عبد الرحمن الكواكبي الحلبي، ابن مدينة حلب التي قال عنها العقاد إنها «مدينة تتصل بالحوادث وتتصل الحوادث بها».

مفكر قلما يجود به الزمان، لا تجد مثقفاً من يومنا هذا رجوعاً إلى مائة عام مضى لم يسمع به أو يقرأ كتابه الأكثر شهرةً من بين الكتب العربية على الإطلاق، ألا وهو كتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، الذي أصبح مرجعاً لا غنى عنه لفهم عميق لظاهرة تضرب بجذورها في العالم العربي، وهي الاستبداد السياسي بكافة أشكاله وتفرعاته، حيث لم يتصد لتلك الظاهرة المركزية بالتأليف والتحليل أحد مثلما فعل الكواكبي، فترك للمكتبة العربية مؤلفاً لا يُضاهى.

لكن شهرة كتاب «الطبائع» قد وصلت أوجها إلى الحد الذي أخفى ضوءها الساطع مؤلفاً كواكبياً لا يقل عنها في الأصالة والجدة- بل ويسبقها زمنياً في التأليف– فتوارى عن الأنظار ولم يحظ بما حظي به نظيره، رغم ما فيه من فائدة جمة وتحليل شامل لمشكلة متأصلة في العالم العربي احتار المفكرون في البحث عنها وفيها والتأمل في أسبابها ألا وهي ظاهرة التخلف العربي في مقابل تقدُم الأمم الأخرى.

فبعد قرون من الازدهار والانتشار والفتوحات كان التخلف ظاهرة أعيت المفكرين العرب، بخاصة بعد أن فاجأهم التقدم الذي ظهر مع الاحتكاك الأول بين العرب والغرب، فعكفوا يبحثون عن الطريق الذي أوصلهم إلى ذلك الحد من التأخر والتراجع مقارنةً بالأمم الأخرى، رغم ما في أمتنا العربية من أسباب شتى تدفع نحو النهضة وتحث على الاجتهاد والعمل، وفي مقدمتها العامل الحضاري الإسلامي ووحدة اللغة والثقافة والتميز الجغرافي وغيرها.

وفي خضم الأسئلة المتلاحقة تلك حول أسباب التخلف والاجتهادات المختلفة التي بحثت عن الأسباب والنتائج، وقدّمت الأفكار والتحليلات عن سُبل الخروج من أسر التخلف، كان إسهام الكواكبي من التميز بمكان مما يجعله مرجعاً مهماً لا ينال حظه الكافي من الدراسة والتأمل، والمقصود هنا كتاب «أم القُرى» وليس كتاب «طبائع الاستبداد».

«أم القُرى» والبحث عن أصل التخلف

أول كتاب وضعه الكواكبي، فهو باكورة أعماله القلمية وفاتحة اشتغاله بالتأليف؛ أما من ناحية التفكير والتحضير فلا يُحسب الكتاب من أعمال البواكير؛ لأنه نتيجة ناضجة لدراسة طويلة وصل منها إلى نهاية الرأي في أحوال العالم الإسلامي وأسباب ضعفه وبواعث الأمل في صلاحه وتقدمه، فهو محصول حياة فكرية وقفها على هذه الدراسة في جوهرها، ولم تكن دراساته الأخرى إلا شعابًا متفرعة عليها.
عباس محمود العقاد، من كتاب «عبد الرحمن الكواكبي».

إن السؤال الأهم بشأن كتاب «أم القُرى» يدور حول تميزه عن مُؤلَّف الطبائع لنفس المفكر، ونقاط تفرده عن سائر الكتابات التي اضطلع مؤلفون آخرون للإجابة من خلالها على سؤال أسباب التخلف وسُبل الإصلاح.

وفي المقام الأول نجد الكواكبي قد تبنَّى في كتاب «أم القُرى» نمطاً غير تقليدي في صياغة مؤلفه، وهو الفكر اليوتوبي، حيث صبّ أفكاره في شكل تخيلي وعلى نمط محاورات أفلاطون بين شخصيات تخيلية، واختار لنفسه اسم مستعار من بين شخصيات الكتاب التخيلية ليقوم بدور الراوي، ووضع اسمه المستعار على الكتاب، فنجد الكتاب تحت عنوان «أم القُرى: للسيد الفراتي» وليس لعبد الرحمن الكواكبي.

وقد كانت تلك الطريقة اليوتوبية شديدة التميز والثراء، وتشير إلى رغبة الكواكبي تجنب التصريح المباشر بآرائه، لأسباب قد يكون بعضها احترازية، والبعض الآخر بهدف التركيز على الفكرة ومضمونها دون الاهتمام بقائلها، وهو قالب مميز في الكتابة وغير منتشر في العالم العربي ويرمز لمدى تأثُر الكواكبي بالثقافة الغربية وسعة اطلاعه على أساليب مختلفة في الكتابة.

كما يدفع أسلوب المحاورات إلى شحذ انتباه القارئ وإثارة التساؤلات في عقله، بينما يقرأ مناقشات العلماء في ثنايا الكتاب، وقد يكون الكواكبي قد تعمد استخدام ذلك الأسلوب لتحريك العقول ودفع الناس للتأمل والتدبر والبحث والتحليل، فهو لا يكتفي بتقديم الإجابات، بل يمنح القارئ فرصة لتعلم كيفية إثارة التساؤلات والتفكير المنطقي مثلما استهدف سقراط من محاوراته مع العامة والخاصة في أثينا من تعليم الشباب التفكير والهروب من أسر السفسطة.

ومن ناحية ثانية يناقش كتاب «أم القُرى» أسباب التخلف من سائر جوانبها دون التركيز على عامل واحد وهو الاستبداد، فربما كان الاستبداد هو حجر الأساس في كل مشكلات الأمة لكن أي ظاهرة اجتماعية أو سياسية لا يمكن تفسيرها وإرجاعها إلى عامل واحد بمعزل عن تحليل سائر العوامل الأخرى التي تؤثر فيها وتتأثر بها، بما يشي بشمولية فكر الكواكبي وقدرته على الإحاطة بسائر أسباب التخلف الإسلامي والإمساك بأصل الداء وتجلياته.

أمّا السبب الأكثر أهمية والأدعى استشهاداً للتدليل على أهمية كتاب «أم القُرى» مقارنةً بلاحقه «طبائع الاستبداد»، حقيقة أن أم القُرى يُقدم الحلول دون الاكتفاء بتحليل أصل الداء، فبينما الطبائع قد لخّص مشكلات العام العربي وأصل التخلف فيه ممثلاً في الاستبداد ومستشهداً بتجليات ذلك الاستبداد وامتدادات تأثيراته إلى سائر الميادين والأفرع الاجتماعية والسياسية والدينية وغيرها، فإن الطبائع على العكس يصف المشكلات ويتحاور بشأن كيفيات التوصل إلى حلول مقترحة بشكل عملي، مما ينفي عن الكواكبي النظرة السائدة للمفكر، بأنه صاحب القلم الرابض فوق البرج العاجي غير العابئ بأرض الواقع.

كذلك فإن «أم القُرى» يؤصِّل لفكرة الديمقراطية وحرية الرأي بشكل خيالي قصصي مُلفت حين يجتمع العلماء لبحث مشكلات العالم الإسلامي، ويُؤطِّر لفكرة محورية دور العلماء في تقديم الحلول والدعم اللازم للتوصل إلى أصل المشكلة واقتراح الحلول المناسبة، فهو لا يُحمِّل القيادة السياسية واستبدادها جُل الاتهام في ما وصل إليه العالم الإسلامي من تخلف، ولا يُلقي بالاتهامات التي تنطبع بنبرة احتقار نحو العامة بأنهم السبب في التخلف، بل يجمع بين هذا وذاك ثم يُحمِّل العلماء مشعل الحرية والتنوير ويضع على عاتقهم الجانب الأكبر من البحث عن المشكلة وتحليلها وتأصيلها ثم السعي لتقديم حلول، بل وتطبيقها في الواقع أيضاً.

من «أم القُرى» إلى «طبائع الاستبداد»

لقد كان الحديث في مثل هذه الموضوعات التي مسّها «الكواكبي» في «طبائع الاستبداد» و«أم القُرى» من الموضوعات المُحرّمة، لأنها تمس نظام الحكم من قريب، وتُفهِّم الشعوب حقوقهم وواجباتهم، وتُقفهم على مناحي الظلم والعدل، وتهيئتهم للمطالبة بالحقوق إذا سلبت، والقيام بالواجبات إذا أهملت، وهذا أبغض شيء لدى الحاكم المستبد.
أحمد أمين، من كتاب «زعماء الإصلاح في العصر الحديث».

بينما وقع اختيار الكواكبي في كتابه الأول «أم القُرى» على القالب الخيالي الحالم لبحث ودراسة مشكلة التخلف الإسلامي من سائر جوانبها، يتبيّن مدى استعصام الكواكبي في المرحلة الأولى من مسيرته الفكرية بالطموح والتفاؤل والحالمية، بينما يُمثل «طبائع الاستبداد» النضوج الفكري الواقعي الذي أصاب الكواكبي بتقدمه في العمر وتقلبه في بلاد العالم الإسلامي وزيارته كثير من المدن، وإدراكه أخيراً أن حلول تلك المشكلات يكمن بالأساس في يد السلطة الحاكمة التي يجدر بها امتلاك الإرادة السياسية اللازمة للعمل على حلول المشكلات التي طرحها علماء أم القُرى.

ولما كانت السلطة غير راغبة في الإصلاح وراضية –بل وربما مستفيدة– بالوضع القائم على التخلف والجهل، فإن ذلك قد أفضى بالكواكبي إلى التأكد أخيراً أن أصل الداء هو الاستبداد، وأن العامل الأهم الذي يجدر محاربته للتوصل إلى المدينة الفاضلة التي خطّ ملامحها في أم القُرى هو مجابهة الاستبداد وفضح أمره، ومطاردة سائر تجلياته في شتى نواحي الحياة الاجتماعية والسياسية والدينية، إذ الوعي ابتداءً بتجليات الاستبداد واجتثاث جذوره المتشعبة في التربة العربية يُسهِم في تحقيق الخطوة الأولى التي تقودنا ثانياً إلى حل سائر المشكلات، سواء في مجال التعليم أو الصحة أو الدين وغيرها، وهو ما قد يُقدِّم تفسيراً بسيطاً عن السبب الكامن وراء بقاء تساؤلات الإصلاح والبحث عن النهوض قائمة منذ قرن من الزمان في عالمنا العربي، رغم أنها قُتلت بحثاً على المستوى الفكري، حيث طوال مائة عام لم تتوفر الإرادة السياسية، مما جعل أسئلة واقتراحات الإصلاح لا تزال طي الكُتب حتى يومنا هذا.

الخاتمة

إن من أعظم أسباب الفتور في المسلمين غرارتهم، أي عدم معرفتهم كيف يحصل انتظام المعيشة، لأنه ليس فيهم من يرشدهم إلى شيء من ذلك. فمن الغرارة في طبقاتنا كافة، من الملوك إلى الصعاليك، إننا لا نرى ضرورة للإتقان في الأمور، وقاعدتنا أن بعض الشيء يغني عن كله، والحق أن الإتقان ضروري للنجاح في أي أمر كان، بحيث إذا لم يكن مُستطاعاً في أمر يلزم ويتحتم ترك ذلك الأمر كلياً، والتحول عنه إلى غيره من المستطاع فيه إيفاء حق الإتقان.
من كتاب «أم القُرى».

ورغم ما تشي به تلك النتيجة التشاؤمية بشأن عدم إمكان الإصلاح في ظل عدم توافر الإرادة السياسية، يظل الاطلاع والبحث عن المراجع العربية التي خاضت في تلك المسألة أمراً مهماً للاعتراف بالمشكلة ابتداءً، وتشخيص أصل الداء على حد قول الكواكبي، فالتشخيص يستدعي قبلاً اعتراف بالمرض، ثم في التشخيص رغبةً وإرادةً في الإصلاح، ولا يكفي توافر الإرادة السياسية إذا لم يكن الوعي العام متقبلاً للإصلاح.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.