تُعرف الثورات التي شهدتها دول شرق أوروبا بأنها ثورات مخملية. توحي الكلمة بالنعومة والأناقة، وسلاسة الثورة والانتقاضة. لكن تلك الكلمات قد لا تتوافق مع كل ثورات شرق أوروبا، فإن كان بعضها قد انتهى سلميًا، فالبعض الآخر قد قُمع بقسوة. لكن ربما عُرفت تلك الثورات بلقبها ذاك لأن القاسم المشترك الوحيد بين كل الثورات هو الرغبة في البعد عن المركز القديم، موسكو الشيوعية، وبداية الطواف حول مركز جديد، واشنطن.

لكن ما يعنينا هنا هو الثورة الأبرز التي تحمل لقب المخملي، فلا تُطلق كلمة الثورة المخملية إلا وتُحيل إلى ثورة تشيكوسلوفاكيا. ربما يرجع ذلك إلى أن أول من أطلق ذلك المصطلح هي ريتا كليموفا، مترجمة إنجليزية وسفيرة الجمهورية لدى الولايات المتحدة الأمريكية.

تتنافس الدول في ما بينها على أيها أقدم عمرًا من الأخرى، وكلما كانت الدولة ضاربة في القدم كان تمايزها أكبر. لكن بعض الدول تدخل منافسةً في فئة مختلفة، فئة الدول الأحدث والأصغر بين دول العالم. دولتا التشيك وسلوفاكيا تقعان معًا في المرتبة الثانية بين أصغر دول العالم، فعمرهما لم يتجاوز الثلاثين عامًا حتى عام 2022. رغم أن دولة تشيكوسلوفاكيا دولة قديمة فإن الطلاق الذي أنجب الانفصال جعل من كلتا الدولتين القديمتين دولتين أصغر وأضيق.

جمهورية تشيكوسلوفاكيا تشكلّت عقب انهيار الإمبراطورية النمساوية المجرية، عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى. لكن تلك الولادة كانت إذانًا بدخول الجمهورية في حلبة النزاعات والاحتلال. فدخلها هتلر محتلًا واجتاح أراضيها، ثم احتلها السوفييت وسيطروا عليها. وجود السوفييت ألغى كل الأحزاب المعارضة، واضطرت الأحزاب لتأسيس نفسها والاجتماع تحت اسم نواد موسيقية، حيث كانت الترخيصات تُمنح للأنشطة غير الحكومية والسياسية فقط.

الشعب لم يعد يحتمل

لكن حتى ذلك الوجود السري لم يُثمر عن رد فعل شعبي، فقد كان الناس يخشون البطش الشيوعي إذا علمت بانتمائهم لأي حزب. لكن هذا الشعب الخائف، الذي ظل مرتعبًا من إبداء أي إشارة اعتراض على السلطة الشيوعية خوفًا من الشرطة السرية، قام بثورة كاملة أدت في نهاية المطاف إلى سقوط الحزب الشيوعي.

أثمر وجود عديد من المحتلين عن تنوّع العرقيّات المكونة للجمهورية. التشيك والسلوفاك هما أكبر تلك العرقيات، يربطهما الدين واللغة والثقافة. معهما وجدت عرقيات من الألمان والهنجاريين والبولنديين ومجموعة من الروثيين. تلك العرقيات تمايزت بعد سقوط الشيوعية، لكنها كانت متوحدةً ضدها في أوان قيام الثورة.

من غير الصحيح الحكم على ثورة تشيكوسلوفاكيا بالمدة القصيرة التي استغرقتها لتحقيق مطالبها. فقد كانت الثورة تشتعل سرًا لوقت طويل قبل أن تنفجر في وجه السوفييت في النهاية. فمنذ استلاء الحزب الشيوعي على السلطة منذ عام 1948 والشعب يغلي غضبًا. خصوصًا بعد تجميد الأحزاب وإقصاء دورها وجعل وجودها شكليًا فحسب، فسُدّت كل الطرق أمام الناس للاعتراض. زاد الأمور احتقانًا سياسة القمع التي انتهجتها الحكومة الشيوعية ضد كل من ينتقد الحزب أو أفكاره.

ونشطت الشرطة السرية فأصبح الجميع خائفًا من الحديث مع الجميع. مع تدني مستوى المعيشة بشكل واضح وازدياد السخط الشعبي على هذا التدني. فوق كل ذلك كانت الدولة عاجزة عن دعم الناس اقتصاديًا، لأن الدولة نفسها كانت تعاني من انهيار اقتصادي كذلك. تُوّج كل ذلك برؤية شعب تشيكوسلوفاكيا لشعوب الدول المجاورة تُسقط الأنظمة الاستبدادية تباعًا، فأشرق الأمل في نفوسهم.

الطلاب شرارة الثورة الأولى

لهذا كان منطقيًا أن يكون الطلاب هم الشرارة الأولى لهذه الثورة. في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني 1989 نزل الطلاب إلى شوارع براغ بالآلاف. كان ذلك النزول قد سبقه نزول سابق قبل 50 عامًا. لهذا اختاروا اليوم تحديدًا لأنه إحياء لذكرى الطلاب الذي قتلتهم النازية عام 1939 خلال الحرب العالمية الثانية.

لم تتوان الشرطة السوفيتية عن تكرار سيناريو الألمان، لكن الطلاب صمدوا. أًشيع أن الشرطة قتلت طالبًا منهم، فازداد الغضب الشعبي على الشرطة. لاحقًا ثبت كذب تلك الإشاعة لكن تأثيرها كان قد وقع بالفعل. تابع الطلاب التظاهر والهتاف، فانضم لهم عدد كبير من المواطنين تباعًا. أعلن عمّال المسارح إضرابهم وانضمامهم للتظاهر مطالبين بحقوق كافة العمال.

تنوعت الأعمار والأطياف، لكن توّحد المطلب بإسقاط الحزب الشيوعي والحكومة التابعة له. وبعد مضيّ ثلاثة أيام كان أكثر من نصف مليون مواطن يقفون في ساحة فاتسلاف في براغ. ولم يكن في هذا العدد الضخم صوت يعلو في فوق صوت المطلب الأوحد، فلم يمكن للحزب ولا للحكومة تصنيف هذا التجمع، أو تقسيمه لفئات لضرب بعضهم ببعض.

وأسهم الكاتب المسرحي والناشط المنشق، فاتسلاف هافيل، صاحب مبادرة ميثاق 77 المحظورة التي طالما انتقدت الحكومة التشيكوسلوفاكية ما وضعه في السجن مرات عديدة، في صياغة مطالب واضحة للشرطة والحكومة. وبذلك التدخل صار هافيل هو بطل التشيك في غضون أسبوع واحد. بينما كانت حركة سلوفاكيا، الشعب في وجه العنف، دورًا مماثلًا في بلادها لدعم المتظاهرين.

القفز فوق جدار الخوف

اتساع رقعة التظاهرات اضطر الحكومة لاستبدال الأمين العام ميلوس جايكس. خصوصًا بعد خطابه التلفزيوني أن الاشتراكية هي الاختيار الوحيد المطروح أمام الشعوب، ودعا في نفس الخطاب الميليشيات السوفيتية من مختلف دول السوفييت للتوافد نحو براغ. لكن حتى كاريل أوربانيك، الذي حل محلّه، لم يُحدث أي فارق بالنسبة للمتظاهرين.

استغرق الأمر أسبوعين كاملين حتى بدأت الصحف الرسمية تعترف على استحياء بوجود تظاهرات ورفض للحزب الشيوعي. كانت التقارير خاضعة للرقابة وبألفاظ منتقاة، لكن ذلك زاد حنق الشعب ورفضه للحكومة، فاختاروا الإضراب العام. لم يذهب 75% من موظفي الدولة لأعمالهم.

انتهت الثورة في 29 ديسمبر/ كانون الأول من نفس العام، وقد كسرت شوكة الحزب الشيوعي. واستقال كل قادة الحزب الشيوعي في البلاد. كما تفاوضت السلطة الشيوعية مع المواطنين وأسفرت تلك المفاوضات عن تشكيل أول حكومة غير شيوعية منذ عام 1948. كما استقال رئيس البلاد، هوساك، وانتخاب أول رئيس غير شيوعي منذ 40 عامًا كاملة. ثم انسحبت القوات السوفييتة بالكامل من البلاد، وحصلت تشيكوسلوفاكيا على استقلالها الكامل عن الاتحاد السوفيتي عام 1991.

لكن النتائج الأبرز التي حصدتها الثورة كانت هي انكسار جدار الرعب والقفز فوق حواجز الخوف، وبداية إدراك أن تحدي الحكومة أمر ممكن لا مستحيل. كان لذلك التغيير النفسي أثر على كل من قاد الجمهورية لاحقًا، حتى بعد انفصالها لدولتين، فحرصوا جميعًا على تجنب وصول الأمور لمرحلة احتقان شعبي، أو انسداد طرق التعبير السلمي الديمقراطي في وجه الشعب.

الطلاق المخملي

رغم وجود الدولتين في جمهورية واحدة فإنهما لم يمتزجا في نظام سياسي يُعبر عن الدولتين. لذا حين زال حكم المحتل، وخرج السوفييت من الجمهورية عادت الأمور لأهلها. لكن لأن عاصمة الجمهورية كانت براغ، ما يعني سيطرة كاملة للتشيك على كل القرارات والمناصب المهمة. رفضت سلوفاكيا أن تبقى مقيدةً بقرارات براغ، وطالبت بمزيد من الاستقلالية في ما يتعلق بالقرارات التي تناسب شعبها.

أعلنت حكومة التشيك، حكومة الجمهورية ككل، رفض الحكم الذاتي لسلوفاكيا. واختارت بدلًا من ذلك وضع نظام فيدرالي للحكم، يقع على رأسه حاكم واحد للدولتين. تلقت تلك الدولة رواجًا بين الشعبين، خصوصًا أن الروابط القوية بينهما جعلت كلا الشعبين يرفض فكرة الانفصال، ولم يكن هناك أي خلاف سياسي أو ثقافي بينهما. لكن السياسة كانت أقوى من الشعب في النهاية، واستطاع السياسيون فرض رؤيتهم في نهاية المطاف.

انتخابات برلمانية جرت عام 1992 أسفرت عن فوز الحزب الديمقراطي في التشيك، بقيادة فاتسلاف كلاوس الذي سيصبح الرئيس الثاني لجمهورية التشيك لاحقًا. وفازت حركة سلوفاكيا الديمقراطية بقيادة فلاديمير ميسار. كلاوس كان يؤمن بضرورة الحفاظ على اتحاد البلدين، لكنه يعلم أن شعبيته تتناقص عند شعب سلوفاكيا بطبيعة الحال. أما ميسار فأراد منذ اليوم الأول الحكم الذاتي لبلاده.

بعد بضعة شهور فقط من نهاية الانتخابات أعلن ميسار أنه لن يدعم، ولن يطيع، رئيس الجمهورية، فاتسلاف هافيل، لأن رئيس الجمهورية كان يرفض استقلال سلوفاكيا. بعد ذلك الإعلان ببضعة أيام أعلن هافيل أن نسّق مع كلاوس على حدوث تقسيم سلمي لتشيكوسلوفاكيا. كان الأمر سلميًا تمامًا دون إراقة نقطة دم واحدة، لهذا عُرف تاريخيًا بالطلاق المخملي. لكن ذلك الانفصال السلمي جاء مدفوعًا بالتاريخ الطويل من إراقة الدم الوطني على يد المحتلين المتتابعين، فأراد القادة تجنبّ أن يكونوا هم السبب في إراقة دم شعب واحد على يد بعضه البعض.

الانفصال لم يكن في حدود الجغرافيا أو الحكومات فحسب، بل حتى في مصطلح الثورة المخملية نفسه. فقد قررت سلوفاكيا وصف الثورة باسم الثورة الرقيقة، بينما احتفظ التشيك بلفظ الثورة المخملية.