شهدت نهاية عام 2021 ارتفاعًا في منسوب التوتر بين بكين وعدد من دول العالم على خلفية قضية اضطهاد المسلمين الإيجور، رغم أن عمليات الإبادة التي يمارسها الحزب الشيوعي ليست جديدة، لكن الاهتمام العالمي بالقضية بلغ درجات غير مسبوقة على خلفية الحرب الباردة بين الشرق والغرب.

وتتهم الصين خصومها بمحاولة تفتيتها عبر دعم الأقليات المقهورة، والسعي لنشر الديمقراطية بها بهدف إسقاط النظام الشيوعي؛ لذا تعمل على الفتك بالأقليات، خاصة الإيجور الذين يعتبرونهم قوة احتلال اغتصبت أراضيهم منذ 73 عامًا.

ويمارس الحزب الشيوعي رقابة صارمة على الأقلية المسلمة في شمال غربي البلاد ويستخدم التكنولوجيا في حملة استهداف عنصري قاسية تشمل التعقيم الإجباري والاغتصاب ومختلف أنواع التعذيب ومحو الهوية، بحجة محاربة التطرف الديني والميول الانفصالية.

ونالت القضية اهتمامًا دوليًّا منذ أغسطس/آب 2019، حين أعلنت الأمم المتحدة أن الحزب الشيوعي يحتجز نحو مليون مسلم في معسكرات سرية داخل إقليم شينجيانج.

جبهة غربية ضد الصين

أقر الرئيس الأمريكي جو بايدن مؤخرًا «قانون حماية الإيجور» الذي سنه مجلس الشيوخ، وينص على منع استيراد منتجات مصنوعة في إقليم شينجيانج (موطن الإيجور بالصين)، إلا إذا استطاعت الشركات إثبات أن منتجاتها لم يعمل فيها الإيجوريون بالسـُّخرة، وهو إجراء اعـتُبر سابقة من نوعه في العلاقات بين الدول.

وأعلنت وزارة التجارة الأمريكية وضع نحو 30 شركة صينية على اللائحة السوداء لاتهامها بانتهاكات حقوق الإنسان في شينجيانج، وفرضت بكين عقوبات على مسئولين أمريكيين.

ولم تكن واشنطن وحدها، بل دعا رئيس الوزراء الكندي، جاستن ترودو، الغربَ إلى التكتل في جبهة موحدة ضد الصين، وتوترت كذلك علاقات بكين مع الاتحاد الأوروبي، وتبادل الطرفان العقوبات على خلفية أزمة مسلمي الإيجور أيضًا.

وتلقت بكين صفعة معنوية أخرى من «محكمة الصين المستقلة»، وهي هيئة غير حكومية مقرها لندن تضم محامين وأكاديميين وخبراء في حقوق الإنسان ودبلوماسيين سابقين، يرأسها جيفري نايس العضو السابق في هيئة الادعاء في محاكمة جرائم الحرب في لاهاي؛ إذ وجهت المحكمة في التاسع من ديسمبر/ كانون الأول اتهامات بارتكاب إبادة جماعية بحق الإيجور والاتجار في أعضائهم، وجني أرباح تصل إلى 20 مليار دولار من هذه التجارة، فيما وصفت الخارجية الصينية المحكمة بأنها «ماكينة أكاذيب».

وكانت تقارير سابقة كشفت أن الحزب الشيوعي يشرف على عملية الاتجار في أعضاء مسلمي هذه الأقلية المضطهدة بأسعار باهظة باعتبارها «أعضاءً حلالًا»؛ لأن أصحابها لم يكونوا يشربون الخمر أو يأكلون الخنزير وما شابه ذلك، ويتم تسويق هذه التجارة للمرضى القادمين من الدول الإسلامية.

اللعب بالنار بين أنقرة وبكين

ينتمي الإيجور – يُطلق عليهم أحيانًا الأويغور – إلى العرق التركي؛ لذا كانت أنقرة تتبنى قضيتهم تاريخيًّا، فقد كان لزعمائهم صلات مع الدولة العثمانية حتى نهاية عهدها، كما استقبلت المدن التركية على مدى العقود السابقة عددًا منهم أتوا إليها فرارًا من الاضطهاد الشيوعي، ولقوا رعاية من الرؤساء والزعماء الأتراك.

واليوم تأخذ القضية أبعادًا أكثر حساسية بعد أن أصبحت عنوانًا للصدام بين أنقرة وبكين؛ فقد أقدمت الأخيرة على انتهاج توجه غير معهود عبر استهداف أكثر القضايا إزعاجًا للأتراك وهي الملف الكردي، وشرعت في توجيه اتهامات لهم بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان في مناطق الأقلية الكردية، وانتقد نائب المندوب الصيني الدائم لدى الأمم المتحدة، قنج شوانج، العمليات الجوية التركية في شمال العراق، وشكا من سقوط ضحايا مدنيين بسببها، ودعا إلى احترام سيادة بغداد، واتهم الجيش التركي بانتهاك حقوق الإنسان في سوريا، ودافع عن الإدارة الكردية شمال شرق سوريا التي تدَخَّل الأتراك عسكريًّا ضدها، وردَّ عليه مندوب تركيا فريدون سينيرلي أوغلو بأن بلاده لن تتعلم حقوق الإنسان من الذين ينتهكونها.

 وأتى هذا التوجه الصيني بعد تصعيد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في ملف الإيجور، ففي 24 نوفمبر /تشرين الثاني دعا منظمة التعاون الإسلامي للتدخل في هذه القضية التي تمثل حساسية شديدة لبكين، وصرح بأنه يتابع وضع الإيجور والأقليات المسلمة الأخرى في الصين بحساسية كبيرة، كما اشترك مع 42 دولة في إصدار بيان ينتقد وضع الإيجور في الصين في 22 أكتوبر / تشرين الأول، وهي المرة الأولى التي تتخذ فيها أنقرة مثل هذا الإجراء، وتنضم إلى الحملة الغربية ضد بكين بالرغم من كونها إحدى دول مبادرة الحزام والطريق الصينية.

وتمثلت الخطوة الأقوى في انعقاد «المجلس التركي» في إسطنبول وإعلان تحويله إلى «منظمة الدول التركية» في تاريخ أقلق الحزب الشيوعي بشدة، وهو 12 نوفمبر/تشرين الثاني؛ لأن هذا اليوم يمثل ذكرى تأسيس الإيجور دولتهم الحديثة عام 1933، وكذلك إعلان استقلالهم عن الصين للمرة الثانية في نفس التاريخ عام 1944 تحت اسم «جمهورية تركستان الشرقية»، وظهر أردوغان مع حليفه رئيس حزب الحركة القومية، دولت بهجلي، أمام وسائل الإعلام بجوار «خريطة العالم التركي» التي تضمنت إقليم شينجيانج، الذي يقع اليوم داخل حدود الصين ويطالب سكانه بالانفصال.

ويعني تحول المجلس التركي من منصة رمزية إلى منظمة إقليمية مأسسة التعاون بين دوله السبع الناطقة بالتركية: تركيا، وأذربيجان، وكازاخستان، وقيرغيزستان، وأوزبكستان، وتركمانستان، وشمال قبرص، وإحياء الروح القومية التي تنادي بوحدة الشعوب التركية التي تتشارك الانتماءات العرقية واللغوية والثقافية والدينية، ومن ضمنها «الإيجور».

في مرمى الصراع الدولي

نظرًا لارتباط قضية الإيجور بالأمن القومي للصين فقد ظل مستقبل الإقليم يتأرجح وفقًا للتوازنات الدولية والعلاقة بين القوى العظمى، وكانت تلك المنطقة ساحة للتصادم بين الإمبراطوريات، فهي تقع في نهاية العالم التركي على تخوم الصين التي لجأت قديمًا لإحاطة نفسها بالسور العظيم حماية لها من غزو المغول الأتراك، ولكن في القرن الثامن عشر تعرضت تركستان الشرقية للغزو الصيني، ومنذ ذلك الحين والعلاقة مع بكين في مد وجزر، ففي فترات قوتها تُحكم سيطرتها على الإقليم، وفي فترات ضعفها ينجح أهلها في الفكاك من قبضتها، إلى أن انهارت الإمبراطورية عام 1911.

أعقب سقوط أسرة تشينج، آخر سلالة إمبراطورية صينية، ضعف سلطة بكين على الإيجور حتى عام 1933 حين اندلعت الثورة في المنطقة بدعم من الاتحاد السوفيتي، وأُعلِن عن قيام «جمهورية تركستان الشرقية»، ورغم أن هذه الجمهورية لم تدم سوى عام واحد، بعد تفاهم بكين مع الاتحاد السوفيتي وإقناعه بالتخلي عن الإيجور، لكنهم لم يتخلوا عن حلم الاستقلال، لا سيما وأن دولتهم كانت في الفترة من 1934 إلى 1941 تابعة اسميًّا للصين، لكن فعليًّا كان للاتحاد السوفيتي الكلمة العليا، وكان حاكم الإقليم المحلي، شنغ شيكاي، يعتمد على موسكو في الحصول على الدعم العسكري للسيطرة على الإقليم والبقاء في منصبه.

وساد الإقليم فترة مناخ حريات محدود انتهى في عام 1937 حين نفَّذ جوزيف ستالين، رئيس الاتحاد السوفيتي، حملة قمع سياسي ممنهجة لفرض الشيوعية، سُمِّيت بـ «التطهير الأعظم»، لكن في عام 1944 دعم الجيش السوفيتي إنشاء «جمهورية تركستان الشرقية» الثانية، واستمرت حتى عام 1949، بعد سيطرة الحزب الشيوعي بقيادة ماو تسي تونج الحليف لموسكو على بكين، فسمح السوفيت لجيش التحرير الشعبي بالسيطرة على تركستان الشرقية وإنهاء استقلالها.

واليوم يلجأ الغرب إلى تقديم الدعم الدبلوماسي إلى القضية الإيجورية في سياق التنافس الدولي مع العملاق الآسيوي، عبر الضغط على تلك المنطقة الحساسة التي تؤلمه، إلى حين التوصل إلى تسوية معه تتضمن مكاسب للطرفين ويخسر فيها الإيجور، وإلا فإن تصاعد هذا التنافس الدولي قد يعطي مزيدًا من الزخم إلى القضية بعد أن كانت بكين على وشك إفناء أصحابها عبر عملية إبادة بطيئة أطلقتها بمباركة أمريكية تم التراجع عنها لاحقًا.