النقد على بساط المساواة والحياد هو الطريق إلى صناعة بيئة سياسية ديمقراطية حرة، ومجتمع مدني حضاري، وضمان مستقبل تستحقه أجيال العرب والمسلمين.

ففي الوقت الذي تعلوا فيه الأصوات الداعية لفصل الدين عن السياسة واستخدام هذا المبدأ بغرض تصفية الخصوم السياسيين أو توظيفه كفزّاعة لإقصاء المنافسين عن طاولة السياسة، مع العلم أن الإسلام السياسي تيار له وجود واقعي وبرنامج سياسي، ولأنه أكثر التيارات السياسية شعبية، فإنهم عادة ما يلصقون به تهمة إقحام الدين بالسياسة لمجرد تشويهه والتخلص منه.

وهذا لا ينفي فرضية الأخطاء التي لا تغتفر للأحزاب الإسلامية السياسية، ولكن الحل الأسلم هو دفع هذه الأحزاب إلى تصحيح مكوناتها الفلسفية والفكرية، وهذا بتأسيس قاعدة دستورية مواطنية صادقة وإعمال أدوات الإصلاح السياسي لضمان نفاذ القانون على الجميع والخروج بدولنا العربية والإسلامية من أزمة التخلف والرجعية إلى مصاف التقدم والتنمية والنهضة الحقيقية.

ولكن وللأسف الشديد الاتجاه العام في مواجهة تلك التيارات دائمًا يكلل بالعنف وصفة العقاب ومواجهتهم بالاضطهاد الدائم، فقبل الربيع العربي كان زين العابدين بن علي ومبارك يواجهانها بقوة ويستخدمانها ذريعة للالتفاف على الضغط الغربي البراغماتي أو للتحايل على الضغط الشعبي المتزايد، كانت ورقة “الإسلام السياسي” مبرراً كافياً لإدامة الاستبداد واستمرار الفساد.

وفي ظل ما تتعرض له الأمة العربية الأن من خطابيين أحدهما يميل إلى التحريض على التيار الإسلامي السياسي، ويقف خلفه كوكبة من شيوخ السلطان وخطاب أخر يميل إلى التشدد الفكري والدعوة إلى التطرف؛ خاصة بعد الربيع العربي، بات المجتمع في حاجة كبيرة إلى خطاب سياسي إسلامي معتدل يناقش أمر العامة ويبعد كل البعد عن التسيس الممنهج، فهناك فرق بين التسيس والسياسة ولعل من أكبر رموز ذلك الخطاب المتزن هو الفارس المناضل عبدالحميد كشك السياسي المحنك والإسلامي الداعية.


فارس المنابر

وُلد عبد الحميد بن عبد العزيز كشك في شبراخيت بمحافظة البحيرة يوم الجمعة 13 ذو القعدة 1351 هـ الموافق لـ 10 مارس 1933م، وحفظ القرآن وهو دون العاشرة من عمره، ثم التحق بالمعهد الديني بالإسكندرية، وفي السنة الثانية من الثانوية الأزهرية حصل على تقدير 100%.

وكذلك في الشهادة الثانوية الأزهرية وكان ترتيبه الأول على الجمهورية، ثم التحق بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر. وكان الأول على الكلية طوال سنوات الدراسة، وكان أثناء الدراسة الجامعية يقوم مقام الأساتذة بشرح المواد الدراسية في محاضرات عامة للطلاب بتكليف من أساتذته الذين كان الكثير منهم يعرض مادته العلمية عليه قبل شرحها للطلاب، خاصة علوم النحو والصرف.

عُين عبد الحميد كشك معيداً بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر بالقاهرة عام 1957م، ولكنه لم يقم إلا بإعطاء محاضرة واحدة للطلاب بعدها رغب عن مهنة التدريس في الجامعة. وقد لقي ربه وهو ساجد قبيل صلاة الجمعة في الــ 6 من ديسمبر من عام 1996م وهو في الثالثة والستين من عمره رحمه الله.


لغة عبدالحميد كشك

كانت روح الشيخ كشك معلقة بالمنابر التي كان يرتقيها منذ الثانية عشرة من عمره، ولا ينسى تلك الخطبة التي ارتقى فيها منبر المسجد في قريته في هذه السن الصغيرة عندما تغيب خطيب المسجد، وكيف كان شجاعاً فوق مستوى عمره الصغير، وكيف طالب بالمساواة والتراحم بين الناس، بل وكيف طالب بالدواء والكساء لأبناء القرية، الأمر الذي أثار انتباه الناس إليه والتفافهم حوله.

واستمر الشيخ كشك في هذا المشوار عندما صلب عوده ونضجت تجربته، إذ استمر في تناول الشأن العام سياسيا كان أو اجتماعياً، مما عرضه للاستدعاءات الأمنية، فضلاً عن المضايقات والاعتقالات وهو متمسك بموقفه لا يحيد عنه.

كان الشيخ كشك يتعامل مع المحتوى الإسلامي ككل لا يتجزأ ويدلي برأيه في كافة الأحداث والقضايا، وفي القلب منها مسائل السياسة وإدارة شؤون البلاد، وهذا ما يخالف إرادة السياسيين. كما كان يتمتع باستقلالية تامة في مواقفه وآرائه، إذ ثبت على مسافة بعيدة عن محاباة السلطان في كلمة أو موقف، وكان زاهداً في دنياه وتنازل عن الأموال التي تدرها تسجيلاته التي يتعطش لها ملايين المسلمين حول العالم، وكثيراً ما ردد على منبره: أنه لن يتنازل عن موقعه من الخطابة وعن مدرسة النبي عليه أفضل الصلاة والسلام ولو عرضت عليه المناصب وزفت إليه المقامات، وحصل بالفعل عندما رفض أن يتولى منصباً للدولة أو يبيع منبره لعبد الحكيم عامر عندما طلب منه أن يبيح دم الشهيد سيد قطب، وكان لا يتوانى عن كشف التفاصيل الدقيقة لسجنه والعذابات وجلسات التحقيق بشكل وافي وكامل.


روح التجديد في خطاب كشك

أعاد الشيخ كشك إلى المسجد دوره الإصلاحي، وعبر منبر الخطبة انتقد الشيخ عبد الحميد كشك موقف الشيخ الشهير محمد الشعراوي على خلفية تعليقه المبالغ فيه للرئيس المصري حين ذاك أنور السادات وأمام مجلس الشعب، فيما تكررت مواقفه الحادة والناقدة لبعض أطروحات مشيخة الأزهر.

وكأنه يقدم رأيا مختلفا في دائرة الشريعة، لكنه لا يرضي الساسة ولا ترتاح له القيادة، وبما أوتي من قبول وتأثير، كان تفسيره المختلف لبعض قضايا الشأن العام بدليل الكتاب والسنة يعتبر المشكلة الكبرى لمن كان يريد أن يكسب الدين ورجاله في صفه.

فقد كان يتلو آية “وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون”، وكأنها سوط على ظهور علماء السلطان، وخاصة عندما كان يسمعهم الآية بتفسيرها الوافي وإسقاطها الواقعي ونبضها الحي، وهذا ما زاد من قلق السياسيين على كراسيهم ومن إثارة الجموع الشعبية عليهم.

كما كان يستخدم في خطبه كلمات القرآن التي تعيد الأشياء إلى نصابها: “لمن الملك اليوم؟”، وكأنه يعرّض بالحكام الذين تبلغ بهم شهوة السلطة إلى الظن بغلبة أمرهم واستقرار حكمهم واستسلام الناس لهم، وعلى مسامع جماهيره الغفيرة ممن يحضر في مسجده أو يسمع له من خلال الشرائط التي تنتشر في أصقاع الدنيا كان يردد: “لا ظلم اليوم”، وكأن الظلم برأيه قاصمة العباد ومفسدة البلاد وسبيل الطغاة وصنيعة المستبدين.

كما كان يحمل هم الطبقة المتوسطة والأدنى منها، ومع ذلك لم يقدم خطاباً متشددا يصل إلى مستوى المغالاة والتطرف التي تعيق التنمية وتعطل معيشة الناس، وكانت أبرز ملكاته هي القدرة على البلاغ والتأثير في الناس ولم يمتلك مشروعاً فكرياً مستقلاً بخلاف ما كان عليه بعض معاصريه من الفلاسفة والمفكرين الذين التزموا الخط الإسلامي كالغزالي والقرضاوي وأبو زهرة وسواهم. وبهذا يكون الشيخ كشك تقليدياً في حصيلته، ونابغة في أسلوبه ووسيلته، وفريدا في درجة اتصاله بالمعنى الإسلامي المتكامل، وشجاعا في تبني رأيه.


لماذا خشي الساسة من لغة كشك؟

في الوقت الذي كان فيه لا صورة تعلو على صورة الرئيس، ولا مكان لمزاحمة شخصه، وإذا ما أراد رجل أن يتحدث عن القادة السياسيين آنذاك، فإنه سيفتح على نفسه أبواب الهلاك، وأسوأ من ذلك عندما يفتح نيران انتقاده على الرئيس أو سياساته.

في ذلك الوقت وجه الشيخ نيران انتقاده بحثًا عن الإصلاح على الفنانين والمطربين ونجوم الكرة وأنهم مواطن الفساد الأخلاقي والانحراف الاجتماعي، لم يكن يسلم من حديثه حتى الساسة والقادة، فكان يشملهم بما يراه فيهم انحرافاً عن العدل وخروجاً عن العقل والمنطق، وكان يصفهم بالفساد الإداري وتضييع الحقوق والإفراط في المظالم، حتى يخيّل إليك وكأنك تسمع خطاباً سياسياً خالصاً يدلي به أحد رموز الأحزاب أو تلقيه إحدى جبهات المعارضة السياسية، ولكنه ليس أكثر من رجل دين لا يجد في الله لومة لائم، ولا يحابي في الحق أحدا.

وعلى غرار ذلك اعتقل عام 1965م وظل بالمعتقل لمدة عامين ونصف، تنقل خلالها بين معتقلات طرة وأبو زعبل والقلعة والسجن الحربي. وتعرض للتعذيب رغم أنه كان كفيفًا لا يبصر منذ صغره، ورغم ذلك احتفظ بوظيفته إمامًا لمسجد عين الحياة. وفي عام 1972م بدأ يكثف خطبه وكان يحضر الصلاة معه حشود هائلة من المصلين.

ومنذ عام 1976م بدأ كشك ملحمته الكبرى مع النظام، حيث اصطدام بالسلطة وخاصة بعد معاهدة كامب ديفيد حيث اتهم الحكومة بالخيانة للإسلام وأخذ يستعرض صور الفساد في مصر من الناحية الاجتماعية والفنية والحياة العامة. وقد ألقى القبض عليه في عام 1981 مع عدد من المعارضين السياسيين ضمن قرارات سبتمبر الشهيرة للرئيس المصري محمد أنور السادات، بعد هجوم السادات عليه في خطاب 5 سبتمبر 1981م وقد أفرج عنه عام 1982م ولم يعد إلى مسجده الذي منع منه كما منع من الخطابة أو إلقاء الدروس.

يعد غياب الخطاب الإسلامي المعتدل والسياسي الواعي، السبب الأعظم لما نحن فيه، فنرى غربًا يصم الإسلام بالإرهاب ونرى عروبة تمتهن الخطاب الإسلامي السياسي، دون حركة نحو الإصلاح الفكري والمنهجي، مما يجعل الجموع العربية في حاجة إلى فارس المنابر يحي في نفوسهم القضية ويبني لهم جسور من التفكير، رحم الله الفارس كشك.