في مطلع يناير/ كانون الثاني الماضي، وبينما كانت المظاهرات المطالبة بإسقاط نظام الرئيس عمر البشير تستعر جذوتها، أجرى صلاح قوش، رئيس جهاز الأمن والمخابرات الوطني السوداني في ذلك الحين، زيارة غير متوقعة إلى سجن كوبر، حيث يعتقل البشير عشرات السياسيين المعارضين. التقى قوش 8 سياسيين محبوسين وأخبرهم أنه أخذ تعهدًا من أبوظبي بدعم السودان بالوقود والمساعدات الاقتصادية، وطلب منهم أن يدعموا خطة سرية لتأسيس نظام سياسي جديد في السودان.تكشف وكالة «رويترز» للأنباء في تقرير مطول، التقت فيه 10 مصادر مطلعة، الملابسات التي قادت إلى انقلاب الجيش على الرئيس السوداني السابق عمر البشير، والدور الذي لعبته دولة الإمارات العربية المتحدة فيما حدث. نبرز هنا أبرز ما جاء في التقرير، مع بعض الإضافات لتوضيح سياق بعض الأحداث.


اللعب على الحبال انتهى

أتقن البشير طوال 30 عامًا قضاها في الحكم التلاعب بمنافسيه من الإسلاميين والعسكريين في السودان، والتنقل من معسكر إلى معسكر على المستوى الدولي، لكن تحركاته الأخيرة على الحبال الإقليمية قادته إلى نهايته.في فبراير/ شباط 2017، زار البشير الإمارات والتقى ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد. كانت العلاقات بين الرجلين دافئة جدًا في تلك الفترة؛ فالسودان كان يشارك بـ14 ألف جندي في حرب اليمن التي تقودها السعودية والإمارات على جماعة الحوثي المتحالفة مع إيران.وجه الشيخ محمد بن زايد، خلال اللقاء، الشكر للزعيم السوداني على إرسال قواته لدعم الإمارات والسعودية في اليمن. وقال وهو يجلس بجوار البشير إنه يريد أن يقول كلمة حق عن الرئيس السوداني وهي أنه عندما ساءت الأمور دعم السودان التحالف العربي دون طلب. وأضاف «هذا الموقف بنخلفه على عيالنا وعيال عيالنا أمانة في رقابنا».

كان هذا ما دار في اللقاء أمام عدسات الكاميرات، لكن في الكواليس تحدث الرجلان عن أمر آخر. وفق مصدر رفيع في الحكومة السودانية أطلعه البشير على ما دار في اللقاء، فإن ولي العهد طلب من البشير التعاون في موضوع آخر؛ التضييق على الإسلاميين. ووصل الرجلان إلى «تفاهم» يقضي بأن يتخلص البشير من الإسلاميين مقابل أن تقدم له الإمارات دعمًا ماليًا.كما هو معلوم، تقود الإمارات مساعٍ إقليمية للتصدي للإسلام السياسي الذي تعتبره هي والسعودية تهديدًا مباشرًا للحكم الملكي وللمنطقة. وفي عام 2013 دعمت الدولتان ومعهما الكويت، تحرك الجيش المصري للإطاحة بالرئيس الإخواني الأسبق محمد مرسي، وقدموا للقاهرة مساعدات قيمتها 23 مليار دولار على مدار 18 شهرًا التالية للانقلاب.الأمر في السودان مختلف، فالنفوذ الإسلامي كان أكثر رسوخًا بكثير منه في مصر ويمتد لعشرات السنوات. فالبشير أتى إلى السلطة أصلًا بتحالف بين العسكريين والإسلاميين، ومنذ ذلك الحين أصبح الإسلاميون جزءًا أساسيًا من المؤسسة العسكرية وأجهزة المخابرات والوزارات الرئيسية.تدفقت مليارات الدولارات من الإمارات على السودان بعد محادثات أبوظبي ووعد البشير بالتعامل مع الإسلاميين. حولت الإمارات للسودان في السنة المنتهية في مارس آذار 2018 ما قيمته 7.6 مليار دولار في صور دعم للبنك المركزي السوداني واستثمارات.بعد لقاء أبوظبي بأربعة أشهر، اندلعت الأزمة الخليجية، وقطعت الإمارات والسعودية ومصر والبحرين العلاقات مع قطر لاستيائها من دعمها المتواصل لجماعة الإخوان المسلمين. كان جناح الإمارات يتوقع أن ينضم البشير إليه، لكن الرئيس السوداني وجد نفسه في وضع صعب، فقطر قدمت للسودان هي الأخرى دعمًا ماليًا بمليارات الدولارات.ضغط حلفاء البشير الإسلاميون عليه للحفاظ على العلاقات مع قطر وعدم الانحياز لأي من طرفي الأزمة، وهو ما التزم به الرئيس السوداني الذي أبقى على علاقاته مع الدوحة، وأبرم في مارس/ آذار 2018 اتفاقًا معها لتطوير ميناء سواكن السوداني على البحر الأحمر باستثمارات قدرها 4 مليارات دولار.واصل البشير تخييب ظن أبوظبي واختار ألا يقلص نفوذ الإسلاميين في حكومته. ووفق مسؤول حكومي كبير فقد كان يخشى استعداء شخصيات إسلامية لها نفوذ كبير في نظامه. وعلى رأس هؤلاء علي عثمان طه، النائب السابق للرئيس، وبكري حسن صالح الذي خلفه في منصب نائب الرئيس والذي شارك في الانقلاب الذي أتي بالبشير عام 1989.


الإمارات تتخلى عن البشير

بحلول أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، كان الاقتصاد السوداني ينزلق إلى أزمة حادة إذ قل الخبز والوقود والعملة الصعبة. وهنا قررت الإمارات معاقبة البشير لعدم التزامه باتفاق أبوظبي، فأوقفت، في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، إمدادات الوقود للسودان.تقول قمر هباني، أمينة شؤون المرأة بحزب المؤتمر الوطني السوداني الذي كان البشير يترأسه، أنها سألت الرئيس في ذلك الحين عن سبب عدم تقديم الإمارات والسعودية يد المساعدة للسودان، فرد عليها بقوله: «إخواننا يريدونني أن أتخلص منكم أيها الإسلاميون».في فبراير/ شباط الماضي، كان البشير يخطو نحو مصيره المحتوم وتجاوز نقطة اللاعودة، وذلك عندما أعلن في اجتماع مع مجلس الشورى السوداني، انتماءه للحركة الإسلامية وافتخاره بذلك. أكدت هذه التصريحات للإمارات أن البشير لن ينفذ اتفاقه معها وينقلب على الإسلاميين.خلف الكواليس، كان مؤامرة عزل البشير تتبلور منذ مطلع عام 2019. فكما ذكرنا آنفًا، زار صلاح قوش، الرئيس السابق لجهاز الأمن والمخابرات الوطني السوداني، قيادات المعارضة في سجن كوبر، وأخبرهم عن حصوله على دعم إماراتي للإطاحة بالبشير. كانت الإمارات وقوش يخططان لإخراج البشير من المشهد بشكل كريم، عبر إعلان فترة انتقالية يظل فيها البشير رئيسًا ثم تعقبها انتخابات رئاسية. وأعلن قوش في مؤتمر صحفي في 22 فبراير/ شباط، عقب تفاقم الاحتجاجات ضد النظام السوداني، أن البشير لن يسعى لإعادة انتخابه في 2020، لكن البشير ألقى خطابًا في نفس الليلة ولم يذكر الأمر.أجرت الإمارات في تلك الفترة اتصالات بقادة أحزاب المعارضة السودانية والجماعات المتمردة التي حاربت البشير من أجل بحث «الوضع السياسي في سودان ما بعد البشير». ثم بدأت الخطة تتخذ طابعًا جديًا عندما لم يتدخل جهاز الأمن والمخابرات الذي يقوده قوش لمنع المتظاهرين من الاعتصام أمام مقر وزارة الدفاع في 6 أبريل/ نيسان الماضي.تواصل قوش مع كبار المسؤولين في الأجهزة الأمنية، بمن فيهم وزير الدفاع ورئيس أركان الجيش وقائد الشرطة. كان الفريق أول محمد حمدان دقلو «حميدتي»، قائد قوات الدعم السريع وحليف البشير آخر من شاركوا في المؤامرة. واتفق الجميع أن الوقت حان لإنهاء حكم البشير. مساء يوم 10 أبريل/ نيسان الماضي، زار صلاح قوش الرئيس البشير في قصره لطمأنته أن الاحتجاجات الشعبية لا تشكل خطرًا عليه، وأن الاعتصام خارج مقر وزارة الدفاع سيتم احتواؤه أو سحقه. دخل البشير فراشه لينام قرير العين، وعندما استيقظ بعد 4 ساعات لأداء صلاة الفجر أدرك أن قوش خانه؛ اختفى حراس القصر وحل محلهم جنود من الجيش النظامي. كان ضباط الجيش في انتظاره عندما أتم صلاته، وأبلغوه أن اللجنة الأمنية العليا المؤلفة من وزير الدفاع وقادة الجيش والمخابرات والشرطة قررت عزله لعدم صلاحيته. ثم نقلوه البشير إلى سجن كوبر بالخرطوم الذي سبق أن زج فيه بالآلاف من خصومه السياسيين خلال فترة حكمه ولا يزال فيه حتى الآن.

تواصل الإمارات مساعيها لتأسيس نظام سياسي جديد في السودان، فبعد عزل البشير ببضعة أيام أرسلت وفدًا للقاء حكام السودان الجدد العسكريين. وفي 21 أبريل/ نيسان أعلنت الإمارات والسعودية أنهما ستقدمان مساعدات للسودان قيمتها 3 مليارات دولار. وفي المقابل أكد حميدتي أن القوات السودانية ستبقى في اليمن.

بالتزامن مع هذا، كانت جماعات من المعارضة والمتمردين تلتقي بمسؤولين إماراتيين في أبوظبي. وكان ممن حضروا تلك المحادثات أحمد تقد، القيادي بحركة «العدالة والمساواة» المتمردة في دارفور. وقال إن مسؤولي الإمارات كانوا يريدون سماع آرائهم في المصالحة والاستقرار، مضيفًا: «ركزنا على عملية السلام وعلى كيفية تسوية الصراع في مناطق الحرب».