في أبريل/نيسان 2002 خرج سليمان أبو غيث، صهر أسامة بن لادن، والمتحدث باسم تنظيم القاعدة آنذاك، في فيديو دعائي للتنظيم، معلنًا أنه نجح في ضرب الولايات المتحدة في عقر دارها بـ «عاصفة الطائرات» (في إشارة لهجمات 11 سبتمبر)، وبعد نحو 12 عامًا من هذا التاريخ، قال القيادي بالقاعدة، أمام هيئة قضائية أمريكية، إنه لم يضطلع بأي دور في التنظيم أو يعرف بهجمات سبتمبر قبل تنفيذها، وإن دوره انحصر في نقل رسائل «صهره» للعالم.

بدا سليمان أبو غيث، أمام المحكمة الأمريكية، كأنما انقلب على التنظيم الذي حُوكم بالانتماء إليه، غير أن شهادته المذكورة، أزاحت الستار عن جزء من الخلافات الداخلية بين قادة القاعدة، بلغة صريحة تختلف عن التلميحات العديدة التي سبق أن أشار إليها في مذكراته المعنونة بـ «عشرون وصية على طريق الجهاد»، التي قدم لها مفتي القاعدة/ رئيس اللجنة الشرعية، محفوظ ولد الوالد (أبو حفص الموريتاني)، ونشرها مستشار بن لادن السابق مصطفى حامد (أبو الوليد المصري) عبر موقعه الرسمي.

وشكَّلت تلك الشهادة تأكيدًا على تراجع أبو غيث عن نهجه المتماهي مع قيادة القاعدة العليا، واتهامًا ضمنيًّا لبن لادن ورفاقه بأنهم «جلبوا الشقاء على التنظيم والعالم بطائرتهم الانتحارية».

مراجعات لا مذكرات

ويكشف التدقيق في نص «الوصايا العشرين»، التي نُشرت في نوفمبر/ تشرين الثاني 2010، أنها عبارة عن سلسلة من المراجعات الأيديولوجية المنهجية، وليست مذكرات بالمعنى الحرفي، كما أطلقت عليها وسائل الإعلام، بيد أن ظهورها بعد نحو 9 سنوات على هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، أكسبها زخمًا كبيرًا.

ورغم الزخم الذي حازته كتابات سليمان أبو غيث، فإنها لم تخضع لدراسة حقيقية لتفكيك الرسائل المشفرة التي تضمنتها، والمرتبطة بشكل أساسي بالخلاف الداخلي الذي أثاره قرار زعيم القاعدة المؤسس أسامة بن لادن بشن هجمات سبتمبر، والذي اعترض عليه غالبية أعضاء مجلس القاعدة القيادي/ مجلس الشورى العالمي.

فوفقًا للعديد من الشهادات المنشورة على لسان قادة وعناصر سابقين بتنظيم القاعدة، فإن 9 من أصل 11 من أعضاء مجلس شورى القاعدة رفضوا تنفيذ الهجمات، وكذلك طلب الملا محمد عمر مجاهد، الزعيم التاريخي لحركة طالبان، من بن لادن أن يتوقف عن إطلاق التصريحات النارية ضد الولايات المتحدة، وألَّا يُنفذ هجمات ضد المصالح الأمريكية؛ لأن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى إيجاد مبرر للتدخل العسكري في الأراضي الأفغانية، لكن زعيم القاعدة المؤسس آثر اتباع رأيه الشخصي، وعدم الالتفات إلى تلك الطلبات؛ لأنه اعتقد أن أصحابها يبالغون في التشاؤم، على حد تعبير أبو غيث.

وينتقد المتحدث باسم القاعدة في وصيته الرابعة «نهج بن لادن» المغرور والمستبد الذي لا يصلح للقرارات المصيرية، ويكون ناتجه سلبيًّا على الحركات الإسلامية بشكل عام لا التيار الجهادي فقط، مردفًا أن هذا الخطأ لا يقع أثره على صاحبه فقط، بل الجميع يتحملون نتيجة هذه القرارات المبنية على الهوى الشخصي، ويتعرضون للتشويه بسببها.

متحدث باسم «بن لادن».. ومنتقد له أيضًا

وعلى ذات الصعيد، تكشف «الوصايا العشرون» التحولات الحاصلة في شخصية وقناعات سليمان أبو غيث منذ هجمات 11 سبتمبر، والتي تعبر، في ذاتها، عن حجم التغييرات التي أصابت العديد من قادة القاعدة، جراء ظروف الهرب والمطاردة الاستثنائية من الملاحقة الدولية.

ففي الأشهر التالية لهجمات 11 سبتمبر أعلن أبو غيث، في أحد اللقاءات التي بثها تنظيم القاعدة، أن قيادة التنظيم لم تتأثر بالحملة الأمريكية على أفغانستان، وأن التنظيم ما زال قادرًا على شن هجمات كبرى على غرار تفجير برجي التجارة العالميين، وسيشن تلك الهجمات في أغسطس/آب 2002.

بيد أن تلك التصريحات أثارت جدلًا في صفوف عناصر وقادة التنظيم الوسيطين، الذين وجهوا رسالة لأسامة بن لادن (ضمن وثائق آبوت آباد)، انتقدوا فيها تصريحات المتحدث باسم القاعدة، وذكروا أن اليأس يُسيطر على أعضاء القاعدة الذين يتمنون لو ألقي عليهم القبض ورحلوا إلى بلادهم – مع علمهم أنهم سيسجنون فيها – وذلك للهرب من الأوضاع الصعبة التي عايشوها منذ الغزو الأمريكي لأفغانستان.

ومن اللافت للنظر أن أبو غيث نفسه اقتنع بمرور الوقت برأي خصومه، واعتبر أن التنظيم تلقى درسًا قاسيًا، وتعلم بالطريقة الصعبة؛ لأنه اغتر بقوته المادية، فكان لا بد من الابتلاء، حتى يستوعب الحقائق ويتوقف أعضاؤه عن المداهنة/ مجاملة قيادة القاعدة.

كما أفرد صهر بن لادن مساحة من «مذكراته المفترضة» لانتقاد الأداء العملياتي لتنظيم القاعدة، وطريقة تكييفه للنصوص الشرعية لخدمة أغراضه الأيديولوجية، ملمحًا إلى أن الشريعة تُوجب على «حامل السلاح» أن يتحرى في الدماء، وألا يتورط في سفكها دون مبرر شرعي، كما فرضت على أتباعها الإيفاء بالعهود والمواثيق وعدم خيانة الأمانة.

وتُظهر كلمات سليمان أبو غيث مدى التلاقي الأيديولوجي بينه وبين أبو حفص الموريتاني (مقدم الكتاب الذي يصفه بأنه أحد مصادر التربية الجهادية)، الذي انتقد هجمات الـ 11 من سبتمبر، معتبرًا أن منفذيها اقترفوا مخالفة شرعية لأنهم خالفوا مقتضيات عهد/ عقد الأمان الممنوح لهم من الولايات المتحدة (تأشيرة الدخول للبلاد).

تحالف المعارضين

على أن التلاقي بين أبو غيث وأبو حفص لم يكن سوى جزء من تحالف أوسع ضم قيادات القاعدة المعارضين لأسامة بن لادن، الذين عبروا عن آرائهم في العديد من الكتابات منها، «الوصايا العشرون»، و«صليب في سماء قندهار» الذي نشره مصطفى حامد (أبو الوليد المصري) وضمنه نقدًا لزعيم القاعدة الموهوم بأنه سيكون «المختار القحطاني» الذي سيحوز إرث المهدي المنتظر، على حد وصفه.

ومع أن المتحدث السابق باسم القاعدة حذر في كتاباته مما يسميه «الجيوب المخروقة» أو تجمعات المعترضين الذين يمارسون النقد لقيادة الجماعة، ويزيدون من احتمالية الشقاق أو الانشقاق، إلا أنه يبرر نشر شهادته وغيرها من الانتقادات لقيادة تنظيم القاعدة العليا بأنهم رأوا الخطأ والاعوجاج في مسيرة التنظيم، فسعوا في إصلاحها ونصح قيادته لكن لم يتم الاستماع لهم، فأخذوا جانبًا وشرعوا في نشر شهادتهم، ليصلحوا ويبنوا، لا ليهدموا، على حد تعبيره.

ويقول أبو غيث إنه ليس عيبًا أن يبحث هو أو غيره عن أخطاء القاعدة ويظهرها، بل إن الخطأ الحقيقي يتمثل في كتمان تلك الأخطاء وإخفائها؛ لأن هذا «المسلك الخطير» من شأنه أن يؤدي إلى اكتشاف السلبيات المدفونة، في وقت ما، وعندها تكون الفضيحة مدوية في البيت الواحد والعمل الواحد والجماعة الواحدة.

ويبين أبو غيث أن شهوة الرياسة والقيادة ضربت القاعدة في مقتل، لا سيما وأن تلك القيادة ظلت حبيسة «توجيهاتٍ إعلامية، أو هتافاتٍ جماهيرية، أو معادلاتٍ سياسية»، واتخذت من فصاحة اللسان وبلاغته «عملًا وإنجازًا» دون أن ترتبط أحاديثها تلك بواقع ملموس على الأرض.

ويبدو أن أبو غيث، يستعير في «الوصايا العشرين» من أفكار وألفاظ أبو الوليد المصري (مصطفى حامد أبو الوليد) الذي يذكر في كتابه «صليب فوق قندهار» أن أسامة بن لادن طار فرحًا بجموع الجماهير الغوغائية التي حملت شعاراته وصوره المطبوعة على نفقته الخاصة في باكستان؛ لأنه لم يمتلك مشروعًا حقيقيًّا، وإنما تمسك بتلك الهالة الإعلامية المصطنعة التي لا تدعمها أي قدرات حقيقية على أرض الواقع، وجر تنظيمه وحلفاءه (طالبان) إلى حرب غير متكافئة، أسقطت حكم طالبان وجلبت القوات الأمريكية إلى أفغانستان.

رؤية أخرى للجهاد المعولم

ويعتبر المتحدث السابق باسم القاعدة أن «الجهاد المعولم» أضخم وأكبر من أن تستوعبه جماعة أو تنظيم أو يبقى مرتهنًا بـ «حدود الجغرافيا» التي تعيش عليها الجماعات؛ لأنه مشروع عالمي/ عابر للحدود الوطنية، أو «سيف لا يستوعبه غمد»، بحسب تعبيره، وبالتالي فلا بد من أن تتخطى الحركة الجهادية المعولمة مرحلة «حماس القاعدة» إلى مرحلتي النضوج ثم الرسوخ، وأن تقوم في سبيل ذلك باختيار قيادة مركزية جديدة بآلية تتفق عليها كل الجماعات بحيث تُحاط تلك القيادة بمجلس شورى قيادي من الشرعيين والسياسيين والاقتصاديين… إلخ، ليثري خططها ويوجه خطواتها ويصوِّب أعمالها لتكون أعمالها مبنية على أساس سليم، وإذا رفضت القيادة تلك المشورة يتم التبرؤ منها ومفارقتها.

ووفقًا للرؤية السابقة فإن «الجهاد المعولم» لا ينبغي خطفه أو احتكاره من قبل جماعة/ تنظيم، أو قصره على حمل السلاح فقط؛ لأن هذا يعني أن التيار الجهادي مهووس بثقافة القتل والتَّخريب لا ثقافة الحياة والبناء، لذا فمن الضروري أن يتحول مساره من «جهاد نخبة» إلى «جهاد أمة»، وألا يقتصر على القتل والقتال بل ينصرف لبناء الدولة ونشر العلم والثقافة وتأمين معيشة أفضل للشعوب، على حد قول سليمان أبو غيث.

ورغم أن تلك تلك الأفكار عُدَّت، عندما طرحت للمرة الأولى، انقلابًا على الرؤية الراديكالية التي يتبناها تنظيم القاعدة وزعيمه المؤسس أسامة بن لادن، فإن السنوات التالية كشفت حجم تأثر التنظيم بمضمون «الوصايا العشرين»، إذ أصدر التنظيم، منذ اندلاع ثورات الربيع العربي عام 2011، سلسلة من التوجيهات تتفق إلى حد كبير مع «أطروحة أبو غيث»، أبرزها وثيقة توجيهات عامة للعمل الجهادي التي كتبها أيمن الظواهري (خليفة بن لادن وزعيم القاعدة الحالي)، ووثيقة أزواد للمشروع الجهادي في مالي الصادرة عن أمير فرع التنظيم في المغرب الإسلامي عبد المالك درودكال (أبو مصعب عبد الودود).

وتتضمن تلك الوثائق مراجعات عامة لأفكار القاعدة القتالية، وتوجيهات لأفرع التنظيم بإعادة تقديم نفسها في ثوب أقل تشددًا بحيث تضمن كسب ولاء «الحاضنة الشعبية» في المجتمعات المحلية التي تنشط فيها، والتركيز على الجانب الدعوي الذي كان منزويًا خلف الجانب العسكري والعملياتي.

وفي حين يقضى سليمان أبو غيث حكمًا بالسجن المؤبد داخل أحد السجون الأمريكية، لعلاقته السابقة بتنظيم القاعدة ونهجه العنيف، يواصل التنظيم مسيرة التحولات الحرجة، محاولًا نفي تهمة التطرف عن نفسه وصياغة صورة جديدة له، قائمة على «مركزية الدعوة لا القتال»، كما يظهر من الكتاب الأخير لزعيمه أيمن الظواهري، الصادر بمناسبة الذكرى العشرين لهجمات الحادي عشر من سبتمبر، تحت عنوان «الكتاب والسلطان.. اتفاق وافتراق: تأملات في الفساد السياسي وآثاره في تاريخ المسلمين» الذي يتحول فيه من تهديد «المسيحيين» بالهجمات الإرهابية إلى دعوتهم للنقاش في مسائل لاهوتية بحتة، ليثبت لأتباع القاعدة أن «الوصايا العشرين» كانت بداية «المراجعات» لجيل القاعدة القديم، أو «التراجعات الصامتة» كما يسميها غريم القاعدة التقليدي (داعش) في تعليقه على نهج التنظيم الجديد.