الانتخابات على الأبواب، والتقارير تتوالى حول فشل التعامل مع جائحة كورونا، فماذا يفعل دونالد ترامب الرئيس الأمريكي؟ لم يُغير شيئًا من ساسيات تعماله مع الأزمة، لكن لجأ ترامب لحل غير تقليدي، الخطابات. في أقل من 5 أيام ألقى ترامب ثلاثة خطابات مختلفة عن كل الخطابات التي ألقاها منذ بدأ الأزمة.

في 18 مارس/ آذار 2020 أثناء تقديم إحاطة صحفية حول مستجدات الجائحة الوبائية قال ترامب باقتضاب، إنّه يرى نفسه حاليًا كرئيسٍ في حالة حرب. ثم في اليوم التالي بدأ ترامب يُدرك تأثير الكلمات التي قالها عفويةً فعاد يكررها بصورة أكثر تفصيلية، فقال: إن الحرب على «كورونا» هي أكبر حرب تخوضها الولايات المتحدة في تاريخها. وأضاف أيضًا، إنها حرب طبيّة، ومن المهم أن يكسب هذه الحرب، وإنها حرب شديدة الأهمية.

ثم في 20 مارس/ آذار كرر الكلمة مؤكدًا أن الأزمة الراهنة لا تقل وطأة عن دخول الأمة الأمريكية بكاملها حالة حرب. إلا أنه أضاف هذه المرة، أن الحرب أخطر من الحرب العالمية الثانية، لذا يجب أن يكون رد الولايات المتحدة استثنائيًا وغير مسبوق. وذكّر الأمريكيين بأن كل الأجيال السابقة لم تتأخر في تقديم التضحيات من أجل صالح الأمة الأمريكية، وضرب أمثلة بالشباب الذي يتطوع للقتال والعمال الذين ينامون في المصانع. واستطرد قائلًا: إن مواجهة هذا العدو غير المرئي تستدعي أن يكون الجميع «معًا»، أن يضحي الجميع معًا، وأن يلتف الشعب حول حكومته.

إذن لم يستخدم ترامب كلمة الحرب أو يصف نفسه بـ«رئيس وقت الحرب» إلا لأن الحرب تفرض على الجميع أن يكونوا معًا. فمن غير المقبول أن تتشرذم الأمة داخليًا بينما يتربص بها عدو خارجي سوف يفتك بالجميع. سيكون إهدارًا للوقت والموارد أن تتجه عقول الساسة وأموال الشعب لإجراء انتخابات، بينما الأولى صناعة مزيد من الأسلحة للدفاع عن وجود الأمة. وإذا كان لا بد من الانتخابات، كون موعدها مُحدداً بمواد دستورية وقانونية لا يمكن تغييرها بسهولة، فلن تكون انتخابات إجرائية لمنح الرئيس الحالي ولاية جديدة ليُكمل الحرب. استراتيجية مقنعة نظريًا، وأثبت الأمريكيون أن تطبيقها ممكن.

«ابن لادن» منح ولاية ثانية لرئيسين

بتلك الاستراتيجية يحذو ترامب حذو العديد من الرؤساء الأمريكيين الذين سبقوه. من ضمن السابقين، باراك أوباما الذي انتقده ترامب شخصيًا في تغريدة له في نوفمير/ تشرين الثاني عام 2011، يقول فيها ترامب إن أوباما سوف يلجأ لغزو إيران عسكريًا كي يضمن إعادة انتخابه لولاية ثانية. أوباما لم يضرب إيران لكن اختار شيئًا آخر قُبيل انتخابات الولاية الثانية، قتل زعيم تنظيم القاعدة السابق «أسامة بن لادن».

استطلاعات الرأي تقول، إنه بعد الإعلان عن اغتيال ابن لادن قفز معدل القبول الشعبي لأوباما من 46%، قبل 3 أيام من تنفيذ العملية، إلى 52% بعد تنفيذ العملية بثلاثة أيام. ظل أوباما محتفظًا بشعبيته العالية طوال شهرين ثم عادت إلى معدلاتها الطبيعية، لكن الدَفعة كانت كافية لتضمن لأوباما فرصةً ثانيةً في البيت الأبيض.

أما من سبق أوباما، فكان الأسبق جورج بوش الابن، بعد أحداث تفجير برج التجارة العالمي في 11 سبتمبر/ أيلول عام 2001. قبل الحادثة بيوم واحد فقط كانت معدلات الرضا الشعبي عن بوش 51%، لكن بعد الحادثة بثلاثة أيام صارت النسبة 85%، ثم بمضي 4 أيام أخرى أصبحت النسبة 90%، نسبة غير مسبوقة في التاريخ الأمريكي على الإطلاق. بعد أن كانت الحادثة بمثابة الإهانة للهيمنة الأمريكية وطعن في قدرة الولايات المتحدة على حماية مواطنيها فضلًا عن حماية حلفائها، استطاع بوش أن يستغل تلك الأزمة بأخذ موافقة الأمريكيين على غزو العراق. انخفضت معدلات بوش بعد ذلك لكن غزو العراق بدوره حافظ عليها مرتفعةً عما كانت عليه قبل 11 سبتمبر/ أيلول، مما وضعه في البيت الأبيض لولاية ثانية.

الابن على نهج أبيه، في يناير/ كانون الثاني عام 1991 كان جورج بوش الأب حاصلًا على معدلات تصل إلى 59%، لكن حين أعطى إشارة البدء لعاصفة الصحراء، حرب الخليج، ارتفعت معدلاته في فبراير/ شباط إلى 89%. استغرق الأمر 8 أشهر حتى بدأت معدلاته في الانخفاض مجددًا لكنها ظلت مرتفعة عن حالها قبل عاصفة الصحراء فوصلت في أكتوبر/ تشرين الأول إلى 61%.

إذا كنت تمر بأزمة، اضرب العراق

استخدام الخطاب الحربي نجح أيضًا مع آخرين، منهم جيمي كارتر. فجأة قفز معدلات الرضا الشعبي عنه من 32% إلى 58% بعد أيام من استيلاء إيران على السفارة الأمريكية في طهران في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1979. كارتر لم يكن ذكيًا بما يكفي للحفاظ على الدعم الشعبي لذا تسببت معالجته للأزمة إلى انخفاض شعبيته لاحقًا، لكن أيضَا ظلت أعلى من حالتها السابقة.

جون كيندي سبق كارتر في هذا المضمار إبان أزمة الصواريخ الكوبية. وفقًا للاستطلاعات كانت معدلات الرضا عن كينيدي في أكتوبر/ تشرين الأول عام 1962 تبلغ 61%. الأزمة رفعت معدلاته إلى 74%، ثم في ديسمبر/ كانو الأول أصبحت 76%. ظل تأثير الأزمة في صالح كينيدي قرابة العام، لكن انخفضت معدلاته في يونيو/ حزيران عام 1963 لتعود إلى 61% كما كانت قبل الأزمة.

ربما كان كارتر وكينيدي أمام موقف مفروض عليها ولم يفتعلاه، أما الرئيس الأمريكي بيل كلينتون فالاحتمال الأكبر أنه افتعل أزمته الخاصة. مجلس النواب الأمريكي يُعد أوراقه لمناقشة عزل كلينتون بسبب فضيحة «مونيكا لوينسكي» الشهيرة، لكن فجأة أصدر كلينتون قرارًا بشن غارات جوية على العراق.

غارة الأيام الأربعة امتدت من 16 إلى 19 ديسمبر/ كانون الأول عام 1998، واستهدفت مصانع للأسلحة العراقية وبعض أجزاء من قصر صدّام حسين، الرئيس العراقي آنذاك. لم تكن تلك سياسة كلينتون الخارجية، فقد كان ميالًا للحوار الدبلوماسي مع صدام حسين، كما كانت تلك الضربة هي الأكبر منذ حرب الخليج عام 1991. ورغم غضب الجمهوريين، استطاع الكونجرس مدعومًا بالظهير الشعبي الذي اكتسبه كلينتون جراء الغارة أن يعرقل قرار العزل.

أحداث كثيرة تملأ التاريخ الأمريكي على هذه الشاكلة، رئيس يمر بأزمة فيقرر خوض حرب. ليس آخر تلك الأحداث كيفية استدعاء ترامب لكلمات الحرب في مواجهة جائحة كورونا، بل يسبقها حادثة لترامب أيضًا. القبول الشعبي لترامب في أواخر عام 2019 انخفض لما دون 42%، لذا لم تمض الأسابيع الأولى من عام الانتخابات المرتقبة 2020 حتى أقدم ترامب على فعل غير مسبوق في السياسة الأمريكية الإيرانية، اغتيال قاسم سليماني. ولم يكن من المفاجئ أن ترتفع نسبة القبول الشعبي له لـ50% بين ليلة وضحاها.

قانون «تأثير الالتفاف حول العلم»

تكرار الأمر في السياسة الأمريكية يعني أن الفعل الصادر من الحكام ليس عفويًا، وأن رد الفعل يمكن هندسته بصورةٍ ما ليتم استغلاله بالشكل المطلوب. عالم السياسة جون مولر في ورقة بحثية نشرها عام 1970 بعنوان «الشعبية الرئاسية من ترومان إلى جونسون» وضع مصطلح «تأثير الالتفاف حول العلم». المصطلح يشرح به مولر الدعم الشعبي المتزايد على المدى القصير لرئيس الولايات المتحدة خلال فترات الأزمات أو الحروب الدولية.

الحدث الذي يستطيع به الرئيس الأمريكي صرف النظر عن سياساته الداخلية وتوجيه نظر الأمة الأمريكية للخارج يجب أن يحتوي ثلاث صفات في نظر مولر: أولًا: أن يكون دوليًا. ثانيًا أن يشمل الولايات المتحدة أو الرئيس بشكل مباشر. ثالثًا: أن يكون الحدث نفسه محددًا ومثيرًا ويتم التركيز عليه بشدة.

الحوادث التي تنطبق عليها تلك الصفات صنّفها مولر إلى 5 أقسام أو أنواع عامة: منها على سبيل المثال النوع الأول، يشمل حدوث تدخل عسكري أمريكي مفاجئ. أما النوع الثاني، فعبارة عن إجراء دبلوماسي ضخم، مثل اعتراف الرئيس الأمريكي ترومان بدولة إسرائيل بعد 11 دقيقة من قيامها. لكن النوع الثالث فهو حدث تكنولوجي ضخم، مثل إطلاق السوفييت لأول قمر فضائي «سبوتنيك».

اكتفى مولر برصد الأحداث والتأثير لكن منذ صاغ المصطلح والمفكرون يتبارون في تفسير السبب وراءه. مدرستان فكريتان هما أبرز من اقتربا من التفسير، المدرسة الأولى تؤمن بأنه في وقت الأزمات يدرك الأمريكيون المتناحرون سياسيًا أنهم يعيشون في وطن واحد يحتاج دعمهم جميعًا، ثم يرون أن الرئيس هو تجسيد هذا الوطن، فيصبح دعم الرئيس ضرورة وطنية لا جدال فيها.

أما المدرسة الأخرى، فترى الأمر بمنظور آخر، أن الالتفاف حول الرئيس وقت الأزمة يأتي من سكوت الأحزاب المعارضة عن الانتقاد. مفكرو تلك المدرسة يقولون، إنه حين يكف أعضاء الكونجرس عن انتقاد الرئيس وسياساته لا تجد وسائل الإعلام صراعًا داخليًا لتنقله، بالتالي يبدو للجمهور والعامة أن أداء الرئيس جيد ويحوز على رضا المعارضة التي تمثلهم، ومن ثم يلتف عامة المعارضين حول الرئيس.

اللطيف أنه يُعتقد أنه كلما كانت نسب الرضا عن الرئيس قليلة قبل حدوث الأزمة فإنها قابلة للزيادة بصورة أكبر بعد الأزمة. مثلًا نسبة فرانكلين روزفلت كانت 72% فارتفعت إلى 84% بعد الهجوم الشهير على «بيرل هاربور»، أما جورج بوش الابن فكانت نسبته 39% فقط فصارت 90% بعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول عام 2001.

لم تفشل منذ أول يوم استخدمت فيه عام 1815 على لسان الجنرال «أندرو جاكسون»، أول من استخدمها قبل مولر. فقد وضع مولر العلم الأمريكي في وسط جنوده أثناء ذهابهم لمحاربة جيش بريطانيا العظمى، ليخبرهم أنه مهما كانت خلافاتهم فإن المرحلة الراهنة هي أوان التوحد لرفع العلم الأمريكي.

وبالفعل فاز جيش الولايات المتحدة في تلك الحرب، والأهم أن جاكسون أصبح الرئيس السابع للولايات المتحدة لمدتين متتابعتين. لتثبت تلك المقولة أنه قد تتفاوت النسبة الزائدة التي سوف تضعها استراتجية «الالتفاف حول العلم» في رصيد الرئيس الذي يستخدمها، لكن الثابت أن هذه الطريقة تنجح دائمًا.