المعاهدة وقاد حرب الاستقلال).

لكن أتاتورك وضع أسلوبًا جديدًا فيما يخص مستقبل تركيا الإستراتيجي. لقد روّعتْه صورة جندي تركي منتصر وهو يطعن بحربته جنديًا يونانيًا، قائلاً: «يا لهذا المنظر المقزز للنفس!»، ثم أمر بإزالتها. كان شعاره الدائم «سلام في الوطن، سلام في العالم»، غير مبالٍ بكون هذا الشعار أقرب لأُمنية منه لإستراتيجية دفاع. الدولة التي قرعت ذات يوم أبواب فيينا باتت معنية اليوم بأمور أخرى مثل السياسة الزراعية وتحسين الهندام.

كان انكفاء تركيا متينًا إلى درجة أنها تأخرت في الانضمام للحلفاء في الحرب العالمية الثانية إلى غاية فبراير/شباط 1945، قبل شهرين فقط من انتحار هتلر، ولربما قُيِّض لانكفائها أن يستمر لولا أن الدب الروسي قد اقترب من الباب مهددًا مضائقها على البوسفور وحدودها الشرقية في جنوب القوقاز.

كان لسياسة الانكفاء أن تستمر لولا تهديد الدب الروسي الذي ألقى بتركيا في أحضان حلف الناتو، وجعل قرارها السياسي والعسكري رهنًا به.

كان الحياد غير قابل للاستمرار وأتت الحماية – إثر انتهائه – في صيغةٍ من مبدأ ترومان الذي منح تركيا المساعدات وجعلها داخل دائرة التأثير الأميركية. أرسلت تركيا بعد ذلك قوات إلى الحرب الكورية وأصبحت عضوًا في حلف الناتو عام 1952.

منذ ذلك الحين، دخلت سياسة تركيا الدفاعية تحت مظلة الناتو؛ فإذا ماكان لموسكو شأن مع تركيا، تعينَ عليها التفاوض مع واشنطن. وعندما تواجه الرئيسان خروتشوف وكينيدي أثناء أزمة الصواريخ في كوبا، وافق الأخير على إزالة الرؤوس النووية المنصوبة سرًا في تركيا مقابل تلك التي في كوبا.

المرة الأولى التي تجاوزت فيها تركيا حدودها كانت في أزمة قبرص. في عام 1964، وعندما عزمت تركيا على التدخل في الجزيرة لحماية المجتمع التركي فيها، تلقت رسالة شديدة اللهجة من الرئيس الأمريكي ليندون جونسون اضطرتها للتوقف. أرجأ الموقف الأمريكي المتشدد المسألة عشر سنوات، إلى أن تدخلت تركيا أخيرًا بالنيابة عن القبارصة الأتراك عام 1974. لكن رسالة جونسون سيئة السمعة دلت على أن سياسة الأمن التركية لم تكن مستقلة ذات سيادة وحكرًا على واضعيها الأتراك أصحاب الصلة، وعلى أن المصالح التركية كانت تابعة ودائرة في فلك صراع أكبر.


ما بعد الحرب الباردة

بعد انتهاء الحرب الباردة، انتقل الناتو من وضعية دفاعية إلى أخرى أكثر تدخلية، وأدلت تركيا بدلوها من خلال إرسال قوات عسكرية إلى الصومال والبلقان وبعثات مراقبين إلى جورجيا وغزة وتيمور الشرقية. لكن القوات التركية المرسلة نادرًا ما كانت في مواقع قيادية وغالبًا ما كانت بعيدة عن خطوط النار.

كان نهج تركيا السياسي في حالة تغير، وقد ازدادت وتيرته وضوحًا مع صعود الإسلام السياسي. لم يكن نجم الدين أربكان، وهو الشخصية المركزية في الحركة الإسلامية التركية، على وفاق مع الحلف العابر للأطلسي. ففي لقاء تلفزيوني لاحق أجري عن حياته وتجربته، جادل أربكان بأن الناتو وبعد تلاشي الاتحاد السوفييتي اتخذ من الإسلام عدوًا جديدًا له.

«تحولت ألوان عدو الناتو من الأحمر إلى الأخضر، وفي مناورات «لعبة الحرب» الأميركية بقيت مدن الناتو كما هي، لكن أسماء مدن العدو تحولت للمدن الإسلامية. حصل هذا في عام 1990، وعليه انطلقت الحملة الصليبية العشرون».

يفسر هذا جزئيًا لماذا شعر كثيرٌ من الأتراك بالقلق عندما فاز حزب العدالة والتنمية، وهو الحزب الذي أسسه ربيبا أربكان السابقان رجب طيب أردوغان وعبد الله جول بانتخابات عام 2002. ولقد كان من المألوف خلال السنوات الأولى من حكم حزب العدالة والتنمية الحديث عن «تحول محاور» متمهل ومتسلل بعيدًا عن الغرب. لم يتجسد هذا التحول بطريقة صارخة، لكن اتجاهًا ضمنيًا معاديًا للغرب بات واضحًا.

كان من المألوف خلال السنوات الأولى من حكم حزب العدالة والتنمية الحديث عن «تحول محاور» متمهل ومتسلل بعيدًا عن الغرب.

اعتُبرت جماعةٌ من الناس عُرفت باسم «المتأيرنين» والتي تعني «أنصار إيران»، جزءًا من ذلك الجدل الدائر. يستخدم المصطلح اليوم في سياق طائفي، لكنه لم يكن كذلك في بداية الألفية إذ كان يشير إلى مجموعة سياسية فضفاضة في أنقرة تدعو لاعتماد نهج أكثر استقلاليةً فيما يخص السياسة الخارجية.

يقولون «ليس عادلاً أن نكون عملاء للغرب الإمبريالي في الآن الذي يسلب فيه فلسطين ويشن الحروب على المسلمين» هم يقولون. يتعينَ على تركيا أن تحرر عربتها مما يرونه حضارة مسيحية من أجل تحقيق إمكاناتها القيادية في العالم الإسلامي.

لكن قيادة حزب العدالة أبقت على المسار المعتَمَد منذ الأيام الأولى للجمهورية. يعود السبب وراء هذا الإبقاء إلى اليقين بتأهب واستعداد النخبة العسكرية – حيث يضرب الولاء للناتو عميقًا حتى النخاع – للقيام بانقلاب إذا ما ندت عن الحكومة أي إشارة لإبعاد نفسها عن التحالف مع الناتو. لكن تبقى الحقيقة أيضًا أنه لا ينهض أي دليل على إرادة حزب العدالة القيام بذلك.

وجد قادة الحزب أن مسألة عدم الانسجام مع الناتو في صفوف ناخبيهم كانت من الخفوت والضمور والهامشية إلى درجة تعجز معها عن صنع فارق في الحسابات الانتخابية. أغفل قادة الحزب قضايا الدفاع وإصلاح الجيش، وأنفقوا جل أوقاتهم على مسائل السياسة الصناعية والرعاية الصحية والنقل والمواصلات وكل مايجلب أصوات الناخبين.

وعلى الرغم من أن حزب العدالة قد ورث السياسة الكمالية فيما يتعلق بالدفاع الوطني، إلا أنه ابتدأ عددًا من التغييرات في مجال السياسة الخارجية.

آمن قادة الحزب بأن تركيا ارتكبت خطأ بعزل نفسها عن الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الأولى، وعليه فقد أرادوا ترميم العلاقات التي تجمعهم مع مشابهيهم المسلمين. وبتصور عبدالله جول، الذي عمل كرئيس وزراء ووزير خارجية في حكومة العدالة والتنمية الأولى، فإن هذا التوجه الجديد سيعزز مكانة وحضور تركيا في أوروبا؛ ذلك أن دور حزب العدالة في الشرق الأوسط سيكون مشابهًا لذلك الذي لعبته الأحزاب الديموقراطية المسيحية في أوروبا ما بعد الحرب: قوة معتدلة تسهم في تطوير التجارة وسيادة القانون.

جذب جول « أحمد داود أوغلو» – الأكاديميَ اللامع ومبتكر مفهوم قوة تركيا الناعمة – إلى الحزب. صعد الأخير سريعًا من مستشار السياسة الخارجية لـجول فـــــأردوغان إلى وزير خارجية، وخلال ذلك طاف بالطائرة حول المنطقة متحدثًا ببلاغة عن روابط تركيا التاريخية مع مختلف الشعوب القاطنة في مناطق وأقاليم عثمانية سابقة.

طاف داود أوغلو الشرق الأوسط متحدثًا عن روابط تركيا التاريخية بشعوب المنطقة، ومبتدئًا خطًا جديدًا لسياستها الخارجية بعنوان «صفر مشاكل».

قوّى حزب العدالة في السنوات التالية عددًا من المؤسسات مثل مؤسسة تيكا «وكالة التعاون والتنسيق التركية»، كما وأوجد مؤسسات جديدة مثل مؤسسة «يونس إمري» التي تضطلع بنشر الثقافة التركية حول العالم، وافتتح سفارات جديدة في كثير من البلدان، رافعًا القيود عن تأشيرات الدخول أينما وحيثما استطاع ومطورًا العلاقات التجارية.

مدفوعًا بسياسته «صفر مشاكل» التي كثر الكلام عنها، ابتدأ أحمد داود أوغلو مشوار بلاده في تحسين علاقاتها المشحونة مع اليونان وإيران وحتى أرمينيا. أما السعودية وقطر وبدرجة أقل مصر فلقد أصبحت في عداد الحلفاء الطبيعيين.

وبقدر ما تم تصفير المشاكل مع دول الجوار، كانت سورية قصة إشكالية.

هددت تركيا جارتها سورية بالحرب عام 1998 وذلك لتوفيرها المأوى لعناصر من حزب العمال الكردستاني، بمن فيهم عبد الله أوجلان، زعيم المنظمة. استسلم حافظ الأسد أخيرًا وتم القبض على أوجلان بينما كان يبحث عن ملاذ آمن جديد. استمر العداء بين دمشق وأنقرة لحين تدشين أردوغان وداود أوغلو لعلاقات جديدة مع بشار، نجل حافظ الأسد، وبسرعة رفعت القيود عن التأشيرات بين البلدين، وازدرهرت التجارة البينية وأجريت مناورات عسكرية مشتركة عام 2009، وأمضى أردوغان وزوجته إحدى عطلهما مع الأسد وزوجته.

من المفارقات أن تأخذ حكومة محافظة اجتماعيًا على عاتقها مهمة إبراز الجانب الليبرالي في السياسة الخارجية التركية. فمن جهة أولى، تعد تركيا دولة ذات نزعة قومية حادة تحتفظ بجيش كبير ولديها نزاعات وخلافات طويلة مع جيران أصغر منها مثل قبرص الرومية وأرمينيا واليونان وسورية والعراق. بإمكان هذه المعطيات أن تعطي صورة سلبية للغاية عن تركيا وأن تظهرها بمظهر «البلطجي»، لكن وعلى الرغم من ذلك سارت السياسة الخارجية التركية على نحو ثابت وفق القواعد الدولية وتحاشت اللجوء للقوة ما لم تستدعِ الضرورة. كانت السياسة الخارجية التركية ليبرالية إلى حد كبير، لكن ليس بالمعنى الأمريكي الذي يعني الترويج للديموقراطية، وإنما بالمنطق الأوروبي المرتاب من سياسات القوة وامتداداتها في المؤسسات الدولية. ولقد كانت النتيجة أن بقيت أجهزة الأمن التركية حبيسة حدودها. كان هذا الإرث جزءًا من الماضي «الكمالي» الذي حافظ عليه حزب العدالة بإصرار.

كانت سياسة أنقرة المتمحورة على الأمن والقاسية في شن حملاتها على الجنوب الشرقي الكردي خلال تسعينيات القرن المنصرم، مدار رفض داود أوغلو وعدد كبير من مسؤولي الحزب.

في مقالته المشهورة عام 2010 والمعنونة بـ «صفر مشاكل مع الجيران»، وسّع داود أوغلو مجال استخدام مفهومه ليطبقه على الأحداث الدولية.

كتب داود أوغلو: «لقد بدأت الولايات المتحدة محاولاتها لإقامة نظام دولي مستند إلى مسار أمني، مستبدلةً به مسارَ الحريات الذي برز بعد انهيار جدار برلين».

ولقد كان المضمر في المقال هو أن غزو العراق وأفغانستان قد رجح بشكل مفرط كفةَ الأمن على حساب كفة الحريات. كان جهد حزب العدالة خلال العقود الفائتة ينصب على قلب هذا الرجحان لصالح الحريات.

لبعضٍ من الوقت، أثبت الربيع العربي صحة الفكرة القائلة بإن تركيا قد بددت سحر السياسات الواقعية التي اعتمدها الغرب تجاه الشرق الأوسط؛ حتى أتت سوريا.

لبعضٍ من الوقت، أثبت الربيع العربي صحة الفكرة القائلة بأن تركيا قد بددت سحر الحسابات الواقعية التي اعتمدتها وركنت إليها الإمبريالية الغربية في سياستها تجاه الشرق الأوسط. أخيرًا نجحت شعوب هذه المنطقة في إسقاط الأنظمة الديكتاتورية ما بعد الكولونيالية التي ضمنت النظام والأمن على حساب الحرية.

لقد كانت جموع المسلمين وهي في مسعاها لحكومة تمثيلية –مستلهمةً في ذلك السياسات التركية- تُطابق بينها وبين حكم الإسلاميين. وبانتصار الأخيرين في مصر وتونس طار مستشارو حزب العدالة إلى عاصمتيْ البلدين.

وفي اجتماع نقاشي مع رفيق عبد السلام، قال داود أوغلو:

«لقد انتهت حقبتا الكولونيالية والحرب الباردة. والآن سيستأنف التاريخ مجراه الطبيعي. وبهذا السياق، لن يشغلنا سؤال كيف ستؤثر تركيا في الشرق الأوسط أو كيف سيؤثر الأخير على تركيا. وسنقول إن مصيرنا واحد وإن تأثيرنا متبادل».

لم يكن داود أغلو مخطئاً لما نَسَبَ لتركيا بعض الفضل وراء الثورات العربية، فالسفر الحر إلى إسطنبول دون الحاجة إلى تأشيرة دخول والخط الصاعد للدراما التركية الجذابة برهنا للعرب أن بوسع دولة ذات أكثرية مسلمة أن تفعل الكثير.

كان مشجعًا لحزب العدالة والتنمية أن يرى جموعًا غفيرة من الناس ترغب بالانضمام للنموذج البديل عن الحداثة الغربية، والذي استطاعت تركيا اجتراحه وتطويره، ولقد ساد المنطقةَ آنذاك تفاؤل عارم بمستقبل جديد و زاهر سيفرض نفسه.

بدا أن الدرس المستفاد من الربيع العربي هو أنك إذا استطعت الوصول إلى هويتك الحقيقة واعتمدتها كأساس للتواصل مع الآخرين، فإن الأمور ستستقيم. يمكنك عندها تجاوز سياسة القوة.

وعند هذه النقطة، حيث الحلم الليبرالي التركي في أمثل حالاته، اضطرت تركيا لفتح عينيها على الحقائق القاسية التي أفرزتها سياسات المنطقة.

وكما سأجادل في مقالي القادم فإن جرس الإنذار جاء من سورية التي تحولت فيها الاحتجاجات السلمية بسرعة إلى حرب أهلية دامية.