قرر الرئيس بناء تمثال من الذهب الخالص لكلبه المفضل، وكتب فيه قصيدة أمر بتلاوتها في وسائل الإعلام الرسمية بشكل متكرر. كما قرر في أبريل/ نيسان 2021 أن يكون يوم 25 أبريل/ نيسان من كل عام هو عطلة عامة رسمية، تكريمًا لكل كلاب الألباي، فصيلة كلب الرئيس. أما نجل الرئيس فقرر أن يُهدي الكلب ميدالية ذهبية وسيارة تقديرًا له على شجاعته، وشجاعة أبناء فصيلته العاملين في مجال حرس الحدود.

بينما تتحدث وسائل الإعلام بكثرة عن كلب الرئيس لا يقدر أحد في تركمانستان أن يتحدث عن وباء كورونا. حتى لو كان الحديث بنعي الموتى من العامة أو من الأطباء. لهذا فتركمانستان لا يمكن الاكتفاء بوصفها بالدولة الأكثر قمعًا لشعبها، بل بالدولة الأكثر غرابة كذلك. فبيردي محمدوف، الرئيس التركمانستاني، لا يعترف بوجود كورونا في دولته، ولا حدوث لإصابات فيها بين الأطقم الطبية أو بين عامة الشعب. ويظل الرجل مصرًا على موقفه حتى رغم حالات الوفاة المتتابعة، وبيانات منظمة الصحة العالمية.

ولأن الدولة لا تعترف بوجود الوباء فلا يمكن مطالبتها بتوفير أدوات وقاية للأطقم الطبية، لذا يتكفل كل فرد بأدواته الشخصية. ويعمل الطبيب في تركمانستان في الأماكن المخصصة للتعامل مع حالات كورونا الوافدة من الخارج لمدة 25 يومًا متواصلاً، ولا يحق له اصطحاب هاتفه أو أي وسيلة تواصل مع العالم الخارجي في تلك الأيام.

كما تحظر الدولة استخدام مصطلحات مثل كورونا أو وباء، حتى لو كانت تلك المصطلحات في لافتات توعوية فيتم إزالة اللافتات. وحين أصرت منظمة الصحة العالمية على دخول البلاد للتأكد من خلوها من الفيروس، رحب بها محمدوف. لكنه أجّل موعد الطائرة التي ستنقلهم للعاصمة، عشق آباد، بضعة أيام. في تلك الأيام كانت أماكن العزل قد أُفرغت وأصبحت جاهزة لاستقبال الوفد الدولي.

أما في يوم زيارة الوفد فقد أعلنت وسائل الإعلام الرسمية أن البلاد تتوقع عاصفة ترابية غير مسبوقة. لذا يجب على الجميع التزام البيوت، أما من سيخرج فعليه ارتداء الكمامة إجبارًا. وعلى أصحاب الأمراض المزمنة وكبار السن التزام البيوت. أما أصحاب المقاهي والمحال غير الحيوية ففُرض عليهم غلق محالهم خوفًا من العاصفة الترابية.

آيات كتابه بعد كتاب الله

خطط تبدو بدائية وشديدة السذاجة للتحايل على وضع لا يمكن إخفاؤه في عالم مفتوح، لكن محمدوف وبلاده يستمران في تقديم ما هو أشد غرابة. الدولة المجاورة لأفغانستان وإيران تُصر أن عدد سكانها يبلغ 6 ملايين فرد، بينما أقصى التقديرات العالمية لا تتخطى حاجز الـ 3 مليون مواطن. تركمانستان هي ثالث أعلى احتياطي للغاز الطبيعي في العالم، تُلزم كل من يريد الاشتراك في خدمة الإنترنت أن يُقسم على المصحف أنه لن يستخدم برامج تجاوز الحجب للولوج إلى المواقع التي تمنعها الدولة، والمواقع المحجوبة كثيرة على رأسها تويتر وفيسبوك.

محمدوف، طبيب الأسنان غريب الأطوار، دخل إلى عالم السياسة عام 2006 للفوز بالرئاسة في انتخابات مشكوك في نزاهتها. كان محمدوف هو طبيب الأسنان الخاص بسله صابر نيازوف، الديكتاتور الذي حكم لمدة 15 عامًا. ومنذ لحظة وصوله إلى السلطة ظل محمدوف فيها حتى اللحظة، يتجدد فوزه بالانتخابات بشكل آلي وبنسبة تصاعدية وصلت في آخر مرة إلى نعم بنسبة 98%.

حين وصل محمدوف إلى السلطة بدأ باستئصال تراث صابر. تفاءل الشعب قليلًا، لكن كانت المفاجأة أن إرث الديكتاتور القديم يُزال ليحل محله إرث نرجسي جديد. نيازف الذي قبض على الحكم منذ استقلال البلاد عام 1991 أعلن نفسه رئيسًا مدى الحياة. أغرق البلاد في فيضان من تماثيله الذهبية، ووضع وجهه على كافة المنتجات بلا استثناء. ألف كتابًا، حكاية الروح، وجعله منهجًا دراسيًا إلزاميًا، ثم دشن قناة خاصة لنقل مقتطفات من الكتاب على مدار 24 ساعة بلا توقف.

كان نيازوف متدينًا فزين المساجد بآيات القرآن وسطور من كتابه. وصرّح أن الله أخبره أن من يحفظ كتاب الروح سوف يدخل الجنة مباشرة. ومنذ 15 عامًا أطلق الرجل كتابه في قمر صناعي يُخطط له أن يدور حول الأرض لمدة 150 عامًا، وأطلق أسماء عائلته على أسامي شهور العام، وحظر السيرك والباليه لأنه لا يحبهما، ويُمنع وضع الماكياج، وممنوع على الرجال إطالة لحاهم أو شعر رؤوسهم.

جنون نيازوف لم يتوقف فمنع إنشاء المكتبات في الأحياء الفقيرة، الفقراء جاهلون لا يقرؤون. ولا يجوز إنشاء المستشفيات خارج العاصمة، فمن يرد التداوي عليه أن يحج للعاصمة طلبًا للشفاء.

عائلات المغتربين رهينة

جاء محمدوف بعد وفاة نيازوف ليُعدل بعض الأشياء ويكمل المسيرة في الباقي، وما عدّله لم يكن سوى أنه أزال وجه صابر ووضع وجهه هو. وزاد على سابقه أن أصدر مرسومًا أنه على كل من تخطى سن الأربعين أن يصبغ شعره باللون الرمادي، مثل لون شعر محمدوف، كي لا يشعر الزعيم أنه صار عجوزًا. كما أصدر عام 2019 قرارًا يلزم طلبة الجامعات في الإجازات الصيفية بفعل ما يفعلونه أثناء الدراسة، مثل عدم تصفح الإنترنت، وعدم استخدام الهاتف المحمول، وعدم حضور الأفراح، أو زيارة الأصدقاء بشكل متكرر.

ولا يستطيع أحد الفرار من ذلك الجحيم، فالدولة تمنع من يريد السفر. أما الاستثناءات القليلة التي تمنحها الدولة، لأسباب غير معروفة، فإنها تُبقي على عائلاتهم في البلاد. تراقب الدولة العائلات رقابة صارمة، فهي تحتفظ بهم كرهينة وكورقة ضغط على المغترب. كذلك تراقب الدولة المغتربين مراقبة لصيقة كي تضمن أنهم لن ينتقدوا بلادهم سواء بصورة رسمية أو حتى في الجلسات الودية بين الأصدقاء. وحين تشعر الدولة بالخطر تُجبر المغترب على العودة باستخدام عائلته كورقة ضغط.

تعيدهم الدولة إلى واقع تتجاوز فيه نسبة البطالة 60%، ولا تبالي الدولة بشيء. فمحمدوف دائم الوجود على الشاشات الرسمية في سيارة جديدة أو في غرفته ذات الديكور الفاخر المختلف عن الديكور الذي ظهر به المرة الماضية. فلا يبالي محمدوف إلا ببناء المدن الجديدة لتكون ملاذًا آمنًا له ولرجاله بعيدًا عن عامة الشعب، الذي يسكن على بحر من الغاز الطبيعي لكن رغم ذلك يعاني من إلغاء الدعم على الكهرباء والماء والغاز.

الدولة التي كانت في ماضيها مركزًا تجاريًا مهمًا على طريق الحرير القديم باتت على حافة الانهيار الاقتصادي. المركز 161 من بين 180 دولة على مؤشر الشفافية، لا بيانات اقتصادية موثوقة، لا معلومات عن الاستثمار ولا عوامل جذب له. كل ذلك يترك الدولة ذات ثاني أكبر مساحة في آسيا الوسطى قرابة نصف مليون كيلو متر مربع تعاني انهيارًا اقتصاديًا كارثيًا.

الكويت الثانية تتحول لكوريا الشمالية

4 أضعاف مساحة سوريا و47 ضعف مساحة لبنان، هذه هي مساحة تركمانستان. يمتزج فيها التركمان بنسبة 85% مع الأوزبك بنسبة 5% مع الروس بنسبة 4% ومعهم التتار، أمّا الدين فـ 89% من التركمان مسلمون، و9% مسيحيون، والبقية ديانات أخرى.

 ومقارنتها بالدول العربية لأن نيازف ومحمدوف هما من قارناها بالدول العربية عام 1991. فقد وعدهم نيازوف في لحظة الاستقلال أن بلاده سوف تصبح الكويت الثانية. علل نيازوف اختياره للكويت قائلًا بأنها دولة يمتلك كل فرد فيها سيارة مرسيدس، وتعوم على بحر من الأموال. فكان هذا هو النموذج الذي وعد به شعبه، لكن يبدو أنهما أوصلا البلاد لنموذج كوريا الشمالية بدلًا من الكويت.

وعلى ذكر السيارات فقد أصدر محمدوف قرارًا عام 2015 يمنع فيه استيراد السيارات السوداء، أيًا كان نوعها، واستيراد السيارات البيضاء بدلًا مها. وقام هو و160 مسئولاً سياسيًا ببيع سياراتهم السوداء واقتناء سيارات بيضاء. الدافع وراء القرار ليس سرًا، بل هو ببساطة تشاؤم محمدوف من اللون الأسود.

خضع الشعب لهذا القرار دون اعتراض، فقد اعترض على ما هو أغرب وفي النهاية خضع بالقوة. ففي عام 2014 أصدر محمدوف فرمانًا بإزالة وحدات التكييف الخارجية لأنها تشوه منظر الدولة. وأجبرهم الرجل بسبب مظاهراتهم على تغطية واجهات مبانيهم بالرخام الأبيض على نفقتهم الخاصة.

 ولا يستطيع أحد الطعن في قرارات محمدوف لأنه هو رئيس الجمهورية، ورئيس مجلس الوزراء، والقائد العام للقوات المسلحة، ورئيس مجلس الشعب ومجلس النواب. كما أنه هو من يعين ويعزل حكام الولايات وقضاة المحكمة العليا بأوامر رئاسية غير قابلة للمساءلة أو الطعن.