حاولت موسكو السيطرة على المنطقة وفشلت منذ بداية الحرب في فبراير/ شباط من العام الماضي، واليوم تحتدم المعارك للسيطرة على باخموت نظرًا لأهميتها الاستراتيجية؛ فعلى المستوى العملياتي تعد بوابة الروس للسيطرة على ما تبقى من إقليم دونيتسك شرق أوكرانيا.

وبسيطرتهم على المدينة يستطيع الروس قطع أحد خطوط إمداد القوات الأوكرانية، وهي عقدة مواصلات مهمة تمر بها السكك الحديدية التي تربط دونيتسك بغرب وشمال البلاد، وقد حذر الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، في مقابلة إعلامية من أن سقوطها يعني فتح الطريق أمام الجيش الروسي للاستيلاء على مدن رئيسية أخرى.

لكن بعيدًا عن أهمية المدينة وموقعها الجغرافي فإن باخموت أصبحت أيقونة للصمود الأوكراني في وجه الجيش الغازي، لذلك يتعاظم الإصرار الروسي على تحطيم هذه الأسطورة، والسيطرة على المدينة التي أعجزت ثاني أقوى جيش في العالم.

ويصرح زيلينسكي بأنه لو نجح الغزاة في رفع علمهم على المدينة فسيساعد ذلك في دعم جهود تعبئة المجتمع الروسي والإيحاء بأنهم جيش قوي، أي إن التبعات المعنوية – وليس الميدانية فقط – لسقوط المدينة سيكون لها أثر كبير.

كما أن المدينة تقع شمال مقاطعة دونيتسك، وهي إحدى المناطق الأربعة التي أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضمها لبلاده رسميًّا في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أي إن تخليه عن هذه المدينة يعني – وفقًا لمزاعم الحكومة الروسية – التفريط في السيادة على أراضٍ تقع داخل حدود روسيا، ولذلك لا يستطيع بوتين التخلي عن هذه المعركة إلا بتحمل إهانة بالغة.

وتطلق موسكو على المدينة اسم «أرتيوموفسك»، وهي تسمية خلافية داخل روسيا نفسها بسبب ارتباطها بالعهد السوفيتي، إذ يرفض بعض السياسيين الروس هذا الاسم محتجين بأن باخموت هو الاسم التاريخي للمدينة قبل قيام الاتحاد السوفيتي، بينما سُميت «أرتيوموفسك» تكريمًا لـ «أرتيوم»، صديق الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين، وبعد تفكك الاتحاد استعادت المدينة اسمها القديم وتم التخلص من الاسم المرتبط بالتبعية لموسكو.

المحرقة

تواصل القوات الأوكرانية صد الهجمات الروسية المكثفة، وسط إصرار من الروس على التقدم، إذ اعترف رئيس مرتزقة فاغنر الروسية، يفغيني بريغوجين، بصعوبة الموقف في باخموت، وبأنه كلما اقترب رجاله من وسط المدينة زادت حدة القتال، لأن الأوكرانيين يدفعون بقوات احتياطية لا تنتهي.

وضخت روسيا موارد هائلة في القتال، بما في ذلك إرسال فاغنر أعدادًا كبيرة من رجالها من نزلاء السجون الروسية الذين انضموا لمجموعة المرتزقة ضمن صفقات تتضمن العفو عن جرائمهم وصرف رواتب لهم مقابل القتال.

ويقدر المسئولون الغربيون أن ما يصل إلى 30 ألف جندي روسي قتلوا أو جرحوا في باخموت وما حولها، ويُعتقد أيضًا أن عدد الضحايا الأوكرانيين مرتفع، على الرغم من أن المسئولين الغربيين يرفضون إعطاء تقديرات.

وقد قدرت مخابرات حلف الناتو أنه مقابل كل جندي أوكراني واحد يقتل أثناء دفاعه عن باخموت، فقدت القوات الروسية خمسة على الأقل.

وتضخ الدول الغربية الأسلحة الجديدة إلى أوكرانيا خاصة الأسلحة الثقيلة كالدبابات، وكذلك تحولت روسيا بشكل متزايد إلى حلفائها في أجزاء أخرى من العالم، مثل إيران التي تعد مصدرًا رئيسيًّا للطائرات بدون طيار والقذائف المدفعية، رغم نفيها ذلك رسميًّا، وفي المقابل أبرمت صفقة لشراء طائرات مقاتلة من موسكو، لكنها تؤكد أن الاتفاقية «لا علاقة لها بحرب أوكرانيا، حيث لا يوجد أي تعاون عسكري على الإطلاق بين إيران وروسيا في أوكرانيا».

وتم توجيه اتهامات لموسكو باستخدام سلاح الفوسفور الأبيض على طريق مؤدٍّ إلى باخموت، وهي أسلحة حارقة يحظر استعمالها ضد المدنيين.

وبحسب المحللين الغربيين فإن قوات موسكو استولت على معظم شرق المدينة المحاصرة وأنشأت خطًّا أماميًّا جديدًا يقطع وسطها، وأصبح خط المواجهة نهر باخموتكا، الذي يمتد عبر وسط المدينة، إذ فجر الأوكرانيون الجسور التي تربط المدينة في وقت سابق لمنع اجتياز الروسيا للنهر، وحولوا هذا الحاجز المائي إلى خط دفاعي لهم، وأمطرت الوحدات الأوكرانية من يقترب منه بنيران كثيفة تُطلق من مبانٍ محصنة غرب المدينة.

بينما تريد روسيا إن عجزت عن احتلال باخموت تمامًا أن تفرض عليها حصارًا لمنع وصول الإمدادات لها، واستكمال تقدمها العسكري للبحث عن أي انتصار بعد سلسلة من النكسات في حرب طالت أكثر مما خطط لها الكريملين.

استنزاف للجميع

تقدم كل من روسيا وأوكرانيا نفس الحجة لتبرير استمرار القتال، وهي أن القتال هناك يستحق التكلفة لأنه يرهق الخصم ويستنزف أي موارد قد تكون متاحة له للقتال في مكان آخر.

وأثارت هذه المعركة خلافات في الجانبين؛ فقد وجه زعيم فاغنر اتهامات لوزير الدفاع ورئيس الأركان الروسيين بمحاولة تدمير مرتزقته وحرمانهم من الذخيرة، ووصف سلوكهما بالخيانة العظمى، وحذر من أن الخطوط الروسية ستنهار إن انسحب رجاله.

بينما يواجه زعيم فاغنر اتهامات من الجيش الروسي بأنه فشل في انتزاع النصر في باخموت رغم الخسائر الهائلة.

وفي أوكرانيا وقع انقسام حول جدوى استمرار الدفاع عن باخموت؛ لأن كلفة المعركة باتت باهظة بما يفوق أهمية هذه المنطقة، لكن الرمزية الكبيرة التي باتت تحظى بها باخموت دفعت كييف للاستماتة في هذه المعركة، لذا أعلن الرئيس زيلينسكي، منتصف مارس/ آذار الجاري أن قادة الجيش قرروا الدفاع عن القطاع الذي يضم هذه المدينة في شرق أوكرانيا وإلحاق أكبر قدر من الخسائر بالروس.

وتطلق القوات الأوكرانية القذائف والصواريخ بغزارة، مما أثار مخاوف من نفاد الذخيرة نظرًا لأنها تستهلك بمعدل أسرع بكثير مما تستطيع الدول الغربية تزويد كييف به.

ولا يتفهم الحلفاء الأمريكيون هذا الإصرار الأوكراني على الدفاع عن مدينة واحدة بهذا الشكل، ويخشون من استمرار استنزاف الجيش الأوكراني بصورة قد تؤثر سلبًا على قدرته على شن هجوم مضاد.

بينما يعتزم الأوكرانيون التمسك بالمدينة المدمرة بمنتهى الإصرار لاستنزاف القوات، تحضيرًا لهجوم مضاد سيطلقونه بالأسلحة الثقيلة والمدرعات الحديثة التي وعد الغربيون كييف بها.

ومن المحتمل أن يركز الهجوم الأوكراني المضاد المتوقع على الجنوب، فأوكرانيا قد تحاول الفصل بين قوات موسكو في جنوب أوكرانيا وتلك الموجودة في شرقها.

ويقول مستشار الرئاسة الأوكرانية، ميخايلو بودولياك، إن بلاده لديها هدفان للدفاع عن باخموت، وهما شراء الوقت لتجديد قواتها، وإيقاع خسائر فادحة بالروس، وهذا لأن المسئولين الأوكرانيين يقولون إن الخسائر الروسية في باخموت أفدح من خسائرهم.

لكن بصفة عامة يبدو أن سقوط المدينة في أيدي الروس مسألة وقت لا أكثر، وهذا ما تدركه كييف وتريد إطالة هذا الوقت ما أمكنها لتكبيد موسكو أفدح خسائر ممكنة وإعاقتها عن التقدم أكثر من ذلك غربًا ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا.