ضمن فريق مكون من 12 فردًا عملت لوري ستراود للتجسس على حكومات وأفراد. الفريق كان يعمل لصالح دولة الإمارات العربية المتحدة تستهدف عبره كل من تصفهم بالمتشددين وناشطي حقوق الإنسان الذين ينتقدون الإمارات. لكن قبل العمل لصالح الإمارات كان الفريق بالكامل يعمل في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، أقلهم عمل فيها 10 سنوات. أما مقر العمل في الإمارات فكان قصرًا أُدخلت عليه تعديلات كي يصبح مقرًا ملائمًا لعمل وإقامة الفريق، صار يُطلق في المحادثات بين الفريق اسم «الفيّلا».

في الفيلا حقق الفريق نجاحات مبهرة في اختراق هواتف الآلاف من النشطاء والقيادات السياسية وكل فرد تحوم حوله شبهة الإرهاب. أُنشئ مشروع «ريفين» للتجسس عام 2009 وعلى مدى ثلاث سنوات ظل النجاحات تتوالى حتى انتقلت إدارة الفريق من شركة أمريكية كانت تعمل مع الإمارات في مجال الأمن الإلكتروني إلى شركة إماراتية خالصة تُسمى «دارك ماتر». الشركة أنشأها فيصل البناي، مؤسس شركة أكسيوم إحدى أكبر شركات بيع أجهزة الهاتف المحمول في الشرق الأوسط. ونشر موقع «ذي إنترسبت» تقريرًا عام 2016 يربط بين «دارك ماتر» وعمليات التجسس التي تقوم بها الإمارات.

هذا الانتقال أطلق يد الإمارات في التحكم في ريفين، التي كانت تُعرف مسبقًا باسم مشروع دريد أو الهلع بالعربية. رأت ستراود أن الإمارات تجاوزت الخط الأحمر، مراقبة الأمريكيين. حينها رأت ستراود وثمانية من فريقها أنهم باتوا يعملون لدى وكالة استخبارات أجنبيّة تستهدف أفرادًا أمريكيين، وهكذا أصبحوا هم النوع الشرير من الجواسيس، على حد وصفهم.

أدركت ستراود أنها شريرة حين وصل الأمر للأمريكيين، أما استهدافها لشابٍ يبلغ 16 عامًا لمجرد انتقاده الحكومة على موقع تويتر فكان تنفيذًا للأوامر كما قالت. فدائمًا ما قررت أنّها ضابطة في المخابرات وأنها تقوم بمهمة مخابراتية لا شيء شخصياً في أي عملية تقوم بها. وأكدّت هذا في أكثر من تصريح بعد أن كشفت رويترز سر ريفين، فقالت ستراود إن لكل حكومة أهدافها فيما يتعلق بالأمن، وأن ستراود كانت قادرة على التعايش مع التجسس على نشاط حقوق الإنسان ما داموا ليسوا أمريكيين.

الأمريكان فقط خط أحمر

شرح لمشروع ريفين للتجسس

ربما كان مشروع ريفين يدور لخدمة مصلحة دول غير الولايات المتحدة، لكنّه كان قائمًا بالكامل باستخدام التقنيّات الأمريكية. وأساليب المراقبة والتجسس التي استخدمت في المشروع كانت هي ذات الوسائل التي دربت وكالة الأمن الوطني الأمريكية. أما عن عمل مسئولي الأمن الأمريكيين في الخارج لصالح دولة أخرى فهو أمر يُعتبر في العرف الأمريكي خيانة، أما قانونًا فلا يوجد ما يمنعه أو يمنع استخدام الأفراد خبراتهم التي اكتسبوها من عملهم السابق لتنفيذ مهام في عملهم الجديد. لكن القوانين الأمريكية شديدة الوضوح والصرامة حيال استخدام هذه الخبرة لاختراق شبكات أمريكية أو للتنصت على أهداف أمريكية.

لذا حين تحدثت ستراود إلى وكالة رويترز لكشف سر مشروع ريفين فإنها أكدّت أنهم لم يكونوا يعلمون عن تجسس الإمارات على مواطنين أمريكيين، وأن تلك العمليات كان يديرها إماراتيون. أما فريقها فقد تلقى تكليفيّن، التكليف الأول كان «التكليف الأرجواني» الذي يصف عمل المشروع بأنه مهمة دفاعية بحتة لحماية حكومة الإمارات من التهديدات الإلكترونية. بعد ذلك التكليف أُبلغت ستراود أنه مجرد ستار وأن التكليف الحقيقي هو «التكليف الأسود» الذي يقول إن مشروع ريفين هو الشعبة الهجومية والعملياتية في الهيئة الوطنية للأمن الإلكتروني في الإمارات.

قبل ريفين كان الإماراتيون يقومون بمهماتهم الهجومية عبر تسلل عملاء إماراتيين لمنازل الأهداف وزرع أدوات تجسس في منازلهم وحاسباتهم الخاصة، لكن حين وصل ريفين بفريقه الأمريكي الخبير أصبح الأمر أسهل ويتم من بعيد. بعد الإطاحة بالرئيس المصري الأسبق حسني مبارك عام 2011 اعتبرت الإمارات كل المدافعين عن حقوق الإنسان تهديدًا مباشرًا خوفًا من وصول الربيع العربي إليها عبر تدويناتهم، ومنهم روري دوناجي.

دوناجي كان أحد الأهداف الرئيسية للمشروع عام 2012، كان يبلغ 25 عامًا آنذاك. كتب دوناجي، الصحفي البريطاني، عدة مقالات انتقد فيها حقوق الإنسان في الإمارات. أقواهم كان مقالًا لصحيفة الجارديان البريطانية يُحذر أن حكام الإمارات سيواجهون مستقبلًا غامضًا إذا استمروا على نهجهم في قمع الحريات. لم يضطر الإماراتيون لاختراق منزله كما العادة، بل منحهم مشروع ريفين الفرصة لاختراق جهازه المحمول عن بُعد. كما نجحوا أيضًا في اختراق حاسوب الناشطة السعودية المسجونة حاليًا، لجين الهذلول.

اختراق هاتف أمير قطر

الاسم البارز الآخر الذي كشفت عنه الوثائق هو الناشط الحقوقي الإماراتي أحمد منصور المعروف بانتقاده الدائم لسياسات الإمارات في اليمن وسوء معاملتها للمغتربين. في سبتمبر/ أيلول 2019 استطاع الفريق الأمريكي أن يخترق حاسوبه الخاص وسرقوا منه صورًا لمحادثات خاصة بينه وبين معارضين آخرين. وحصلوا أيضًا على صورة التقطها لأحد السجناء أثناء زيارته له في مخالفة صريحة لسياسات السجون الإماراتية. بناءً على وثائق أخرى حصل عليها ريفين أُدين منصور عام 2017 بتهمة الإضرار بالوحدة الوطنية وحُكم عليه بالسجن 10 سنوات. لم يترك ريفين قصة منصور، بل اخترقوا هاتف زوجته الـ«آيفون» واستمروا في مراقبتها.

لاختراق الهواتف التي تُنتجها شركة آبل التي تتباهى بصعوبة اختراقها طوّر الفريق تقنية «كارما». كارما كانت تقنية غير تقليدية، لا تحتاج أن يقوم المستهدف بالضغط على أي رابط خبيث، فقط ضع رقم الهاتف في البرنامج المُعد مسبقًا وانتهى الأمر. سهولة التقنية مكنت الإمارات من التجسس على عدد ضخم من هواتف آيفون اعتمادًا على ثغرة لم يُعلن عنها في تقنية «آي مسج» التي تستخدمها آبل في الرسائل.

أظهرت الوثائق التي قدّمتها رويترز أن البرنامج استخدم للتجسس على هاتف آيفون يحمله الأمير القطري تميم بن حمد آل ثاني، إضافة لهواتف مساعدين مقربين منه وهاتف شقيقه كذلك. لكن لم تصدر القيادة القطرية أي بيان نفي أو تأكيد بهذا الصدد، كما لم تُعلق آبل سلبًا أو إيجابًا على تلك الأخبار. كما أظهر تقرير اختراق مشروع ريفين لهاتف الإعلامية جيزيل خوري بعد بدء الأزمة الخليجية بسبب تواصلها مع الكاتب والمُفكر عزمي بشارة المُقيم في الدوحة.

نجاحات متتابعة للمشروع لكن ما كان مقلقًا للإماراتيين هو وجود هذا البرنامج الحيوي تحت إدارة مجموعة من الأجانب. لذا حرصوا على الإلمام بجوانب العمل التقني على مدى سنوات المشروع حتى بدؤوا في سحب البساط من تحت الفريق الأمريكي بهدوء. وفي منتصف عام 2016 استطاع الإماراتيون إخفاء أقسام كاملة من الفريق الأمريكي، كما بدؤوا في وضع نظام تشفير يضع علامات على أهداف معينة بحيث لا يستطيع الفريق الاطلاع على معلوماتها وكُتب عليها «لإطلاع الإماراتيين فقط».

الإمارات تتجس على الجميع

من تلك الملفات التي استطاع الإماراتيون إخفاءها كانت ملفات الأمريكيين الذين يستهدفهم البرنامج. ستراود وفريقها برمجوا مشروعهم على الحذف التلقائي لبيانات أي هدف أمريكي أو يحمل إقامة دائمة في الولايات المتحدة، لكنهم بدؤوا ملاحظة أن تلك الملفات تظهر بين الحين والآخر في أماكن متفرقة من قاعدة البيانات. تروي ستراود أنها عام 2017 وجدت عن طريق المصادفة صورة لجواز سفر مواطن أمريكي ضمن قاعدة بيانات يعمل عليها ضابط إماراتي يشارك معهم في مشروع ريفين.

تواصلت بالبريد الإلكتروني مع المسئولين الإماراتيين للشكوى فأجابوها أن الصورة جُمعت عن طريق الخطأ وسيجري حذفها. واستطاعت عبر صلاحيتها الوصول للقوائم المخصصة للإماراتيين فقط فوجدت طلبًا بمراقبة مواطنيين أمريكييّن آخرين. وبعد أيام وجدت أسماء ثلاثة أمريكيين آخرين. مع استمرار طرحها للأسئلة أثارت غضب القيادة الإماراتية فسُحبت منها تراخيصها واقتيدت خارج الفيلا وبقيت في الإمارات شهرين ثم سُمح لها بالعودة للولايات المتحدة. ومن هناك كشفت أسرار ريفين لأنها جاسوسة أجل، وضابطة مخابرات أجل، لكنّها ليست فاسدة لتتجسس على أمريكيين آخرين.

لم تكتب ستراود نهاية التجسس الإماراتي على العالم كما أرادت، فالتجسس والإمارات وجهان لعملة واحدة. في 15 أبريل/نيسان قبضت السلطات التركية على فردين على تواصل مباشر مع القيادي محمد دحلان، مستشار ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد. كانت مهمتهما في تركيا، طبقًا للسلطات التركية ولاعترافهما لاحقًا، هى متابعة أنشطة حركتي فتح وحماس في تركيا. كذلك كانت مهمتهما الحصول على أسماء التنظيم الهيكلي لجماعة الإخوان المسلمين في تركيا.

قبل تلك القضية بشهر واحد كانت محكمة الجنايات العمانية قد بدأت إجراء مقاضاة خلية تجسس إماراتية تم القبض عليها. أُدين في تلك القضية 5 أفراد إماراتيين وعُماني واحد. ليست تلك الحادثة الأولى لسلطنة عمان مع التجسس الإماراتي، ففي عام 2011 أعلنت السلطنة عن تفكيك خلية تجسس إماراتية استهدفت نظام الحكم في عمان وآلية العمل الحكومي والعسكري، على حد وصف البيان الرسمي.

الصقر الإماراتي شُوهد في فنلندا أيضّا، إذ كشف تقرير عن وجود شركة دارك ماتر الإمارات في فنلندا عبر شركة فرعية منذ عام 2014. كما نقلت الوثائق أن الإماراتيين حاولوا التجسس على مسئولي الاتحاد الدولي لكرة القدم، فيفا، بعد فوز قطر باستضافة كأس العالم لكرة القدم 2020. الخطة كانت تقتضي سرقة بيانات من شأنها إلحاق ضرر بسمعة قطر مما يؤدي لحرمانها من استضافة البطولة. ولم يُذكر شيء حول مدى نجاح تلك الخطة من عدمه، لكن شائعات صدرت عام 2014 عن شبهات تلقي مسئولين في الاتحاد رشاوى من قطر لتسهيل حصول قطر على حق تنظيم البطولة العالمية لكن لم يحدث مردود لتلك الإشاعات حتى اللحظة.

عين الصقر تراك

في تقرير لـ «فورين بوليسي» في عام 2017 وردت شهادة أحد الموظفين السابقين لدى الأمن الإماراتي يقول فيها إن العمل معهم كان رائعًا، فهو كان يتقاضى 1000 دولار يوميًا، ويمكنه اختيار أي فندق فخم ليقيم فيه. كما كُشف عن علاقة تربط مسئولين إماراتيين بـ «ماتي كوتشافي» رجل أعمال إسرائيلي ومؤسس شركة آسيا جلوبال تكنولوجي. الشركة تعمل في القارات الخمسة وقيمة عقودها حتى الآن 8 مليارات دولار، أكبر عقودها وأهمهم مع الإمارات بقيمة 800 مليون دولار، ودورها المُعلن في الإمارات وضع أنظمة مراقبة داخل البُنى التحتية وحول مؤسسات النفط.

على مدار 8 أعوام استطاعت شركة آسيا جلوبال أحد أكثر أنظمة المراقبة تكاملًا في العالم. وضع نظام يضم آلاف الكاميرات موزعة على طول 650 ميلًا على كل حدود الإمارات بالكامل، تصب تلك الكاميرات في مقر الشركة في إسرائيل. النظام يُعرف بنظام «عين الصقر». أبوظبي وحدها تحتوي على 20 ألف كاميرا لرصد 1.5 مليون فرد، أما دبي ففيها 35 ألف كاميرا لمراقبة 2.8 مليون مواطن. في حين أن العاصمة الأمريكية واشنطن تحتوي بكاملها على 4 آلاف كاميرا فقط.

استطلاعات الرأي كشفت أن 55% من الإماراتيين يؤمنون أن هواتفهم الذكية مخترقة، وأن حواسيبهم المحمولة خاضعة للتجسس المباشر. ويتفقون جميعًا في عدم شعورهم بالأمان لرفع صورهم الشخصية على البريد الإلكتروني أو النظم السحابية الأخرى لإدراكهم أنها مخترقة من قبل الحكومة.

يبدو أن متصفح الإنترنت الشهير «فايرفوكس» يشارك المواطنين رأيهم، فقد رفضت شركة موزّيلا مالكة المتصفح جعل الإمارات واحدة من حراسها في مجال أمن الإنترنت. شركة دارك ماتر كان من المفترض أن تقوم بهذا الدور لذلك رفضت موزّيلا الأمر لارتباط اسم الشركة بالكثير من قضايا التجسس. لكنّ الفضائح المتتالية لا تؤثر أبدًا على المحاولات الإماراتية لتطوير برامج التجسس، ولا تمنعها كذلك من الاستمرار فيما كُشف عنه من برامج.